السبت 4 مايو 2024

ملامح الحرب الباردة الجديدة

مقالات11-10-2023 | 22:19

يشهد العالم اليوم تنافسًا اقتصاديًّا وجيوسياسيًّا بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية من شأنه أن يعيد تشكيل المجتمع الدولي من جديد؛ ففي حالة أن سيطرت الصين على الاقتصاد العالمي - كما يتوقع معظم الخبراء قبل حلول عام 2030 - فقد تفقد الولايات المتحدة الأمريكية ريادتها في تقنيات المستقبل التي تربط كل شيء بشكل متزايد، وسيتم إعادة تشكيل التحالفات، وستفرض الصين قواعد لعبة جديدة.

 

في تلك المنافسة سيعتمد كل طرف على حلفائه لمواجهة الطرف الآخر، وهذا ما بدى جليًّا عقب الغزو الروسي لأوكرانيا الذي وصفه الخبراء بأنه أولى الطلقات العسكرية لحرب باردة من المرجح أن تشتعل خلال السنوات القادمة مدللين على ذلك باللقاء الذي تم بين الرئيس الصيني «شي جين بينغ»، والرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» في أوائل العام الماضي (2022) أي قبل الغزو الروسي لأوكرانيا لتشكيل تحالف ضمني بين البلدين، وأعلنا خلاله أن شراكتهما الاستراتيجية لا حدود لها.

 

كيف صعدت الصين؟

 

مع بداية الثمانينيات من القرن الماضي، اجتذبت القوة العاملة العملاقة والرخيصة الموجودة في الصين الشركات الأمريكية وبدأت البضائع المصنوعة في الصين تصل إلى أرفف البيع بالتجزئة في جميع أنحاء العالم، وأصبحت الصين مصدرًا صناعيًّا قويًّا. 

 

 خلال تلك الفترة، توافد الطلاب الصينيون على الجامعات الأمريكية لدراسة العلوم وإدارة الأعمال ثم عادوا إلى بلادهم مشبعين بالتكنولوجيا الأمريكية، ولديهم رغبة ملحة لإنشاء المشروعات الحرة، والتوجه نحو اقتصاد السوق.

 

شجع الحزب الشيوعي الصيني بقيادة الرئيس الأسبق «دينغ شياو بينغ» (1978 – 1992) الأسواق الحرة دون التخلي عن قبضته الحديدية على السلطة؛ حيث لم ينظر إلى الغرب على أنه نموذج يُحتذى به بل بالعكس اعتبر أن الديمقراطية هي الهاوية التي قضت على الاتحاد السوفيتي، وكانت النتيجة ارتكاب العديد من الممارسات القمعية ضد المواطنين.  

 

أثارت حملة القمع الانقسامات في واشنطن؛ فقد حَذَّر وزير الخارجية «جيمس بيكر الثالث» - خلال فترة إدارة جورج بوش الأب - من معاقبة الصين واقترح التوازن بين حقوق الإنسان والقيمة الاستراتيجية للصين. وعلى النقيض سعى زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ آنذاك «جورج ميتشيل»، ممثلاً عن الحزب الديمقراطي، إلى فرض عقوبات لمعاقبة الإرهاب الذي ترتكبه الحكومة ضد شعبها. 

 

رأسمالية الدولة في مواجهة اقتصاد السوق:

 

في التسعينيات شهدت الصين قفزة قوية؛ حيث ارتفعت الصادرات، وارتفع الناتج المحلي الإجمالي الصيني أربعة أضعاف تقريبًا، وتوقع الخبراء الأمريكيون بأن الصين ستتطور تدريجيًّا نحو ديمقراطية ليبرالية واقتصاد سوق حر، والجدير بالذكر أنه بعد شهرين من الهجوم الذي وقع على مركز التجارة العالمي عام 2001، أصبحت الصين عضوًا في منظمة التجارة العالمية الأمر الذي زاد من الآمال، مما دفع الممثل التجاري الأمريكي «روبرت زوليك» إلى القول بـ «أننا اتخذنا خطوة حاسمة في تشكيل نظام اقتصادي وتجاري عالمي».

 

خلال القرن الحادي والعشرين ولَّدت الأسواق الحرة الديمقراطية ثروة لا مثيل لها، ووقعت العديد من الدول النامية باستثناء الصين على «إجماع واشنطن»، وهو مصطلح لسياسة الاقتصاد الكلي على الطريقة الأمريكية إلا أن العالم شهد أزمة مالية عالمية وبدت المؤسسات الغربية ضعيفة، وانهارت أسعار العقارات، وتلاشت قيم أسواق الأسهم. 

