السبت 4 مايو 2024

البطل باقى زكى يوسف.. قاهر خط بارليف


خط بارليف

مقالات7-10-2023 | 11:33

أحمد البكرى

تطايرت الأخبار التى حملت أنباء اجتياح الجندى المصرى خط بارليف الحصين؛ فتباينت ردود أفعال قادة جيش إسرائيل ما بين باكٍ ومحبطٍ وصامت.. لكن الذهول كان هو سيد الموقف، ذهول أطاح بخيالات النشوة السّكرى بأحلام المنعة والقوة.. صاعقة  هدمت جدران الصلف الإسرائيلى الغاصب لتراب الوطن الحر، عبرت القوات المصرية، ولم يَحْمِ العدو اختباؤه خلف الحصون، فكما أهلك الله جبابرة قوم عاد بالهواء، فإنه دك تراب خط بارليف بالماء.

أصل الحكاية

تبدأ القصة فى أحد أيام مايو 1969، حين صدرت التعليمات للفرقة 19 مشاة الميكانيكية التى كانت تحت قيادة اللواء سعد زغلول عبد الكريم، بالاستعداد لعبور قناة السويس، وكان المطلوب هو تجهيز المعدات وتدريب الأفراد، بالإضافة إلى العمل على حل المشكلات التى قد تعيق عملية العبور، والتى كان أبرزها هو اقتحام الساتر الترابى الحصين، وفتح الثغرات التى تعبر القوات خلالها. وكان على رؤساء أفرع الأسلحة عمل تقارير وافية عن تجهيزاتهم وحلولهم المقترحة للتغلب على العوائق.

تمركزت الفرقة 19 مشاة على الضفة الغربية المواجهة للساتر الترابى، الذى كان تحت أعين ضباط وجنود الفرقة يراقبونه يعلو يوما بعد يوم ويتضخم ارتفاعا وعمقا. وكانوا قد بدأوا التفكير فى طرق اقتحامه والتدريب على ذلك، وإجراء التجارب منذ البدء فى بنائه مارس 1968.

وفى ليلة من ليالى صيف 1969 عقد اللواء سعد زغلول اجتماعا فى قيادة الفرقة بمنطقة عجرود شمال السويس على الضفة الغربية للقناة، لتحديد مهام الفرقة وطرح الأفكار والمقترحات وتقديم التقارير حول مشاكل العبور ووسائل التغلب عليها. 

حضر الاجتماع رؤساء أفرع الأسلحة وهم حوالى 13 ضابطاً، كان منهم المقدم باقى زكى يوسف رئيس فرع مركبات الفرقة 19، الذى استمع إلى مقترحات زملائه صامتا، وكان للمرة الأولى يسمع هذا التفصيل الشديد لقدرات العدو وطبيعة الأرض والساتر الترابي وتجهيزاته القتالية والهندسية، واستمع باهتمام إلى نشأة الساتر الترابي وتكوينه وطبيعته، ولما كان متخصصا في المركبات فلم يهتم كثيرا بتفاصيل الأبعاد والتجهيزات، بل راعته المقترحات التى قدمها زملاؤه للتغلب عليه وفتح الثغرات فيه، لحجم المعدات المطلوبة وكمّ الخسائر المنتظرة، والوقت المستنزف لفتح أي ثغرة.

السد العالى

بتأمل شديد ظل المقدم باقى يستمع إلى المناقشات المستمرة، والأفكار التى تنتقل من طرف لآخر، وهو يستدعى ذاكرته ليعود بها إلى 1964 حينما انتدب مع مجموعة من ضباط القوات المسلحة للمشاركة أعمال في السد العالى، فتذكر طرق العمل فى نقل الرمال والأحجار إلى موقع السد الذى كان عملاً تنموياً ملحمياً متكاملا.

