من خصائص المرأة المصرية أنها كانت ولا تزال ذات حساسية بالغة فيما يختص بشئون وطنها، ولازمتها هذه الحساسية وظهرت دائماً فى الوقت المناسب، حتى فى أشد أوقات المرأة المصرية تخلفاً.
فقبل أن تفتح مدارس البنات، حتى على المستوى الثانوى والابتدائى عندما كانت الأمية تتفشى بين النساء بصورة رهيبة، ولم يكن بينهن من تحظى بجانب من التعليم كبيراً كان أو صغيراً، إلا قلة من بنات الطبقات الثرية ذات القدرة على الإتيان بمربيات أجنبيات يلازمن بناتهن من صغرهن ويعلمنهن اللغات الأجنبية دون اللغة العربية لغة الوطن، ولغة الدين - حتى فى تلك الأزمنة التى كانت المصرية فيها إما تعانى من الأمية أو تتعلم اللغات الأجنبية، فقد ظهرت خصائص هذه الوطنية كلما تعرض الوطن إلى أى خطر جدي.
ففى أيام الزعيم مصطفى كامل وكان عصر الحجاب والتزمت على أقصاه فيما يختص بحياة المرأة، وبالرغم من هذه القيود الشديدة التى كانت تحول دون تحرك المرأة المصرية فى أى إطار وطنى، خرجت النساء من بيوتهن وراء دعوة مصطفى كامل، وطفن على الحكومة يجمعن توقيعات الموظفين على عرائض الاحتجاج والمطالبة بالاستقلال، وكن يثرن نخوة هؤلاء الموظفين ويدفعنهم إلى الإضراب عن العمل، كما أن كثيرات من البنات النابهات فى ذلك الوقت انخرطن فى سلك الجهاد وراء مصطفى كامل فكان يكتب لهن الخطابات الوطنية الرائعة ليلقينها فى المجامع العامة ويثرن بها الحماسة الوطنية.
وبهدوء الحركة الوطنية بعد وفاة مصطفى كامل عادت المرأة وهدأت ولزمت بيتها كما كانت من قبل، وانقطعت صلتها المباشرة بالحياتين الاجتماعية والسياسية، وكاد الرأى العام ينسى الدور العظيم الذى قامت به المرأة قبل ذلك بسنوات قليلة، ثم بدأت ثورة 1919 باعتقال الإنجليز لزعماء البلاد وعلى رأسهم سعد زغلول.
خرج المصريون جميعاً يداً واحدة ينادون بعودة الزعماء، وزوال الاحتلال وعودة الحرية والاستقلال إلى البلاد، واشتبك الشعب مع المستعمر فى معارك دامية سقط ضحيتها شبان ورجال كثيرون، وطرق الحزن أبواب البيوت وبلغ قلوب الأمهات والزوجات والأخوات، فإذا بالمرأة المصرية تنتفض مرة أخرى وتحطم أسوار الحريم وتخرج بحجابها إلى الطرقات والشوارع العامة تشارك مواطنيها فى الثورة على الظلم والطغيان.
وما زلنا نذكر هدى شعراوى وأخواتها حين انخرطن فى مظاهرة نسائية ضخمة واجهن بها رصاص الإنجليز الذين لم يتورعوا عن قتل النساء خوفاً من الأثر الذى يتركه خروجهن إلى معترك الصراع الوطنى.
ولقد سقطت فى هذه المظاهرة شهيدات كثيرات أولهن نبوية محمد من قسم الوايلى، كما ألقى القبض على كثيرات من السيدات المتظاهرات وأودعن السجون، ولم يطلق سراحهن إلا بعد أن تدخل زعماء السياسة المصريون وقدموا الضمانات الكافية، فخرجت السجينات لا ليلزمن بيوتهن كما حدث من قبل، بل ليساعدن الزعماء فى الخفاء ويقمن بأهم الخدمات للمجاهدين فى جميع أنحاء القطر المصرى.
وفى حرب سنة 1948 وهى أول اشتباك لنا مع اليهود فى فلسطين تطوعت نساء مصر قبل أن يعترف بوجودهن الاجتماعى وقبل أن يعطين حقوقٌ من أى نوع كان للمشاركة فى المعركة بجهودهن، وتطوعن عن طريق الهلال الأحمر والمنظمات النسائية الأخرى فى خدمة الجيوش المتحاربة، ووقفن كممرضات وطبيبات وعاملات وراء صفوف الجيش فى فلسطين وتعرضن لما يتعرض له الرجال فى مثل تلك الحرب.
