هو كتاب للدكتورة الأديبة الناقدة رضوى عاشور صاحبة "الطنطورية" و"ثلاثية غرناطة" و"السيدة راء" و"أثقل من رضوى" و"الطريق إلى الخيمة الأخرى" وغيرها من الروايات والكتب النقدية، وهي تهتم بالتاريخ فى رواياتها لكنى لا أختزلها إلى روايات تاريخية بل أراها شاهدة على عصور شاركت فى تكويننا النفسي والحضاري، فهى روايات للحاضر والمستقبل، تستحضر فيها المهمشين والمقهورين فى لحظات الضعف والسقوط أو سنين المقاومة والصمود.
فى الكتاب الذى بين أيدينا "لكل المقهورين أجنحة.. الأساتذة تتكلم" جمع أصدقاؤها ومريدوها كل ما كتبت من مقالات "استكمالا لدرجات الضوء القادم من شخصية رضوى عاشور، الضوء القادم من معارضة شجاعة لأوضاع ضاغطة، من بوح شخصى عن بواعثها للكتابةثم ضوؤها الذى قاوم التطبيع".
عنوان الكتاب "لكل المقهورين أجنحة" مستوحى من التراث الشعبي الإفريقي-الأمريكي، يحكى الراوي أنه فى سالف الأيام كان لكل الأفارقة أجنحة، كانوا قادرين على التحليق كالطيور "يحكى عن مجموعة من العبيد السود يعملون فى مزرعة رجل أمريكي أبيض وكان أن ولدت إحدى العاملات فلم يرحمها سائق العبيد وهى مجهدة تحمل طفلها وتريد إرضاعه، كلما حاولت الجلوس لإرضاع طفلها تلقت ضربا يحثها على العمل، وعندما تكرر الضرب نظرت إلى أكبر العبيد سنا، فأشار إليها فبرزت لها أجنحة وطارت، ثم أشار هو إلى باقى العبيد فطاروا جميعا.
هذه الحكاية الشعبية تلخص فكرة "الواقعية السحرية" للأدب الإفريقى-أميركي. لكل المقهورين أجنحة مجازية تتمثل فى كل فكرة وفعل يقاوم القهر والظلم. هذه الأجنحة هى فعل المقاومة والصمود أمام سيل جارف من القهر والظلم.
وهذا الكتاب تجسيد لمقالات رضوى عاشور فى النقد التطبيقي فى مجال الأدب والاجتماع والسياسة، حيث تقدم تعريفا للنقد وتقول "إن معنى كلمة نقد فى اللغة العربية هي تمييز الدراهم وإخراج الزيف منها، أى الفصل بين العملة الأصيلة والعملة المزيفة. و"نقد" فى اللغة العربية عكس "النسيئة" عكس المماطلة والتأجيل. فيرتبط النقد بالقيام بالشئ فى وقته، وهذه هى مهمتنا كمثقفين"(ص٧٦).
رضوى عاشور هى تمثيل لصورة المثقف كما أرادها ادوارد سعيد تقوم بدورها التوعوى، تطبق علمها على الواقع وتبدأ بالتغيير فهى من أوائل من رفضوا التطبيع من خلال لجنة الدفاع عن الثقافة القومية وهى برغم مرضها كانت من الثوار وتنتشي بهتافاتهم المنغمة ضد الفساد، كتبت مقالات عدة عن الثورة والثوار وهى فى قمة تعبها ومقاومتها لمرض شرس لايرحم.
وعندها، كما قال ادوارد سعيد، "لا مؤازرة قبل النقد" حياتها تتلخص فى مواقفها الجادة ضد الزيف والظلم والقهر و التهميش.
"لكل المقهورين أجنحة" تتناول فيه تأملات فى الرواية وهى ترى عكس السائد أن رواية "زينب" لمحمد حسين هيكل ليست أول رواية عربية تذكر "حديث عيسى بن هشام" للمويلحى١٩٠٧ و"ليالى سطيح" لحافظ ابراهيم ١٩٠٦، كبدايات للرواية العربية، وتثبت هى رواية "الشدياق والساق على الساق فيما هو الفرياق" ١٨٥٥ فى مقالتها المترجمة من اللغة الإنجليزية ثم فى كتابها "الحداثة الممكنة" كأول رواية عربية؛ لأن رواية "زينب" تحذو حذو النموذج الغربي بينما "الشدياق" و"حديث عيسى بن هشام" و"ليالى سطيح" تجدد المقامات وتتمسك بالتراث؛ لذا فهى روايات خرجت من رحم اللغة العربية، وهى ضد تهميش لغتنا العربية وفنونها وتقف ضد التيار الذى ينادي بسيادة الغرب.