وأخذته الذاكرة إلى جسم السد، حيث كانت مكوناته الرئيسية هى الرمل والزلط والحجر، وكان الرمل يشكل النسبة  الأكبر، حيث تصل نسبته إلى ربع مكونات جسم السد. ولمعت فى ذهنه عبقرية الوسيلة التى ابتكرها المهندسون المصريون لنقل الرمال إلى السد، فقد استعاضوا عن السيارات الناقلة حلا بديلا وسريعا، كان هو "التجريف".. وكان ذلك بواسطة طلمبات تسحب مياه النيل لتضخها بقوة اندفاع عالية إلى جبال الرمل المحيطة بموقع البناء، فتندفع المياه محملة بالرمل إلى أحواض ضخمة تم صنعها فى محيط جبل الرمل، تجمع فيها الرمال المخلوطة بالماء؛ والتى تسحبها المضخات إلى جسم السد عبر مواسير قطرها 60 سم، فتترسب الرمال هناك وتعود المياه مرة أخرى إلى مجرى النيل.

ومضت الفكرة فى ذهنه، وهو يستمع لايزال إلى المناقشات الممتدة بين ضباط الفرقة 19 فى اجتماع قيادة الفرقة، فوجد نفسه دون أن يدرى يرفع يده طالباً الإذن بالكلام.

طرح الفكرة

استغرب اللواء سعد زغلول عندما رأى المقدم باقى يطلب الكلام، فقال له: " صبرا ياباقى، فدورك في الكلام آت فلا تستعجل"، كان اللواء سعد يحدثه على اعتبار أنه مسئول عن المركبات التى ستحمل المعدات والتجهيزات والأفراد التى سيتم الاتفاق عليها بعد دراسة تقارير رؤساء الأفرع المختلفة والاستقرار على خطة وطريقة اقتحام الساتر الترابى، كان يحدثه على اعتبار أنه غير معنىّ بالتجهيزات الفنية للمهمة، ولكن المقدم باقى اشار إلى أنه يرغب في الحديث حول فتح الثغرات في جسم الساتر.

ابتسم اللواء سعد متعجبا وهو يشير إليه بالكلام.

بدأ المقدم باقى كلامه بأن الله سبحانه لمّا سمح بوجود هذا الساتر الرابض  أمام الفرقة علي حافة الضفة الشرقية للقناة مباشرة، والذى كان يراه هو وزملاؤه يعلو يوما بعد يوم بعد انتهاء انتدابه من عمله في السد العالى في 5 يونيو 1967، وعودته من هناك إلى الفرقة 19 على ضفة القناة الغربية، فإنه سبحانه وضع الحل القاهر لمنعة الساتر بكل بساطة في مياه القناة التي تنساب تحته. فمن خلال طلمبات "ماصة كابسة" عالية القدرة تثبت علي زوارق خفيفة؛ يمكن سحب مياه القناة لتنهمر علي الساتر الترابي بمدافع المياه الموجهة إلى النقاط المحددة منه لفتح ثغرات، فتتحرك الرمال بقوة الاندفاع الشديد لتسقط بثقلها مع المياه إلى القناة ذاتيا، ومع استمرار تدفق المياه علي الساتر بقوة الاندفاع الكبيرة يمكن فتح الثغرة بعمق الساتر الترابي‘ وبالعرض المطلوب للثغرة، وفى وقت أقل كثيرا من الوسائل الأخرى، بحيث يقل الوقت أكثر كلما كانت المعدات المستخدمة أقوى.

ساد صمت عميق في قاعة الاجتماع، فالأمر كان مدهشا والفكرة غريبة، والأغرب أن تصدر من ضابط مركبات غير متخصص، فخشى المقدم باقى أن يكون قد أخطأ في اقتراحه. فبدأ يشرح فكرته ويؤسس لها بما كان يراه أثناء العمل في السد، مؤكدا أن ما يزيد على10 ملايين متر مكعب تمت إزالتها بهذه الطريقة.. طريقة "التجريف".

كسر اللواء سعد زغلول الصمت الذى ساد المكان، وطلب منه شرحا تفصيليا لعملية التجريف، وما كان يحدث عند السد العالى.

فبدأ المقدم باقى بالتأكيد على أن الفكرة تتفق مع كل النظريات الهندسية، وتناسب تحقيق التجريف بأقل حجم للمعدات مع توفير كامل للقوة المستخدمة.