 

تَرسَّخَ لدى الصين الاعتقاد بأن نموذجها المتمثل في الاستبداد التكنوقراطي ورأسمالية الدولة كان متفوقًا على اقتصادات السوق سيئة التنظيم وعلى الديمقراطيات الليبرالية، ومع سعي المؤسسات الغربية للبقاء عوضت الصين انخفاض الصادرات من خلال جعل الاستثمار في البنية التحتية والعقارات أولوية؛ حيث تم تأسيس مدن جديدة متصلة بواسطة سكك حديدية عالية السرعة، كما حَدَّثَت المدن القديمة في زمن قياسي؛ فعلى سبيل المثال جددت الصين جسر «سان يوان» المكون من أربع حارات في بكين في ثلاث وأربعين ساعة. 

 

خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تضاعف إنتاج الصين أكثر من ثلاثة أضعاف مما جعلها تصل إلى 41% من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة الأمريكية، وفي هذا الصدد يقول المؤلف وأستاذ الاقتصاد بجامعة كولومبيا «جيفري ساكس»: «لا شك في أن الظروف المادية للأغلبية الساحقة من الناس في الصين قد تحسنت بشكل هائل وبطريقة غير مسبوقة خلال الثلاثين عامًا التي تلت عام 1980».

 

في عام 2013 تولى «شي جين بينغ» السلطة وأعاد تشكيل النموذج الاقتصادي للبلاد حيث روج للماركسية وأدان تزايد عدم المساواة في الثروة الذي صاحب الازدهار الجديد للصين فقد اختفى الملياردير «جاك ما»؛ مؤسس Alibaba - عن الأنظار، بالإضافة إلى تقليص دور العديد من رواد الأعمال وصُنَّاع الترفيه في الصين.

 

في الوقت الذي أهدرت فيه الولايات المتحدة الأمريكية تريليونات الدولارات على صراعات الشرق الأوسط بدون جدوى، استثمرت الصين في مشروعات التكنولوجيا العالية والبنية التحتية في الداخل والخارج، كما أطلقت مبادرة الحزام والطريق الطموحة (BRI) التي جعلت الصين الممول الأساسي للبنية التحتية الحيوية وجهود التنمية في عشرات الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل في جميع أنحاء آسيا، والشرق الأوسط، وأمريكا اللاتينية، وإفريقيا.

 

ذكرت صحيفة «ساوث تشاينا مورنينج بوست» أن الصين تتفوق على الولايات المتحدة الأمريكية في القوة الشرائية، كما تجاوز الناتج المحلي الصيني نظيره الأمريكي في عام 2017 ليصل إلى 19.6 تريليون دولار، ومع ذلك أصر مكتب الإحصاء الوطني الصيني على أن الترتيب الأول في الناتج المحلي الإجمالي لا ينبغي أن يغير من مكانة الصين كأكبر دولة نامية في العالم حيث يسمح الوضع النامي للصين بالالتزام الجزئي فقط بقواعد التجارة المفتوحة لمنظمة التجارة العالمية.

 

مع انحسار وباء كورونا تدريجيًا، أصبحت الصين الآن خصمًا قويًّا يقف على قدم المساواة ضد الولايات المتحدة الأمريكية مع وجود بعض الاختلافات التي قد تحقق تفوقًا صينيًّا ملحوظًا خلال الفترة القادمة؛ فقد واجه الاقتصاد الأمريكي أعدادًا هائلة من الوفيات بسبب جائحة كورونا، وعجزًا وديونًا أكبر من أي وقت مضى. أما الصين فقد أحكمت سيطرتها على الوباء بشكل شبه كامل، وتواجه أزمة ديون، ورغم ذلك تستمر في التفوق على الولايات المتحدة الأمريكية في النمو السنوي.

 

ربما أخطأ الغرب حين اعتقد أن انضمام الصين إلى النظام التجاري والمالي العالمي سيجعلها تتبنى ببطء اقتصاد السوق وتصبح أقل سلطوية فعلى الرغم من حديث الصين عن كفاءة تخصيص السوق، إلا أنها لا تعترف إلا بنظام رأسمالية الدولة.

 

منافسة مستمرة أم مواجهة محتملة:

 

أشار جراهام أليسون؛ الأستاذ بجامعة هارفارد في كتابه الصادر عام 2017 تحت عنوان «مصير الحرب: هل تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية والصين الهروب من فخ ثوسيديدس؟» إلى أنه «ليس بالضرورة أن يؤدي صعود قوة جديدة إلى المواجهة العسكرية». 

