الأحد 5 مايو 2024

نصف قرن على الانتصار العظيم.. قوة وشجاعة قرار أكتوبر

مقالات9-10-2023 | 12:25

- القرار يمكن أن يكون فاصلًا وتاريخيًا بحكم ما يترتب عليه من نتائج،وقرار الحرب كان عظيمًا بالفعل 
-السادات: لا نذهب إلى الحرب دون أن يكون لدينا الاستعداد الكامل وأن تكون الحرب هي الخيار الأخير
- إعلان الحرب يعني إغلاقا كاملا للبلاد فلابد أن يكون لدينا مخزون كافٍ من المواد الغذائية والطبية
- اتخذ الرئيس قرار الحرب، بكل احتمالاته، خاصة أننا كنا سنواجه عدوا نعرفه يقينًا أن لديه السلاح النووي
- خضنا الحرب وانتصرت الإرادة المصرية وتحررت سيناء كاملة، ودافعنا عنها وسنظل إلى يوم الدين.   

حرب أكتوبر عظيمة بكل المقاييس، عظيمة باقتحام الجيش المصري خط بارليف، ذلك الخط الذي بناه وحصَّنه الجيش الإسرائيلي على الساتر الترابي لقناة السويس، وكان يُصنف عالميًّا باعتباره الأقوى والأكثر تحصينًا في التاريخ العسكري، أقوى من خط ماجينو الذي كان أسطورة الحرب العالمية الثانية؛ استطاع المقاتل المصري تدمير هذا الخط بالكامل في ست ساعات، وقبل الوصول إلى دشم بارليف أمكن لهذا المقاتل أن يعبر قناة السويس بالقوارب المطاطية وكتم مواسير النابالم تحت سطح المياه؛ وكانت كفيلة أن تجعل مياه القناة بحيرة من النيران، ثم أمكن لهم عبور الساتر الرملي وكان ارتفاعه أكثر من عشرين مترًا للوصول إلى دشم بارليف وتحطيمها وكأنها قطع من الجبن أو الزبد كما قال الرئيس السادات في بعض أحاديثه.

وأعظم ما في هذه الحرب "القرار" بخوضها، اتخاذ القرار وتكليف القيادة العامة للقوات المسلحة بتنفيذه... وفي تاريخنا الوطني، كما في التاريخ الإنساني والعالمي كله، هناك قرارات فاصلة في التاريخ، تكون الدنيا قبلها غير ما تصبح عليه بعدها، وقد عرفت مصر هذا النوع من القرارات... في القرن العشرين -مثلًا- يمكننا أن نقف أمام قرار تأميم قناة السويس في 26 يوليو 1956 الذي اتخذه الرئيس جمال عبدالناصر، وقرار العبور يوم 6 أكتوبر 1973 الذي اتخذه ووقعه الرئيس محمد أنور السادات.

القرار يمكن أن يكون فاصلًا وتاريخيًا بحكم ما يترتب عليه من نتائج، وقد يكون إيجابيًا وعظيمًا أو سلبيًا وكارثيًا، قرار الحرب كان عظيمًا بالفعل والوصول إلى اتخاذه وإصداره كان صعبا مليئا بالمجازفة والمخاطرة.. في سبيل ذلك القرار قامت عدة معارك سياسية حادة واحتاج إلى استعداد وتأهيل خاص، من المعارك السياسية ما جرى في 15 مايو سنة 1971 بين الرئيس السادات ومساعديه ومعاونيه، أطلقت عليهم الصحافة وقتها مصطلح "مراكز القوى"، وأنهم كانوا يخططون لإزاحة الرئيس، والواقع أن ذلك لم يكن إلا مبالغات صحفية وسياسية، كان هناك خلاف حاد حول الحرب، كان علي صبري نائب رئيس الجمهورية، وعدد من المسئولين يرون أننا بتنا جاهزين لخوض الحرب، بحلول ربيع سنة 1971، كان موقفهم قائما على أن استعدادنا القتالي أفضل وأن تسليحنا صار أقوى، وأن إسرائيل سوف تحصل سنة 1972 على صفقة الميراج -الطائرات الفرنسية - بما يُضيف إلى قواتهم الجوية قدرات أكبر، وأننا يجب أن نسبقهم بقرار الحرب.. الرئيس السادات كان لديه رأي آخر، وهو أن لا نذهب إلى الحرب دون أن يكون لدينا الاستعداد الكامل وأن تكون الحرب هي الخيار الأخير والوحيد، وقتها ومنذ سنة 1969 كانت الولايات المتحدة وكذلك الاتحاد السوفييتي يطرحون على مصر خيار السلام، طُرح على الرئيس عبدالناصر في موسكو، لكن عبدالناصر وجد العرض لا يليق، كان أن تتسلم مصر سيناء دون شرم الشيخ، رفع موشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلي شعار " حرب أفضل من السلام بدون شرم الشيخ"، والواضح أن الرئيس السادات قرر أن يستكشف هذا الجانب؟ ليثبت للجميع أنه لا يريد الحرب، في الوقت الذي كان يستكمل فيه الاستعداد العسكري، ولما طالت المدة الزمنية وعشنا فترة "اللاحرب واللاسلم" انتفض الطلاب في الجامعات سنة 1972 وتفهمت  الدولة هذا الغضب، ثم صدر بيان المثقفين، الذي عُرِف إعلاميًا بيان توفيق الحكيم، كان الحكيم ونجيب محفوظ في مقدمة الموقعين عليه، كان البيان يشكو من طول مدَّة اللاسلم واللاحرب وطالب البيان باتخاذ موقف حاسم وقرار حاسم بالحرب أو السلام، المشكلة أنه لم يكن متاحًا سنة 1972 أمام مصر والسادات أي منهما، لم تكن كل الأسلحة وصلتنا الاتحاد السوفييتي، ولم نكن أكملنا خطوات الاستعدادات.