 فتح قائد الفرقة المجال للحوار لمناقشة الفكرة، فتبين أنه لا توجد مشكلة مبدئيا في استخدام هذه الفكرة، ولكن الملاحظة الأبرز كانت الخشية من أن تترك المياه المتدفقة أرضية الثغرات موحلة بعد الفتح أمام عبور القوات، لكن اللواء سعد اقترح أن تكون أسبقية العبور للمجنزرات المصاحبة لعناصر المشاة المقتحمة، مما يعطي الفرصة لأطقم التهذيب والتمهيد بمعالجة ما قد يظهر من مشكلات تعيق التقدم, أما الملاحظة الثانية فكانت أن الطلمبات التى استخدمت في السد العالي كبيرة الحجم وتعمل بالكهرباء لأنها مصممة علي أعمال التجريف، فكان الاقتراح بجلب طلمبات ميكانيكية أو توربينية صغيرة الحجم يسهل نقلها والمناورة بها وتأمينها وتأمين سلامة القائمين علي تشغيلها.

وأمام النتائج المحدودة للبدائل الأخرى، شعر قائد الفرقة بأهمية دراسة الفكرة. وكان النقاش قد امتد ليتجاوز منتصف الليل، غير أن اللواء سعد زغلول قام بالاتصال باللواء طلعت حسن على قائد الجيش الثالث، وعرض عليه خطوطا عريضة للفكرة، فطلب منه الحضور إلى قيادة الجيش فى الصباح.

الموافقة

في السابعة والنصف تماما كان الموعد ، فتوجه المقدم باقى بصحبة اللواء سعد إلى مقر القيادة، وفى اللقاء مع قائد الجيش شرح المقدم باقى فكرته، فأظهر انبهاره وموافقته المبدئية، واتصل بهيئة العمليات بالقاهرة، وشرح ملخص الفكرة للواء ممدوح جاد تهامى نائب رئيس هيئة العمليات، والذى كان قائدا للفرقة 19 قبل اللواء سعد زغلول، وأشار في حديثه إلى أن المقدم باقى هو صاحب الفكرة،  فقال له اللواء تهامى إنه يعرفه، وامتدح كفاءته وجديته، وطلب منه أن يرسل المقدم باقى إلى هيئة العمليات بالأمانة العامة لوزارة الدفاع في القاهرة ليلتقيه.

وبعد لقائهما شرح له الفكرة بالتفصيل، فضرب اللواء تهامى بيده على زجاج مكتبه صائحا: " يابنى هيا ماتجيش غير كده"، واتصل من فوره باللواء بهى الدين نوفل رئيس هيئة العمليات، وشرح له الفكرة بأفضل ما يكون، فطلب من اللواء تهامى أن يتوجه المقدم باقى من فوره ليلتقى باللواء جمال محمد على مدير سلاح المهندسين.

التقى المقدم باقى باللواء جمال الذى أنصت إلى شرح الفكرة باهتمام شديد، ولا شك في أن إعجاب مدير سلاح المهندسين كان مختلطا بالعجب بشكل ما، فما علاقة ضابط المركبات بالأمر، وكيف ربط بين ما حدث خلال السنوات الثلاث التى قضاها منتدبا للعمل في السد، وبين ما يمكن فعله مع الساتر الهائل، فسأله عن ضباط الإدارة الهندسية الذين كانوا منتدبين معه في فترة العمل في السد العالى ، فذكر له بعض أسماء زملائه من ضباط إدارة المهندسين، وكان منهم العقيد شريف مختار، الذى عاد بعد انتهاء انتدابه ليخدم في عمليات إدارة المهندسين، فاستدعاه ليعرض عليه الفكرة، فأبدى العقيد شريف إعجابه بها، وأنها أفضل كثيرا من الوسائل التقليدية، وطلب البدء في التجارب حولها. وفى أغلب الظن أن اللواء جمال كان يرغب في إبراز الدور الذى قام به المقدم باقى - وهو غير المتخصص - أمام العقيد شريف المتخصص وابن إدارة المهندسين، والذى كان الأولى بأن يفكر بهذا الشكل الرابط بين الخبرات السابقة والمشكلات الآنية.

