بقلم – لواء دكتور / نصر سالم
جزى الله الشدائد كل خير.. عرفت بها عدوى من صديقى”
إن لم يكن هذا ما يقوله لسان حال الفلسطينيين الآن.. فماذا يقولون؟
لا أحسب شدائد مر بها الفلسطينيون فى قطاع غزة بعد نكبة ١٩٤٨ أكثر مما مروا به فى السنوات العشر الماضية التى شهدت انقسام الصف الفلسطينى.
ذلك القطاع الواقع فى الجنوب من السهل الساحلى الفلسطينى على البحر المتوسط على شكل شريط ضيق شمال شرق شبه جزيرة سيناء، ومساحته ٣٦٥ كم مربع، ويضم حوالى مليونى فلسطينى الآن.
لقد تنفس الفلسطينيون الصعداء بعد توقيع اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل عام ١٩٩٣، وبموجب اتفاق غزة أريحا الموقع فى ٤ مايو عام ١٩٩٤ انتقلت السلطة المدنية إلى سلطة حكم ذاتى فلسطينى.
إلى أن جاء العام ٢٠٠٦ وجرت الانتخابات الفلسطينية ورفضت فتح نقل السلطة فى قطاع غزة إلى حركة حماس التى فازت فى الانتخابات، واندلع القتال بينهما واستولت حماس على السلطة وفى أثناء سيطرة السلطة على القطاع نفذت ثلاثة أجنحة تابعة للمنظمات الفلسطينية هى «كتائب عز الدين القسام التابعة لحماس، جيش الإسلام، ألوية الناصر صلاح الدين التابعة للجان المقاومة الشعبية» عملية إغارة ضد موقع إسرائيلى، قتلت فيها ضابطا وجنديا إسرائيليا ونجحت فى خطف أسير إسرائيلى «جلعاد شاليط» واستبقته لمدة «١٩٤١» يوما أى خمس سنوات وأربعة شهور، شنت على أثرها إسرائيل هجوما على قطاع غزة اعتقلت فيه «٦٠» مسئولا فى حركة حماس منهم بعض الوزراء والنواب فى السلطة الفلسطينية، وفرضت إسرائيل حصارا صارما على القطاع مازال مستمرا حتى اليوم. وقامت بتنفيذ عمليات عسكرية ضد القطاع هى الأكثر بشاعة فى تاريخ الصراع العربى الإسرائيلى.
١ - عملية «الرصاص المصبوب» وهذا هو اسمها الإسرائيلى أما الفلسطينيون فيطلقون على ردهم عليها اسم «الفرقان»، واستمرت هذه العملية لمدة ٢١ يوما اعتبارا من ٢٧ ديسمبر ٢٠٠٨ وكانت الخسائر الفلسطينية ١٤٠٠ شهيد و٥٥٠٠ جريح وهدم وتدمير ٤٠٠٠ منزل.
واستخدمت فيها إسرائيل الفسفور الأبيض فى قصف السكان، وتم تقدير الخسائر الاقتصادية المباشرة ١,٩ مليار دولار.
٢ - عملية عمود السحاب أو «عمود الغيم» ويرد عليها الفلسطينيون بـ«حجارة السجيل» وتمت اعتبارا من ١٤ إلى ٢١ نوفمبر ٢٠١٢.
وكانت الخسائر الفلسطينية فيها ١٧٤ شهيدا و١٤٠٠ جريح و تدمير ١٠٠٠ منزل و ١٠ مستشفيات ٣٥ مسجدا و٣٠ مدرسة ٩٢ ومنشأة صناعية و١٤ مقرا أمنيا.
٣ - عملية الجرف الصامد من ٨ يوليو إلى ٢٦ أغسطس ٢٠١٤.