وكانت هناك مشكلة حربية أخرى أمام السادات، كان لدينا عدد كبير من الخبراء العسكريين السوفييت ساهموا في إعادة تدريب وبناء قواتنا أيام حرب الاستنزاف، وكان صعبا أن نخوض المعركة وهؤلاء الخبراء وسط قواتنا،إذا حدث ذلك وحاربنا وانتصرنا فسوف يحسب النصر لهم؛ كما أن وجودهم بين القوات يجعل من حق الولايات المتحدة أن تتدخل ضدنا بشكل مباشر، كانت قضية معقدة، ولذا قرر الرئيس السادات في شهر يونيو 1972 توجيه الشكر لهؤلاء الخبراء على ضرباتهم ويطلب إنهاء مهامهم، حدثت أزمة في العلاقات بين القاهرة وموسكو بسبب ذلك غير أن الأمر انتهى بسرعة وهكذا بات القائد الأعلى في وضع يسمح له بتكليف القوات المسلحة بالتخطيط للعبور.

 أما في جانب السلام، فتكفينا مذكرات السفير أحمد أبو الغيط عن سنوات الحرب والسلام، كان وزير الخارجية السابق، أمين عام الجامعة العربية سابقًا، وقتها المساعد الأقرب للسيد حافظ إسماعيل مستشار الأم القومي للرئيس السادات، وكان حافظ إسماعيل هو قناة الاتصال بين السادات والإدارة الأمريكية، وذهب حافظ إلى أمريكا بعرض محدد للسلام، وكان رد هنري كيسنجر في يونية 1973 للحديث، في اجتماع سري، لا يمكن الدخول في هذا الموضوع والقضية نائمة، فهم السادات الموقف، وأن لا سلام بدون حرب، وباتت الحرب ضرورة، هي الحل الوحيد والممكن والمتاح أمامنا رغم قسوته.

ويخطئ مَن يتصور أن الحرب هي الشق العسكري فقط، أي جيوش مدربة ولديها السلاح والعتاد الكاسر، وخطة القتال، هناك كذلك ما يُسمى "بالجبهة الداخلية" أو الشق المدني فيها، إعلان الحرب يعني إغلاقا كاملا للبلاد لا طيران منها ولا إليها، وهذا يعني أن يكون لدينا مخزون كافٍ من المواد الغذائية "تموين" والطبية، تكفي لعدة شهور، لأن الحرب تمتد إلى سنوات.

وطبقًا لما نشره السفير أشرف غربال ، مستشار الرئيس السادات، قبل وأثناء الحرب، فإن الرئيس دعا إلى اجتماع في منزله مساء 29 أغسطس 1973 لأعضاء مجلس الأمن القومي ليحيطهم علما أن قرار الحرب بات وشيكًا جدا وأنه لا بديل عن الحرب، اعترض وزير التموين...، لأن مخزون القمح والسكر لدى الوزارة لا يكفي شهرًا، وفي هذه الحالة لن يجد رغيف الخبز الذي يقدمه للمواطن، وهكذا اعتراضات أخرى، احتياطي النقد الأجنبي لا يكفي العمل العسكري طويلًا، حضر الاجتماع د. محمود فوزي، وزير الخارجية الأشهر في زمن العدوان الثلاثي، كان وقتها نائب الرئيس، أثنى نائب الرئيس على القرار، كما أيده الفريق أحمد إسماعيل علي، القائد العام للقوات المسلحة، رغم أن ما لدينا من ذخيرة أقل بكثير مما هو متاح للجيش المعادي.