انتهى اللقاء مع  اللواء جمال.. وكان الإيقاع سريعا متلاحقا، واتخاذ القرارات الفورية بمناقشة الفكرة بكل الجدية، فلم تكد تمر 24 ساعة حتى كانت الفكرة قد تمت مناقشتها وأبدى كبار القادة الرأى فيها.

 خرج المقدم باقى عائداً إلى اللواء ممدوح تهامى مرة أخرى ليخبره بنتائج اللقاء، ثم توجه  بعد ذلك إلى وزارة السد العالى قبل عودته إلى الفرقة في عجرود، وأخذ من هناك كل ما يتصل بعملية التجريف من صور ومنشورات  ومعلومات وخرائط.

وصل إلى فرقته شمال السويس حوالى السابعة والنصف مساء، ليطلب منه اللواء سعد قائد الفرقة 19 تقريراً تفصيلياً مكتوباً عن الفكرة، وأخبره بأن التقرير سيعرض على الرئيس جمال عبد الناصر خلال اجتماعه الأسبوعى مع قادة الجيش، فتسمر المقدم باقى مكانه يكتب تقريره، وبقى على حاله ساهراً حتى استدعاه اللواء سعد مرة أخرى فى العاشرة والنصف صباحاً، وكان مازال يكتب، وطلب منه سرعة الانتهاء من التقرير وكتابته على الآلة الكاتبة.

انتهى التقرير وسلمه الى قائده، فطلب منه مرة أخرى إعداد ورقة صغيرة تحوى الفكرة بشكل شديد الاختصار. 

ستة أيام مرت على طرح الفكرة والمقابلات التى أجراها المقدم باقى والتقرير الذى أعده.. ليفاجأ باستدعاء من اللواء سعد زغلول الذى طلب منه المسوّدة التى كتبها للتقرير قبل كتابته على الآلة الكاتبة، فأحضرها، ليقوم قائد الفرقة بحرقها بنفسه، ويطلب منه التزام السرية الكاملة، لأن الفكرة عرضت على الرئيس جمال عبد الناصر الذى أقرها وأصدر التعليمات بإجراء الدراسات والتجارب عليها في سرية تامة.

ستة أيام فقط..  انتقلت فيها الفكرة من رأس المقدم باقى فى اجتماع قيادة الفرقة 19 إلى إقرارها بواسطة رئيس الدولة المصرية جمال عبد الناصر مرورا بكبار قادة القوات المسلحة.. سرعة متناهية في الطرح والنقاش ودراسة الموقف وإصدار الأوامر للتنفيذ في مرحلة مصيرية!

وبعد أن كان القادة ينظرون إلى المقدم باقى على اعتبار أن تخصصه بعيد عن عمليات فتح الثغرات واختراق الساتر، وأن مهمته تأتى تالية في نقل المركبات، أعطى اللواء باقى " الطفاشة " التى فتحت بوابة مصر، حسب تعبير اللواء سعد زغلول عبد الكريم فيما بعد، وأصبح "الحجر الذي رفضه البناءون هو قد صار رأس الزاوية".  

موت ناصر

في سبتمبر 1969 كانت أولى التجارب على فتح الثغرات باستخدام طلمبة جاءت من السد العالى، وكانت كبيرة الحجم وثقيلة للغاية، فضلا عن كونها تعمل بالكهرباء، وكانت التجربة على ساتر ترابى أقامته إدارة المهندسين، ففتحت الثغرة في حوالى أربع ساعات.

أجريت بعد التجربة الأولى ما يزيد على الــ 300 تجربة استخدمت فيها طلمبات ميكانيكية تم استيرادها من انجلترا، فتحت الثغرة في ما يقرب من ثلاث ساعات وربع الساعة، ثم طلمبات توربينية جاءت من المانيا ذات قدرة نفاثة وحجم صغير ووزن خفيف وتعمل بالوقود، ففتحت الثغرة في ساعتين وربع الساعة تقريبا، وتم عمل بيان عملى في جزيرة البلاح بهذه الطلمبة الألمانية، على ساتر ترابى له نفس مكونات ساتر بارليف الرملية، ففتحت الثغرة في حوالى 3 ساعات.