ثم فى مقالة أخرى تكشف لنا العلاقة بين ادوارد سعيد، فرانز فانون وإقبال أحمد وتشرح كيف أن كتاب سعيد "صورة المثقف" مستوحى من نموذج هذين المفكرين وكيف أنهما كانا نموذجين عمليين لدور المثقف فى مجتمعه؛ فقد ترك إقبال أحمد الدراسة، كان يدرس مع سعيد فى أمريكا، لينضم للثوار فى الجزائر مثلما انضم فرانز فانون لثورة الجزائر.
صورة المثقف كما يراها سعيد لاتكتمل إلا بالطبيق العملى لما يؤمن به من أفكار، تكتمل بالاندماج مع المهمشين ومواجهة السلطة وقول الحقيقة لها، تكتمل بالمعارضة وهكذا كانت رضوى عاشور؛ فروايتها "الطنطورية" تفضح الممارسات الوحشية للعدو الصهيونى وكم القتل والهدم والاغتصابات التى أصابت الشعب الفلسطينى وقت التهجير القصري من ديارهم سنة ١٩٤٨.
ثم تعرج إلى أدب السجون فى العالم العربي واختارت أربع دول للحديث عن هذا الأدب، هى مصر والمغرب ولبنان وفلسطين، تكتب عن رواية صنع الله ابراهيم "تلك الرائحة،". تتحدث عن فوزى حبشي "معتقل كل العصور" وكيف قضى فترات متفاوتة فى تسعة معتقلات من العام ١٩٤٨ إلى ١٩٨٧. ثم تعرج إلى فلسطين، عندما تحدثت عن مذبحة صبرا وشاتيلا ١٦-١٨ سبتمبر ١٩٨٢ لم أنم ليلتي من هول ما وصفت وكيف استعانت بشهادة الكاتبة بيان نويهض الحوت وكتابها الذى وثقت فيه المذبحة من شهادة مائة وأربعين شاهدا نجوا من المجزرة، ليخرج الكتاب وثيقة تارخية شاهدة على ما حدث.
استطاعت رضوى عاشور أن تثبت للقارئ العربي والغربي عمق انخراطها وذوبانها فى القضايا القومية؛ فهى تصف نفسها "بالأستاذ الشارد" تصدح بما تؤمن به لكنه دائما ما يكون خارج السرب وضد التيار، وتطالب بالتغيير. ثم تدهشنا رضوى عاشور أستاذ ورئيس قسم الأدب الإنجليزي الأسبق فى جامعة عين شمس بعشقها وإلتصاقها باللغة العربية تقول عنها:
" أعترف أننى أتشبث باللغة العربية تشبث الغريق. وأى لغة؟ لغة قوم معجزتهم كتاب.. إن استمرارية هذه اللغة وصلابتها ومرونتها وتنوعها وثراءها وعاميتها المتفرعة منها بما قدمته للعالم من نصوص مكتوبة وشفهية، لها رسوخ المعابد المصرية القديمة وعنفوان فاعل لم يعد لهذه المعابد. هذه اللغة تمنحنى قدرا لايستهان به من الأمان. أكتب باللغة العربية وأنتمى الى تراثها الحى فينتفى اليتم، وتتبدد الوحشة"(ص٧٧).
وقد خصصت لفلسطين بابا فى كتابها، على الرغم من حضور فلسطين فى كل ما تكتبه، تحدثت عن المذبحة وعن لجنة الدفاع عن الثقافة القومية كشاهدة ( ١٩٧٩- ١٩٩٦) وكيف كانت من الرواد الذين رفضوا التطبيع وهاجمت كل محاولة تواجد إسرائيل فى معرض الكتاب، هى لم تفقد وعيها بدورها ومحيطها لحظة على الرغم من ظروف مرضها وخضوعها لرحلات العلاج المكثف.
