أكملت حرب السادس من أكتوبر 48 عاماً من عمرها. أى أنها ستكمل نصف قرن بعد عامين من الآن. وعلينا الاستعداد للاحتفال بهذه المناسبة الضخمة والعملاقة. لأن نصف قرن على حرب التحرير الكبرى والعظمى حدث لا يتكرر فى حياة الأجيال كثيراً. بل ربما كان نادر الحدوث.
أيضاً فإن هذه المناسبة – نصف قرن على حرب السادس من أكتوبر – والتى ستهل بعد عامين، فرصة لإعلان كل ما لم يُعلن عن هذه الحرب العظيمة. فالعمليات العسكرية لا بد أن تبقى شديدة السرية. خاصة عند الدفاع عن الأوطان. ولكن نصف قرن فترة طويلة.
وعبقرية السادس من أكتوبر تكمن فى توقيته. فقد جرى يوم سبت. وهو يوم العطلة الأساسى لدى العدو الإسرائيلى. حيث تتعطل الحياة فى كل المرافق. وذلك لأسباب دينية تخصهم لا أريد الخوض فيها. لكن بالنسبة لنا نحن المصريون والأشقاء العرب خاصة فى الجبهة السورية التى شاركتنا الحرب. وكل إخواننا العرب الذين وقفوا معنا ودعمونا بكل الصور الممكنة. واعتبروا أن حربنا ليست دفاعاً عنا فقط ولكن دفاعاً عنهم أيضاً.
كان اختيار هذا التوقيت عبقرياً فى حد ذاته. وسيظل مسألة مهمة تشير إلى عمق الشخصية المصرية منذ فجر التاريخ وحتى الآن. وستظل حتى قيام الساعة هى التى تبدع لنا كل هذا.
كان الرئيس أنور السادات، رئيس مصر فى ذلك الوقت المجيد والعظيم، والقائد الأعلى لقواتها المسلحة. وصاحب القرار الذى فاجأ الدنيا كلها بما لم تتوقعه وما لم تتصوره. وكل ما تفوق حتى على قدرة الإنسان على التخيل. فقد أصبح المستحيل ممكناً. وخرجنا من بحار اليأس الذى لحقت بنا منذ الخامس من يونيو 1967، وأوشكت أن تصبح جزءاً من سلوكنا اليومى. وأصبح لدينا مصريون جدد هم المصريون الذين أبدعوا السادس من أكتوبر العظيم.
طبعاً هذا التجلى الضخم والعملاق قام به جيشنا. حامى حمانا. والمدافع عنا والحافظ لتراب الوطن. وقاهر أعداءنا. ومحقق كل انتصاراتنا. كانت الساعة الثانية وخمس دقائق هى الموعد المقدس للبيان الأول. كنا فى رمضان وكانت شوارع القاهرة وكل المدن الأخرى مزدحمة جداً. فالناس تحرص على العودة لبيوتها فى هذا الوقت حتى يكونوا وسط عائلاتهم لحظة انطلاق مدفع الإفطار. وهى لحظة جمع شمل الأسرة مع بعضها. لا تحدث إلا فى رمضان. وتُعتبر أحد مظاهر سحره الخاص بالشخصية المصرية.
أعترف أننى فى تلك الأيام البعيدة احترت طويلاً فى اختيار هذا التوقيت العبقرى والتصميم عليه. وبعد الحيرة الطويلة كان لا بد أن يهتدى الإنسان إلى ما يُنهى حيرته. لقد توقفت أمام الثانية وخمس دقائق من بعد ظهر يوم السبت السادس من أكتوبر سنة 1973. الذى يوافق العاشر من رمضان من ذلك العام.
فى هذه اللحظة انطلق البيان رقم 1 من الإذاعة المصرية ليعلن بدء العمليات العسكرية التى قام بها الجيش المصرى رداً على ما يقوم به العدو الإسرائيلى من استفزازات ومناوشات وعمليات عسكرية. فضلاً عن احتلاله لسيناء. وخُيلائه وهو يتبدى أمامنا على الضفة الشرقية لقناة السويس. وكأنه يريد أن يجرح الكبرياء الوطنى. لكنه لم يكن يعرف من هم المصريون؟ وماذا يمكن أن يفعلوا؟ وقدرتهم النادرة على عناق المستحيل. فعناق المستحيل أحد أبرز سمات الشخصية المصرية على مر العصور.
