الخميس 16 مايو 2024

معارك جوية خلال 17 يوما خالدة الشرارة الأولى فى الخطة بدر

الراحل محمد حسني مبارك

أخبار9-10-2023 | 11:34

فريق طيار محمد حسنى مبارك

كان الله معنا فى كل ما قمنا به، وقد ألهمنا التوفيق ذلك لأننا أتقنا التدريب قبل المعركة وبذلنا الجهد ومضينا بالوقت وقدمنا الروح فداء للوطن، لصدق تحقيق وعده تعالى  ":وكان حقا علينا نصر المؤمنين".

ومن هذا المنطلق بعد حرب أكتوبر يجب أن يستمر استعدادنا ويقظتنا وأن ندرك أن المعركة لم تنته بعد وكل ما تحقق ليس إلا مرحلة من مراحلها..

إن صراعا دام أعواما لا يمكن أن يحل فى شهور، وصراعا أخذ طابع المواجهة أربع مرات لا يمكن أن نوسده الثرى فى قفزة واحدة.

لقد عبرت أمتنا الهزيمة، وتركت خلفها ظلام النكسة وآلامها وطرحت روح اليأس بفضل ما حققته قواتها المسلحة وهى تتطلع الآن إلى مرحلة البقاء والانفتاح الاقتصادى لتساير ركب الحضارة وتطوى شقة التخلف التى فرضتها ظروف المعركة.

ولست أرى القوات المسلحة فى معزل عن جماهير هذه الأمة وهى تنطلق لتحقيق هذا الواجب، ولا شك أن لها وللقوات الجوية خاصة دورها الذى سنشارك به فى هذه المرحلة.

لقد جاء أكتوبر 1974- ذكرى النصر - الذكرى الأولى للنصر العظيم، وإيماننا بالعلم أسلوبا ونبراسا ينمو ويتطور استجابة لمتطلبات الغد.

إن دور القوات الجوية فى ملحمة النصر كان دورا بارزا ذكرته الأمه بكل فخار على كل لسان سواء فى مجلس الشعلب أو على صفحات الصحف والكتب بفضل شهدائنا الذين حملوا وحمل معهم كل المقاتلين أداء الواجب بأقصى الأداء أمانة وصدقا ولم يكن انتصار طيارينا وإحرازهم عناصر التفوق والسيادة الجوية بالانتصار السهل السريع كالذى أحرزه العدو فى يونيو 1967، بل كان انتصارا لقتال الطيار المصرى تكلفه طاقات الإبداع والاقتدار والكفاءة العالية.

إن قواتنا الجوية هى التى أطلقت الشرارة الأولى فى الخطة “بدر” وأبدع الطيارون المصريون فى استنباط أساليب قتال تكتيكية جوية بطائراتهم المقاتلة والمقاتلة القاذفة وكانت إضافاتهم إلى فنون القتال الجوى إحدى دعامات حرية السيطرة الجوية المصرية فى سماء المعركة، وقد امتلكها طيارونا...

إننى أذكر بعد أن كلفنى القائد الأعلى للقوات المسلحة الرئيس أنور السادات بقيادة القوات الجوية فى أبريل عام 1972، إننى لم أنم ثلاثة أيام متصلة إلا ساعات قليلة جدا، فظللت فى مكتبى طيلة 72 ساعة أخطط على الورق.

كان القائد الأعلى قد حدثنى حديثا عسكريا طويلا حول دور القوات الجوية فى حرب التحرير، وقال لى سيادته:

- أريد اسلوبا مختلفا فى المعركة أنا أعلم بكفاءة الطياريين الآن، وكفاءة كل الأطقم الفنية فى قواعدنا أريدك منذ هذه اللحظة أن تضع خطة جديدة هى المفاجأة كلها حين تتحدد ساعة الصفر للعدو الإسرائيلى.

خطة لا يتحقق النصر خلالها فقط  بل  تحقق أقصى حماية للقوات الجوية طيارين وطيارات وقواعد، فالمعركة ستكون طويلة وعلى قواتى الجوية أن تبقى قادرة على الاستمرار والتأثير الكافى فى جسد العدو.

وأحسست بعد أن غادرت مكتب الرئيس بحماسة المهمة وخطورتها ومسئوليتها التاريخية. ومضيت الأيام الثلاثة أفكر على الورق. ثم اجتمعت بزملائى، ووضعنا خطتنا بعد ذلك أمام القائد الأعلى، ووفقنا الله فى تطبيقها خلال حرب رمضان المجيدة بأرقى أشكالها الهجومية كفرع من فروع الخطة العامة “بدر”.