وعندما تتحدث عن الجامعة وشجونها ومآسيها تلمس روحا أصيلة تنعى ما آلت إليه الجامعة من اعتماد الكتاب الجامعي ذي الرأي الواحد الذى "لاشريك له" على حد قولها، بينما يتم تجاهل المكتبة والمراجع، تمقت سياسة التلقين والحفظ وتطالب بتفعيل التفكير النقدى للطلاب.
هى إنسانة حقيقية لم تفقد بوصلتها لحظة، هاجمت انتحال بعض أساتذة الجامعة للبحوث. ترفض الزيف وتقاومه وتبحث عن بصيص أمل فى باحث جاد. عشقت الثورة فى الجامعة، والجامعة فى الثورة وكرهت أسوار الجامعة وبواباتها ذوات الحرس المدجج بالسلاح.
وعلى الرغم من كل هذا الوعى والعنفوان فى رفض الباطل هى تحمل روحا رومانسية مثالية، ففى مقالة "رسالة الى اوروبا" تطالب أوروبا أن تقبل بنا كأنداد لا كما اعتادت أن تنظر إلينا كثنائية السيد والعبد.
على الرغم من أنها أفضل من يعلم أن أوروبا والغرب يرانا "الآخر" المهمش، أو ربما لا يرانا ابتداء، وأن فكرة الندية هى فكرة مثالية أو حلم تحلم به من عاشت حياتها تطلب العدل وتمقت العنصرية.
كما أن فى مقالها "المقلمة" تدهشنا بكم الخيال والرومانسية والأدب والتاريخ والجغرافيا والفن وتستحضر الرسام ميرو ومزجه بين اللونين الأزرق والأصفر وتسأل المقلمة الأندلسية المعروضة فى أحد متاحف بريطانيا: كيف جئت؟ ومن اقتناك؟ أكنت لعاشق أهداك لمحبوبته؟ أم كنت لكاتب؟.
تستحضر التاريخ وتتخيل عدة روايات لكيفية وصول المقلمة إلى المتحف،تشخصها وتستحلفها أن تبوح بأسرار رحلتها الطويلة. وتكتب عن رفاقها، تحدثت عن ادوارد سعيد حديثا مطولا مزجت فيه الذاتى بالموضوعى تحدثت عن كتبه ومواقفه وشخصيته وحضوره وتحدثت عن لطيفة الزيات صاحبة رواية الباب المفتوح التى تركز فيها على تهميش المجتمع للمرأة وكيف تحررت المرأة من هذا التهميش. كتبت أيضا فى باب الرفاق عن نصر حامد أبو زيد، وفاطمة موسي أستاذتها ووالدة الدكتورة أهداف سويف، وكتبت عن الكثير مما كان لهم معها مواقف وحكايات.
المهمشون والمقهورون عندها أنواع، إما لعدوان خارجي أو داخلى، بين الاستعمار والسلطة وإما لتقاليد اجتماعية بالية، أو أن المؤسسات التعليمية تربي الأجيال تربية المقهورين، تلزمهم بالحفظ والتلقين دون تفعيل الرأى والنقد وإما من جاء بالتأويل فى زمن لايقبل إلا بالحفظ والتلقين. هى مع المقهورين والمهمشين هى صوت من لاصوت لهم وهى الجناح للمقهورين، هذه قضيتها وهمها ومهمتها.
فهى صاحبة رؤية وموقف لذا قال عنها مريدها وزوجها الشاعر مريد البرغوثي:
"ابتسامتها رأي، وموضوع خطوتها رأي، وعناد قلبها رأي، وعزلتها عن ثقافة السوق رأي، رضوى جمال رأيها ورأيها جمالها"، لذا؛ بعد وفاتها كان رفيق عمرها فى ذكراها أو ذكرى ميلادها يكتب كلمة واحدة على حسابه فى وسيلة التواصل الإجتماعي يقول: "يارضوى". ينادى عليها وكأنه يستغيث بها أن تأته أو يذهب هو إليها. يارضوى.. فهى الغائب الحاضر فى قلبه وفى قلب كل محبيها وطلابها وزملائها وكل من تعلم من مواقفها وكل من قاوم مثلها، ونحن نقول: يا رضوى كنت للمقهورين جناحا.