أتذكر جيداً كما لو أن هذا الحدث الذى مضت عليه 48 عاماً يقع الآن. وأعيشه لحظة بلحظة. ودقيقة بدقيقة. بل ربما ثانية بثانية. سمعت البيان عندما كنت فى ميدان التحرير. هل لاحظت معى صدفة المكان؟ فالتحرير اسم ميدان مهم فى قلب القاهرة. والتحرير كان الفعل الأكبر الذى تقوم به قواتنا المسلحة العظيمة لاسترداد الأرض المحتلة من العدو بعد تحريرها من دنس العدوان. كنت فى موقف أتوبيسات القاهرة وكانت فى ذلك الوقت البعيد حمراء اللون. وكان فى ميدان التحرير موقف للأتوبيسات التى تنطلق بالركاب من الميدان إلى كل مكان فى القاهرة المترامية الأطراف.
ما زال يرن فى أذنى عبارات: الله أكبر، وما النصر إلا من عند الله، حفظ الله لمصر جيشها، نصر جيش مصر مؤكد لأننا ندافع عن حق ولا نعتدى على أحد ونطهر أراضينا من دنس الاحتلال الصهيونى. وهو واجب وطنى مفروض على كل من يحب وطنه ومن يحترم فكرة المواطنة ومن يعتبر أن الدفاع عن الوطن فريضة لا تقل أهمية عن الفرائض التى يفرضها الدين على كل مؤمن.
إذن هناك فلسفة فى الاختيار. والأمر يقف وراءه تفكير عميق. فالهدف من الاختيار تذكير المصريين بلحظة عز ومجد مضت من تاريخهم ويجب أن تظل حاضرة فى الوجدان المصرى حتى آخر لحظة فى عمر هذا الوطن. ومصر التى اخترعت الأبدية وأبدعت الأهرامات لتقاوم النسيان وتُذكِّر الجميع بأمجادها التى مضت باعتبار أن هذه الأمجاد يمكن أن تكون نواة لعملية تكرارها. فمن صنعوا المعجزات فى فجر التاريخ قادرون على أن يستمروا فى إبداعها ما دام فى عروقهم دم يجرى وقلب ينبض.
على أن ما يجمع بين الأمرين أكثر أهمية من هذا. كانت حرب السادس من أكتوبر إبداعاً مصرياً خالصاً. أثبت فيه المقاتل المصرى أن محاولات تصدير اليأس لنا من أعدائنا لا يمكن أن تستمر. ومن المستحيل أن تنجح وأن تفرض قوانينها علينا لأن الشعب المصرى الذى اخترع الضمير وأهداه للبشرية لا يمكن أن يهان ولا يمكن أن تكسره أى قوة على الأرض.
كانت حرب السادس من أكتوبر بالتخطيط المحكم والدقيق وخطة الخداع الإستراتيجى التى لم تمكن أحداً – الأعداء قبل الأصدقاء – يستطيع أن يُخمِّن موعد الضربة الجوية الأولى ثم التفاف الشعب حول جيشه وقائده. لدرجة أن الدنيا كلها قالت أن المصريون يحاربون عدوهم. فى المقدمة جيش مصر الذى كان وسيبقى جزءاً من الوجدان المصرى. وحول جيش مصر الشعب المصرى كله.
لقد تحققت مقولة:
- عندما يصير الكل فى واحد.
لم يعد ثمة مصرى. ولكن جموع المصريين. لم يعد لدينا أفرادا. ولكن الجماهير الغفيرة التى تدون تاريخها بحب وفداء وقدرة فريدة على نسيان الذات تجلت فى المصريين فى كل الأوقات الصعبة والعصيبة.
ما من مشروع عظيم فى تاريخ هذا الوطن منذ ما قبل الميلاد وحتى الآن. إلا وكان لقوات مصر المسلحة دورٌ جوهرىٌ فيه. بل ربما كانت هى المبدع وهى الحالم بالمشروع والمنفذ له. ثم والحامى لكل ذرة فيه بعد أن يخرج إلى الوجود.
نشر في عدد الهلال أكتوبر 2023