بعد التجارب المتعددة صدرت التعليمات بأن التجريف هو الأسلوب الذى سيتم اتباعه في فتح ثغرات الساتر الترابى واقتحام خط بارليف، وصدرت الأوامر لكل أجهزة القوات المسلحة بالبدء في التجهيز بالمعدات وتدريب الأفراد استعدادا لعملية العبور المنتظرة، ولكن..

مات عبد الناصر وكل خطط العبور على وشك التنفيذ, فتم التأجيل إلى مرحلة آتية.

اللافت في الأمر أن مخابرات أى دولة؛ سواء كانت المخابرات الإسرائيلية أو الأمريكية أو حتى الألمانية لم تنتبه لما يحدث على أرض مصر، مضخات توربينية رهيبة القوة تم استيرادها بحجة الاستعمال الزراعى!، وللتعمية كان المستورد هو وزارة الزراعة.. تجارب بعدد هائل تمت حتى بالقرب من تحصينات العدو في جزيرة البلاح، ولم ينتبه أحد من هؤلاء إلى ما يحدث؛ حتى مستلزمات التشغيل من خراطيم ومدافع مياه.. قامت المصانع الحربية بصنعها. التعمية والتمويه والسرية كانت على درجة كبيرة من الكفاءة والقدرة.

تآكل الساتر المنيع

خط بارليف كما أجمع الخبراء العسكريون هو أقوى خط دفاعى فى التاريخ الحديث. وهو سلسلة من التحصينات الدفاعية التى عمل الصهاينة على بنائها عندما اغتصبوا سيناء الفيروز بعد حرب 1967، بهدف أساسى هو تأمين الضفة الشرقية لقناة السويس ومنع عبور أي قوات مصرية خلالها، وكان رئيس أركان الكيان الصهيونى حاييم بارليف مسئولا عن إنشائه وأشرف على كل مراحل البناء الذى سُمى باسمه، واستدعيت كبرى الشركات العالمية للتنفيذ فى مارس 1968.

 ويبدأ خط بارليف من حافة قناة السويس بعمق 12 كم داخل سيناء. ويتكون من عدة خطوط متتالية، فعلى امتداد الضفة الشرقية لقناة السويس كان الخط الأول والرئيسى ، وفي بنائه استُغلت الكثبان الرملية الطبيعية، وكثبان الرمال القديمة المتصلبة الناتجة عن حفر القناة، والرمال الناتجة عن عمليات توسيع القناة وتطهيرها، والتي كانت تجمع على الضفة الشرقية من القناة، لأن أرض غرب القناة كانت أراضٍ زراعية. وعملوا على توصيل كل هذه الكثبان ببعضها البعض، وتسويتها مع تقريبها إلى حافة القناة، لتكون ملتحمة بجسر القناة بارتفاع بلغ 22 متراً، وعمق قارب على الـ 15 متراً أو أكثر من ذلك فى بعض المناطق، ارتفع هذا العملاق على حافة القناة مباشرة بزاوية ميل تراوحت بين 45، 60، 80 درجة. يليه خطان حصينان بهما تجهيزات هندسية ومصاطب للدبابات والمدفعية، وتحتلهما احتياطيات من المدرعات ووحدات مدفعية ميكانيكية، وكل هذه الخطوط بطول 170 كم على طول قناة السويس. 

وضم خط بارليف 22 موقعا دفاعيا و26 نقطة حصينة تضم مفاتيح مواسير مصممة بحيث تحول القناة إلي جحيم؛ بسكب كميات هائلة من النابالم  والمواد المشتعلة فوق سطح القناة!

كذب قادة إسرائيل على أنفسهم حينما تراءى لهم أن هذه التحصينات قادرة على قهر إرادة أسود  مصر الذين انطلقوا من مفهوم النصر أو الشهادة، وآمنوا بأن ما أخذ بالقوة سيسترد بالقوة، فتهاوى بارليف وخطه أمام بواسل مصر مع فتح اول ثغرة بعد أقل من أربع ساعات من بدء معركة العبور.