وفى نفس الوقت تقريباً عندما اجتاحت البلاد أنواع خطيرة من الأوبئة على أثر رجوع الجيوش المتحاربة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية إلى بلادها عبر الأراضى المصرية، فقد حملوا إلينا أمراضاً انتشرت فى جميع أنحاء البلاد وقتلت أرواحاً بالآلاف ومن هذه الأمراض الخطيرة التيفود، والكوليرا، والجامبيا، وقد قامت النساء المصريات باعتراف برلمان ذلك العهد بدور رئيسى فى مكافحة هذه الأمراض وقضين الأسابيع، بل الشهور فى مخيمات أقيمت لهذا الغرض فى ربوع ريف الدلتا والصعيد لمعالجة المرضى وحماية الأصحاء.
كانت المرأة المصرية دائماً رغم القليل الذى تستمتع به، مواطنة صالحة من الدرجة الأولى بفضل ما أوتيت من حساسية وطنية بالغة تجعلها دائماً مرتبطاً بقلبها ومشاعرها بالأرض الطيبة التى عاش عليها أجدادها من قبل ولعل الحقوق السياسية والمساواة وغيرها من الخيرات التى أتتها بها ثورة 1952 جاءت بجهود المرأة على الصعيد السياسى، والدور الذى قامت به فى خدمة بلادها ويشهد بذلك دورها فى حرب 1956 أثناء الاعتداء على مصر ثم موقفها من الجرحى وأسر الشهداء بعد نكبة 1967.
هذه هى خلفية المرأة المصرية التى رأيناها تبدع فى خدمة الوطن أثناء معركة السادس من أكتوبر 1973، فقد تجلت وطنية المرأة المصرية فى أروع صورها وأخلصها وأكثرها أصالة بتقديمها أعزاءها إلى هذه المعركة، وبخدماتها العديدة لجيشنا العظيم، وبقبولها الباسل للتضحيات الجسيمة التى نجمت عن وقفتها العسكرية التى ردت إلى البلاد اعتبارها وحطمت أكذوبة إسرائيل التى لا تقهر.
كل هذه الحركات النسائية ظلت متفرقة متشعبة بعد وفاة هدى شعراوى فى ديسمبر 1947 إذ كان ينقصها وحدة الكلمة وترابط الصفوف نتيجة لوفاتها، ونتيجة للفراغ العظيم الذى تركته لعالم الزعامة، إذ لم تستطع امرأة أن تحتل مكانها، وأن تحظى من النساء والرجال بالتجلة والتقدير والحب والاحترام الذى كان لهدى شعراوى.
وكنا نراقب الحركات النسائية الناجحة ونتحسر على فقدان الزعامة التى لو وجدت لجعلت لهذه الحركات خدمة وجهودا لا تنسى أبداً.
كانت المصرية فى احتياج للزعيمة التى تجمع القلوب حولها وتنظم صفوف النساء وتنقى صفتهن الأصيلة التى سبق أن ذكرتها وهى حساسيتهن البالغة لمشاكل الوطن وقضاياه وتحولها إلى طوفان عظيم يعود على مصر بكل ما تفتقده من خير عميم.
ثم إذا بالزعيمة المنتظرة تظهر فى الميدان فى شخص أم الأبطال... جيهان السادات، هذه السيدة التى لم تفرض وجودها على أحد، ولم تدع لنفسها قيادة أو زعامة، إنما خاضت ميدان الخدمة الاجتماعية والوطنية بمحض إرادتها واختيارها وتلبية لمشاعرها الوطنية الخالصة، فإيمان جيهان السادات ببلادها والجهد المضنى الذى بذلته فى خدمة المحاربين ورعاية الجرحى.. الأيام والليالى التى كانت تقضيها فى المستشفيات مع الجرحى والمشوهين.. الإسعافات والخدمات الحيوية التى كانت تقدمها للجيش المحارب سواء أكان على صفوف القتال أم خلفه.. البساطة والطيبة مع الصلابة والقوة.. التواضع فى جلال قوة الاحتمال.. الإيمان الذى لا يأتيه شك من بين يديه ولا من خلفه بمصر وأرض مصر وأبناء مصر.