فيما بعد سألني الدكتور عبدالعزيز حجازي وزير الخزانة ثم رئيس الوزراء عن ذلك الاجتماع فقال إن ما لدينا من قمح كاد يكفي حتى نهاية أكتوبر فقط.
وسط هذا كله اتخذ الرئيس قرار الحرب، بكل احتمالاته، خاصة أننا كنا سنواجه عدوا نعرفه يقينًا أن لديه السلاح النووي، باختصار كانت هناك عشرات الاحتمالات والمحاذير يجب أن توضع في الاعتبار، منها ماذا لو تكرر معنا ما حدث في حرب سنة 1956، من تدخل بريطانيا وفرنسا ضدَّنا مساندة لإسرائيل، ماذا لو تكرر الحال عبر دول أو دولة أخرى؟!، ماذا لو طالت الحرب بأكثر مما ينبغي ولم تعد قدراتنا العسكرية والاقتصادية تحتمل ، بعض الحروب تتحول إلى نوع من الإنهاك الدائم اقتصاديًا واجتماعيًا؟!

ماذا لو أن نتائج الحرب -لا قدر الله- جاءت مخيّبة للآمال وعلى غير توقعاتنا؟
ماذا لو لم تحتمل الجبهة الداخلية ولم تتجاوب بالقدر الكافي مع الجهود الحربي؟
ثم ماذا لو جن العدو وأراد استعمال السلاح الاستثنائي؟ وقد ثبت أن رئيسة وزراء إسرائيل جولدا مائير طرح عليها وقتها أن تتجاوب مع ضرب القاهرة، ودمشق نوويا لكسر الجيش والدولة المصرية للأبد؟!
هذه الاحتمالات وغيرها كانت أمام صانع القرار وقد اتخذ قرار الحرب يوم 6 أكتوبر سنة 1973.
جاء أداء الجيش المصري عظيمًا، بأكثر مما كان يظن البعض، كان العبور قويًا وسريعًا، أذهل إسرائيل والعالم كله، كان الأداء عظيمًا وكان القرار كذلك عظيمًا.
في التاريخ العسكري المصري هي أول حرب ننتصر فيها على هذا النحو، منذ حرب إبراهيم باشا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وفي التاريخ العام سوف تظل حدثًا كبيرًا، لانتصار إرادة الأمة وفوة الجيش الوطني وأهميته.

وبقدر عظمة وقوة القرار وأهميته فإن الكثيرين لم يطالعوا نصه، وهذا ما أدى إلى حدوث بعض اللغط الإعلامي والسياسي بعد الحرب، حول مدى المعركة وأهدافها، وَمن يتابع نص القرار، يمكنه الجزم بأن القوات المسلحة أدت واجبها على أكمل وجه، كلف القرار القائد العام والقوات المسلحة بكسر وقف إطلاق النار على طول الجبهة، أي ليس في نقطة، ولا في موقع واحد كما كان يحدث أثناء حرب الاستنزاف، وكان القرار يأمر كذلك بإنزال أكبر قدر من الخسائر في معدات العدو وأفراده بما يؤدي إلى تحطيم أسطورة أن الجيش الإسرائيلي لا يقهر، وقد حدث حرفيًا، وكانت المادة الثالثة بالقرار، تحرير الأرض المحتلة على مراحل وفق مقدرات وإمكانيات القوات المسلحة، وقد تحقق ذلك بنجاح، وبهذا المعنى يمكننا القول إن الجيش في حرب أكتوبر حقق نصرا كاملًا، وأدى مهمته بكفاءة واقتدار.
أما الخلافات السياسية والفكرية التي وقعت بعد فض الاشتباك الأول، لما تم الفض الثاني سنة 1975 فهذه تدخل في مجال السياسة، ولا شأن للعملية العسكرية ولا القادة بها، هذا النقاش السياسي حول تعاملنا مع إسرائيل كان قائمًا منذ الأربعينيات وبعضه لم يحسم إلى يومنا هذا.

المهم أننا خضنا الحرب وانتصرت الإرادة المصرية وتحررت سيناء كاملة، استعدنا كل حبة رمل فيها، ودافعنا عنها ومازلنا ندافع وسنظل إلى يوم الدين.  

نشر في عدد الهلال أكتوبر 2023