وكانت خسائر الفلسطينيين فيها ١٨٥٠ شهيدا منهم ٤٠١ طفل، ٢٣٨ امرأة ٧٤ شيخا أما الجرحى فقد بلغ عددهم عشرة آلاف جريح منهم ٢٨٠٥ أطفال، ١٨٢٣ امرأة، ٣٤٣ شيخا مسنا.
بالإضافة إلى تدمير ٥٢٣٨ وحدة سكنية وتضرر ٣٠٠٥ مساكن وتدمير ١٣٨ مسجدا، ٥٢ مستشفى.
• كل هذه الخسائر وأكثر دفعها الفلسطينيون من دمائهم وأموالهم وراحتهم ومستقبلهم، ولولا أن المقام مقام مصالحة ووئام لذكرت ما فعله الفلسطينيون ببعضهم البعض.. ويكفيهم ما لاقوة من جانب الإسرائيليين الذين لم يراعوا شرعا ولا عرفا ولا قانونا ويواصلون كل يوم وكل ساعة اقتطاع جزء من الأرض الفلسطينية واغتصاب -من أصحاب- فى عملية تطهير عرقى ممنهج للفلسطينيين أصحاب الأرض وكأنهم يواجهون الزيادة السكانية الفلسطينية التى تغير الميزان «الديمجرافى» لصالحهم، بعمليات القتل والإبادة ضد الشعب الفلسطينى، ولا يوجد أى ضابط أو رابط يمنع أى إسرائيلى من قتل إنسان فلسطينى، ويكفى أن يدعى أن الفلسطينى كان ينوى طعنه أو دهسة ليبرر قتله وفى غيبة أى موقف عربى داعم أو مؤثر للقضية الفلسطينية راحت دول إقليمية وعربية فى المتاجرة بالقضية بل وبالشعب الفلسطينى الذى أصبح كالمستجير من الرمضاء بالنار.
إن الشعب الفلسطينى الموجود فى قطاع غزة ويخط بأظافره فى الصخر مستقبل أطفاله الذين يولدون وسط انفجارات القنابل والصواريخ وتحت أكوام التراب التى تخلفها قصفات الإسرائيليين، له كل الحق فى الحياة الكريمة الحرة المستقلة مثله مثل كل شعوب العالم.
إن هذا الشعب الذى يتحدى كل الصعاب، لا يوجد بينه أمى واحد، فهم يصرون على التعليم وعلى التقدم العلمى وقد يفاجئ العالم يوماً بعلماء ومخترعين فى أدق العلوم يخرجون من هذا القطاع مثل الزهور التى تنبت فى الصخر، وهذا يفسر استهداف إسرائيل لمدارس الأطفال فى كل هجوم تشنه على القطاع، كما تحرص فى هجماتها دائما على تعجيز الشعب الفلسطينى إلى أقصى مدى تستطيعه، ويشهد على ذلك أعداد المعاقين نتيجة الإصابة من انفجارات القنابل والصواريخ وتهدم البيوت فوق رؤوسهم، كما تشهد عليه أيضاً تلك الأمراض الخبيثة والمستعصية التى أصيب بها الفلسطينيون جراء استخدام الإسرائيليين لأسلحة محرمة دوليا مثل الفوسفور الأبيض وقذائف اليورانيوم “الخامل” الذى لا يخلو من بعض الإشعاعات الشديدة الخطورة على المدايات المختلفة.
كل ذلك وأكثر يلاقيه الأشقاء الفلسطينيون فى صبر وألم من ظروف المعيشة السيئة مثل الانقطاع شبه الدائم للكهرباء ونقص الوقود والمواد التموينية والدواء... إلخ.
فلا العقل ولا المنطق يقبلان هذا.. ولمصلحة من يستمر هذا الانقسام فى الصف الفلسطينى.