كل هذه الصفات الرائعة التى كشفت عنها معركة السادس من أكتوبر قدمت للحركة النسائية فى بلادنا الزعيمة القادرة ليس على شغل الفراغ الذى تركته هدى شعراوى فقط، بل على إتيان المعجزات فى جميع قلوب النساء وفى تنظيم صفوفهن، وفى إعداد جهودهن الإعداد الصائب فى خدمة مصر فقد كن يسرن من خلفها ويرين العجب من قدرتها على مواصلة الليل بالنهار فى خدمة الجرحى بالمستشفيات، وفى جمع الأغذية والمعدات اللازمة للترفيه عن أبنائنا من المقاتلين.
كان الرجال الملازمون لها فى هذه الآونة يتهاوون متهالكين نتيجة الجهد المضنى الذى يبذلونه فى صحبتها وهى دونهم جميعاً لا تتعب ولا تتهاوى ولا تتهالك، لم تنم من الليل إلا ساعات قليلة ومع ذلك كانت دائماً مشرقة الوجه، دائماً نشيطة الحركة متيقظة الذهن، وضربت بنفسها المثل الأعلى فى القيادة الرشيدة، وفى الزعامة المبدعة، وفى الوطنية التى لا تقبل الشك.
ولكل هذا بايعتها نساء مصر الزعامة، ولم تكن تسعى إلى ذلك أو تبتغيه واخترنها بمحض إرادتهن قائدة ومرشدة، ومثلاً أعلى، ويكفى أن نستعرض صورها مع الجرحى والمقاتلين والمشوهين والمرضى لنرى كيف تبدو الفرحة على وجوههم بلقائها والاحترام العظيم لشخصها، مما رفع من شأن الحركة النسائية وأعطى للمصرية تقديراً واحتراماً، وإيمانها بقدرتها على القيام بالجهد الوطنى الخليق بأن يرفع من شأن مصر ويزيدها عزة وقوة.
لقد كرست أم الأبطال حياتها وجهودها لخدمة بلادها، فهى بجمعية الوفاء والأمل التى تعد بها مدينة كاملة لتأهيل المعوقين من مقاتلى حرب أكتوبر، تثبت أن الجهد العظيم الذى بذلته أثناء المعركة، لم يكن فورة حماسة، إنما هو وفاء لمبادئ عظيمة عميقة الجذور فى نفسها.
لقد نقلت وكالات الأنباء فى العالم كله أنباء جهاد المصريات فى حرب أكتوبر وما بعده بقيادة جيهان السادات، وكان لهذا الكلام أثره الكبير فى التأثير على الرأى العام العالمى الذى ظل إلى ما قبل حرب أكتوبر يستهين ويستصغر شأننا ويتفكه بجهل نسائنا وعجزهن عن القيام بأى عمل مثمر.
إن العالم الآن، ينظر إلى المصرية من خلال جيهان السادات، فيرى فيها المواطنة والمكافحة والمحاربة، القديرة على الوقوف مع أكثر نساء العالم تقدماً جنباً إلى جنب، ولقد أكد هذه الحقيقة كثير من اللقاءات الصحفية العالمية التى وجه فيها لسيدة مصر الأولى مختلف الأسئلة واستطلع رأيها فى قضايا عدة، فكانت إجاباتها التى سمعها العالم الشرقى والغربى دليلاً آخر على أن المصرية من خلال الزعيمة وجدت نفسها، وأنها لن تقبل بعد ذلك أن تقف بين زوايا التقاعس، ولن ترضى بالنسيان.
ولا جدال فى أن إيمان سيدة مصر الأولى، وزعيمة النساء فى بلادنا بلا منازع بقضايا المرأة وبحقوقها، وبضرورة احتلالها المكانة اللائقة بنساء شعب يرجو أن يصبح له ذكرى فى عالم القوة الذى نعيش فيه.. سيكون الضامن الأكبر لتحقيق آمالنا فى حركة نسائية، أو فى نهضة نسائية رائعة تعالج أمراضنا القديمة، وتعوضنا عن الخسائر الجسيمة التى تكبدناها من خلال نضالنا النسائى الطويل.
وبدون شك فقد أظهرت حرب أكتوبر المرأة المصرية فى صورة من الاستعداد للتضحية والفداء، لا تقل مثقال ذرة عن وقفة الرجال المتحاربين فى مواجهة الإسرائيليين، وعادت المرأة المصرية من جديد تمارس دورها الفعال فى النضال والتضحية والفداء من أجل الوطن.. من أجل مصر العظيمة.
نشر في عدد مجلة الهلال- أكتوبر 2023