 

تناول الكتاب ستة عشر مواجهة بين القوى الصاعدة والمهيمنة منذ القرن السادس عشر، وأفاد أن الحرب كانت النتيجة النهائية في اثني عشر حالة ورغم ذلك هناك بعض الحالات الاستثنائية التي شهدت حروبًا باردة، أبرزها على الإطلاق التنافس الأمريكي السوفيتي الذي انتهى بسقوط الاتحاد السوفيتي، وكذلك التنافس البريطاني الأمريكي، وما ترتب عليه من تفوق أمريكي ملحوظ في وقت تراجع فيه نفوذ الإمبراطورية البريطانية بعد سيطرة امتدت لعقود طويلة.

 

تسعى الصين إلى تعزيز السلام وتجنب المواجهة العسكرية؛ حفاظًا على استمرار فتح ممرات الشحن اللازمة لازدهار قوتها التجارية التي تعتبر بمثابة المعزز الأول للاقتصاد الصيني، لاسيما بعد توقيعها لاتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة مع شركائها الآسيويين في نوفمبر 2012 للضغط من أجل العضوية في الاتفاقية الشاملة للشراكة عبر المحيط الهادئ. 

 

ينتاب الولايات المتحدة الأمريكية شعورًا بالقلق من سعي الصين لتحل محلها كقوة اقتصادية وعسكرية عظمى جديدة؛ فعلى المستوى الاقتصادي دقت أجراس الإنذار في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2015 عندما قدمت الصين خطتها الجديدة للسياسة الصناعية المسماة «صنع في الصين 2025» التي تهدف إلى استخدام الإعانات الضخمة، والحوافز المالية لنقل الصين إلى الريادة في الصناعات الرئيسية في المستقبل مثل: تقنيات المعلومات، والروبوتات، والطاقة الخضراء، ومعدات الطيران، ومعدات السكك الحديدية، ومعدات الطاقة، والتكنولوجيا الحيوية، وغيرها.

 

  وفي عام 2017 قدمت الصين خطة «الجيل الجديد للذكاء الاصطناعي» التي تهدف إلى جعل الصين رائدة العالم في مجال الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030.

 

أما على المستوى العسكري تسعى الصين لبناء جيش قوي؛ حيث أضافت رؤوسًا حربية نووية إلى ترسانتها، وحسنت قدراتها على إيصالها، ووسعت من أسطول المياه الزرقاء.

 

وصفت إدارة «ترامب» الصين بالمنافس الاستراتيجي وأنها تمثل تحديًّا للنظام العالمي الساري منذ الحرب العالمية الثانية على اعتبار أنها تسعى إلى الهيمنة الإقليمية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ على المدى القريب، والتفوق العالمي في المستقبل. 

 

هذا بالإضافة إلى سعيها نحو توسيع أراضيها من خلال رغبتها في استعادة تايوان، وبالرغم من عدم الإعلان عن تشكيل أي تحالف رسمي فقد أعلن الرئيس «بايدن» دعمه الكامل لتايوان، وفي نهاية العام الماضي (2022) أقر الكونجرس الأمريكي مشروع قانون ينص على «منح مساعدات عسكرية ومبيعات أسلحة لتايوان بقيمة 10 مليارات دولار».

 

تختلف الحرب الباردة مع الصين عن نظيرتها مع الاتحاد السوفيتي؛ فالتجارة مع الاتحاد السوفيتي لم تتجاوز بضع مليارات من الدولارات سنويًا، أما الصين فهي تدير قاعدة صناعية متنوعة وتقود العالم في العديد من القطاعات، وبالتالي فإن الخطوط الأمامية للحرب الباردة الجديدة تكمن أساسًا في المجالين الاقتصادي والتكنولوجي اللذين تتفوق فيهما الصين بشكل كبير؛ ففي عام 2020، حلت الصين محل الولايات المتحدة الأمريكية كأكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي في السلع، كما ضغطت الولايات المتحدة الأمريكية على الدول الأوروبية لحظر شبكة Huawei اللاسلكية 5G، بحجة أنها تشكل خطرًا يهدد الأمن القومي، والجدير بالذكر أن بعض الدول لم تستجب للمطالب الأمريكية.

 

في ضوء ما سبق ذكره، يمكن القول إن التنافس الصيني الأمريكي سيعتمد بشكل كبير خلال الفترة القادمة على اتجاهات النمو؛ فإذا نجح الاقتصاد الأمريكي في استعادة عافيته فستستطيع الولايات المتحدة الأمريكية تحقيق التوازن والحفاظ على الوضع التنافسي الراهن. أما إذا استمرت الصين في النمو وتعثرت الولايات المتحدة الأمريكية، فستفقد الولايات المتحدة الأمريكية مزاياها الاستراتيجية وستصبح الصين أكثر حزمًا وعدوانية خاصةً فيما يتعلق باستعادة تايوان.

 

باحث بمكتبة الإسكندرية

 

Dr.Randa
Dr.Radwa