إن المستفيد الوحيد من هذا الانقسام هى إسرائيل، التى يخرج كبار مسئوليها وأبواق دعايتها دائما على المجتمع الدولى، بأنهم هم دعاة السلام، وأن الفلسطينيين هم الارهابيون المنشقون على أنفسهم، الذين لا يكفون عن قتل بعضهم البعض، وبكل البراءة يتساءل الإسرائيليون أمام العالم.. “نحن لا نجد من نتفاوض معه.. عندما يفرغ الفلسطينيون من خلافاتهم واقتتالهم، ربما نجد من يجلس معنا على المائدة ونفاوضه”.
بل إنها لا تتوقف عن الاستيلاء على الأراضى الفلسطينية ولا عن تهويد القدس وسط صمت عالمى مطبق وانشغال عربى بمشاكل داخلية وإقليمية قد يرونها أهم من القضية الفلسطينية.
ولكن.. كما يقول الشاعر: وفى الليلة الظلماء يفتقد البدر..
وما كان لمصر وشعبها أن تجلس فى صفوف المتفرجين- لا وجدانيا ولا عاطفيا ونحن الذين تربينا ونشأنا على أن الجرح الفلسطينى هو جرحنا وألمه يعتصرنا..
“يا فلسطين التى كدنا لما كابدته
من أساً ننسى أسانا
نحن يا أخت على العهد الذى
قد رضعناه من المهد كلانا
ولا إستراتيجياً.. يصح أن نترك هذه النيران المتأججة فى جوارنا، لتأكل كل يوم قطعة من نسيجنا القومى وتباعد بيننا، وتنقص من قدراتنا الشاملة، فكان التحرك المصرى الذى لم يفقد بوصلته فى يوم من الأيام، ولا إيمانه بأن الأشقاء مهما اختلفوا فلابد من العودة إلى جادة الصواب وخاصة فى مواصلة عدو متربص، وعالم لديه من المشاغل ما يصرفه عن قضيتهم.
وكانت كلمات الرئيس عبد الفتاح السيسى أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة فى دورتها الـ ٧٢.. مناديا المجتمع العالمى بإرساء دعائم السلام فى الشرق الأوسط والعمل على “حل الدولتين” وفق حدود الرابع من يونيه عام ١٩٦٧، ومخاطبته للشعب الإسرائيلى والشعب الفلسطينى بالعمل من أجل السلام ومؤكداً على حق الشعب الفلسطينى فى إقامة دولته وعاصمتها القدس الشرقية.
ويجئ يوم الثالث من أكتوبر الحالى وتعلن حركة حماس حل لجنتها الإدارية فى قطاع غزة وتسليم حكومة الوفاق الوطنى الفلسطينى إدارة القطاع.. كثمرة لجهد مستمر لم يتوقف من جانب جهاز المخابرات العامة المصرى، لإعادة اللحمة الوطنية للفلسطينيين وتشهد شوارع قطاع غزة صور الرئيس عبد الفتاح السيسى، الذى وجه للجميع قوله:
“إن لدى إيمانا كاملا بأن الاختلافات بين مكونات المجتمع الفلسطينى، يجب أن يتم حلها داخل البيت الفلسطينى بدعم ومساندة من الأشقاء العرب مع عدم قبول تدخل أية قوى خارجية فى هذا الشأن. ولعل تجربة السنوات السابقة قد أثبتت لنا أن الجميع خاسر من الانقسام ولا مستفيد إلا القوى التى استغلت الموقف لتحقيق أهدافها فى استمرار التطرف بين بعض الفصائل الفلسطينية.
• لقد وقف الفلسطينيون على النقطة الصحيحة للبداية.. فهل يكملون المشوار؟
إن المشاكل والمصاعب المنتظر مواجهتها لن تكون سهلة، ولكن يجب ألا ينسى الفلسطينيون أن “يد الله مع الجماعة” وأن الإسرائيليين الذين تجمعوا منذ أكثر من نصف قرن من الزمان وأصروا على أن يقيموا دولتهم على الأراضى الفلسطينية، ليس أمضى عزيمة ولا أصدق حالا من شعب فلسطين.