العبور

في 5 أكتوبر 1973.. وقبل ساعات معدودة من العبور موشيه ديان وديفيد أليعازر وهما قمة السلطة العسكرية في إسرائيل، يؤكدان لجولدا مائير رئيسة الوزراء، وقبل ساعات من العبور، بأن: " محاولة عبور المصريين للقناة مستحيلة، ولو حاولوا النزول إلى قناة السويس، فربما يتغير لونها من اللون الأزرق إلى اللون الأحمر لكثرة خسائرهم".

 لم يكن قادة إسرائيل يدركون ساعتها حجم الغضب القادم من غرب القناة ليصب العار على غطرسة باتت فى لحظة مفضوحة الأكاذيب، فذهول لحظة العبور أنساهم فجأة ما روجوه عن القوة والمنعة وصخرة العظام المتكسرة، فيتبرأ ديان من خط بارليف عندما قال فى أسف المخذول: " :" إن هذا الخط كان كقطعة الجبن الهشة ". حتى حاييم بارليف نفسه عمل جاهدا على أن يغسل اسمه من الساتر عندما طلب منه أحد الصحفيين تفسيراً لما حدث للتحصينات الإسرائيلية التى انهارت بهذه السرعة المذهلة على أيدى المصريين، فأنكر بارليف نسب التحصينات إليه، وتسميتها باسمه، وقال : "إن هذه التسمية بدعة صحفية وليست تسمية رسمية"!!...
لم يدرك قادة إسرائيل أن تراب الساتر الذى يختبئون خلفه مصرى.. ولن يخذل التراب المصرى أبناءه.. فاصطدمت الأكاذيب الإسرائيلية بقسوة الواقع، وكانت الإرادة المصرية هى الصخرة التى تحطمت عليها الخيالات الصهيونية، وسلم الساتر قياده، وعاد التراب لأهله.

ففي السادسة مساء من يوم السادس من أكتوبر 1973 كانت أولى الثغرات قد فتحت، بعد بدء المعركة في الثانية وخمس دقائق ظهرا، تحت وابل منهمر من المياه، وفى العاشرة والنصف من ذات اليوم كانت ستون ثغرة تفتح ذراعيها لجند مصر، ومن السادسة حتى العاشرة، وفى تمام الثامنة والنصف مساء اليوم نفسه كان لواء مدرعا كاملا قد عبر القناة ليلحق بفرقته قبل موعد عبوره بساعتين كاملتين، سقط خلال تلك اللحظات 60 ألف متر مكعب من رمال الساتر "المنيع" إلى قاع القناة.

في ذلك الوقت كان المقدم باقى مسئولا عن المحاور الرئيسية الثلاثة لتدفق القوات في سيناء، الجدى، متلا وسدر، ولكل محور منها محاور مغذية، وكان لابد لكل محور مغذٍ ثغرة تقابله في الساتر الترابى، فالحسابات تقول بأنه لابد من 85 ثغرة في جسد الساتر لتغطى المسافة من بورسعيد وحتى السويس، مع وضع الثغرات الاحتياطية في الحسبان، فكانت الثغرات الستون التى فتحت حتى العاشرة والنصف مساء 6 أكتوبر؛ كافية لتشغيل المعابر الرئيسية للمغذيات الرئيسية للمحاور الرئيسية فعبرت القوات الرئيسية في توقيت لم يعمل له العدو أى حساب.

الزوارق تشق ماء القناة، على كل زورق ثلاث طلمبات؛ وثلاثة مدافع مياه و 10 أسود من جند مصر لا يطلبون إلا العبور أو الشهادة، والله أكبر تدوى في الفضاء لترعب المختبئين خلف الحصون.

ويقف المقدم باقى زكى يوسف وقد أصبح قائدا لفرع مركبات الجيش الثالث كله؛ ليرى بعينيه تدفق ما يزيد على 80 ألف جندى مصرى من خلال فكرته، فيالسعادته  لحظتها، وما من شك في أن سعادته كانت أجل وأكبر حينما عبر بقدميه من خلال الثغرة الأخيرة في اليوم السابع من أكتوبر 1973.
 

Dr.Randa
Dr.Radwa