لقد استمرت حرب رمضان على مستوى الجو والبر والبحر 17 يوما متصلة ليلا ونهارا، شهدت أعنف المعارك الجوية ضراوة فى سيناء وغرب القناة والبحرين الأحمر والأبيض... أحرزنا خلالها السيادة الجوية والتفوق المطلق رغم قوة العدو، وهى قوة من ناحية الكم والكيف لا يستهان بها. وكما بدأ الطيران الحرب فهو الذى أنهاها على حد قول السيد رئيس الأركان الفريق محمد عبد الغنى الجمسى.

إن عشرات من قصص البطولة يجدها المرء فى كل قاعدة من قواعدنا الجوية. قام بها الرجال من الطيارين والمهندسين والملاحين والفنيين، وكان أداؤهم أنبل وأشرف الأداء. وقد حققوا فى النهاية أعمالا بطولية فريدة متميزة.

إن طيارا شهيدا أسقط خمس طائرات للعدو فى طلعة واحدة .

وهناك آخرون أسقط الواحد منهم ثلاث طائرات فى الطلعة الواحدة أيضا، وعشرات أسقطوا طائرتين قبل إنقضاء دقيقتين من الوقت، وبعض المعارك الجوية استمرت خمسين دقيقة، وكان عملا تاريخيا من أعمال الطيارين المصريين، بينما المقياس العالمى للطيران يتراوح بين سبع وعشر دقائق .

وفى العمل الأرضى بالقواعد الجوية أعطى الإنسان المصرى أرقى دلالات الأصالة والإرادة الحديدية والتماسك والتضحية والجرأة والشجاعة التى تفوق أى تصور على البذل والعطاء من أجل النصر.

لقد اختطف “مساعد فنى” قنبلة زمنية أسقطتها طائرات العدو أمام باب دشمة للطائرات اختطفها حتى لا تنفجر أمام الدشمة، وأخذ يعدو بها بعيدا وهو يعلم تماما أنه قد يدفع حياته فى أى لحظة تنفجر فيها القنبلة وقد حدث ذلك فعلا، وقدم المساعد البطل حياته حتى تظل الأرض سليمة أمام الدشمة والطائرات.

واستطاع المهندسون بالتعاون مع بعض مؤسسات القطاع العام إنتاج خلطات أسمنتية لسد الحفر التى تحدثها القنابل فى ممرات المطارات وكانت خلطة أسمنتية رائعة تعيد الممر إلى حالته الأولى فى ساعات قليلة.

وقبل ذلك قام القطاع العام بدور كبير وخطير حين بدأنا بناء الدشم وإنشاء المطارات الجديدة عديدة الممرات، إلى جانب قواعد الصواريخ، وكان التعاون الكبير بين مختلف أسلحة القوات المسلحة والقطاع العام أعظم النتائج الإيجابية وقد ظهرات عمليا فى حرب رمضان فلم يتعطل مطار واحد بعد قصفه بالقنابل إلا ساعات، ليعود بعدها إلى حجم كفاءته العادية.

لقد اشتركت القوات الجوية بعد قيامها بضربة السيطرة الرئيسية يوم 6 أكتوبر الساعة 2 ظهرا بأكثر من مائتى طائرة فى أعمال أخرى لها أهميتها العسكرية.

ضربت احتياطيات العدو المدرعة حين حاولت التقدم فى اتجاه قواتنا البرية وهى تحرر سيناء. ضربت زوارق العدو البحرية فى البحر الأبيض ليلا ونهارا، اشتركت فى مهام القوات الخاصة بجعل قوات الصاعقة إلى خلف خطوط العدو جنوب سيناء نهارا بطائرات الهليوكبتر وأحد طيارى هذه الطائرات أسقط الفانتوم بصواريخه وأثناء عودته إلى قاعدته، اشترك مع الدفاع الجوى فى تأمين مناطق الوطن الحيوية، وأمدت الجيش الثالث فى الظروف الصعبة التى واجهها باحتياجاته، وفى الوقت نفسه كانت تقضى على هجمات العدو الجوية، وتستطلع قواته فى العمق، وفى كل يوم تحقق مفاجأة جديدة للقيادة الإسرائيلية، بطلها المقاتل المصرى العملاق.

إننى أختتم كلمتى السريعة هذه بقول المشير أحمد إسماعيل على القائد العام فى نهاية المعركة:

- السلاح بالرجل، وليس الرجل بالسلاح.

نشر في عدد الهلال أكتوبر 2023