بقلم – د. محمد فتحى
جسم الإنسان يعمل كالساعة.. فهو نسيج من إيقاعات حيوية كثيرة يقودها إيقاع مايسترو يجب احترامه حتى لا يتحول عزف الأوركسترا إلى نشاز.
والإنسان لا يعيش فى الكون وحده، ولكل جسم فى الكون إيقاعاته الخاصة.. وللإيقاعات المختلفة علاقات متبادلة منذ قديم الزمان، لكن المدنية جاءت لتضيف مجموعة من الإيقاعات الاجتماعية، منها مثلا تحول جزء من ليلنا إلى نهار.. وقد تعاكس هذه الإيقاعات «المدنية» نشاط المايسترو الذى يدير جسم الإنسان وتثير الفوضى بين إيقاعات أوركستراه. إن احترام الساعات الحيوية للجسم هو الطريق الأكيد إلى الصحة والإنتاج الوفير المتميز..
تناول الكاتب الساخر محمد عفيفى فى مقال له «العلاقة الغريبة» بين نجيب محفوظ والساعة فكتب: «يستطيع جيران محفوظ أن يضبطوا ساعاتهم على مواعيد نشاطاته المختلفة.. مرة فى الصباح على لحظة خروجه من البيت.. ومرة فى المساء على اللحظة التى يضاء فيها النور فى حجرة مكتبه... أو على اللحظة التى ينطفئ فيها النور معلنًا عن انتهائه من الكتابة، فنجيب يكف فى اللحظة المحددة لذلك قبلا مهما كان عنده من الأفكار الجاهزة.. وربما حلت اللحظة وقد انتهى من السياق إلى حرف جر، فيلقى بالقلم وينهض دون أن يكتب المجرور».
ويستمر عفيفى فى تفصيل جوانب الدقة حتى يأتى إلى الطقوس الصيفية لحياة محفوظ فيقول: «وله مقعده الخاص الذى لا يتغير بجانب نفس المائدة فى نفس الركن الذى اصطفاه رجل منظم آخر هو توفيق الحكيم. فأنت تستطيع أن تضبط ساعتك أيضًا على اللحظة التى ينظر فيها إلى ساعته ويصفق طلبًا لفنجان القهوة الثاني»!
وإذا تركنا مقال عفيفى إلى مقال كتبه العقاد عن نفسه بعد الستين بعنوان «كنت شيخًا فى شبابي»، نجده يستهله مستطردًا: «فلا عجب أن أكون شابًا فى الشيخوخة»، ويقول فى طياته: «ولا أرانى صنعت معجزة أن احتفظت بهذا القسط من الشباب لأنه حظ يصيبه من شاء، وأخال طريقتى فى إصابته من أيسر الطرق فلى وقت للعمل ولى وقت للرياضة، ولى يوم فى كل أسبوع أكف فيه عن كل عمل وكل قراءة حتى مطالعة الصحف، وفض رسائل البريد، ولى مواعيد للطعام والنوم لا تختل فى يوم».
وهكذا نرى أن العلاقة الغريبة مع الساعة ليست قصرًا على واحد من كتابنا أو مفكرينا البارزين، وكان بالإمكان الاستطراد إلى أمثلة كثيرة من حياة رهط الكبار المنضبطين، أو من حياة إمامهم جميعًا إيمانويل كانط، الذى كانت حياته تمضى فى كل جوانبها على وتيرة محسوبة «بالثانية»، حتى إنه لم يخرق موعد استيقاظه على مدى ٣٠ سنة مرة واحدة! نقول كان يمكن الاستطراد لو أن استقصاء هؤلاء الجهابذة المنضبطين هو هدفنا. لكن ما نسعى إليه حقًا هو تفهم جوهر هذا الانضباط. وهل هو عادات غريبة أو مجرد اختيار؟ وإن لم يكن كذلك فما الدوافع أو الضرورات التى أوجبته؟
ولن نبذل جهدًا كبيرًا فى البحث عن أسباب هذا الانضباط حتى نرى أن العقاد الذى كان مريضًا بالصدر فى بداية شبابه قد تمكن مستعينًا بالنظام الصارم الذى فرضه على نفسه من حماية جسمه من الهلاك تحت وطأة المرض الخطير، وعاش خمسة وسبعين عامًا.. وحتى نرى أن كانط- الذى عاش ٨١ سنة- له كتابات كثيرة حول «صنعه» صحته بنفسه، حتى إنه بلغ العامين الأخيرين من حياته دون أن يعرف مرضًا، بعد أن كان سقيمًا ضعيفًا هزيل الجسد فى شبابه!.. ونرى شيئًا من هذا القبيل فى حياة جوته (٨٢ سنة) وتولستوى (٨٢ سنة) وباستير (٧٤ سنة) فنفهم أن انضباطهم كان وسيلة لمغالبة المرض والعيش فى صحة وعافية وعمر مديد.
لكن ما إن تطول رحلتنا بعض الشيء حتى ندرك أن العقاد صار واحدًا من أكبر المثقفين فى عصره، بل وفى كل عصور الثقافة العربية، وأنه لم يترك قلمه إلا قبل وفاته بأيام. أو نرى إنتاج محفوظ والحكيم. أو نرى كانط واحدًا بين أعظم الفلاسفة فى كل العصور، ونعرف أنه نسخ من الصفحات (بخط يده) أكثر مما نسخ أى إنسان آخر على الإطلاق.. أو يطالعنا النصب العملاق الذى أقامه جوته لنفسه فى حديقة الثقافة الإنسانية، أو نرى ذلك وغيره كثير فنفهم أن هذا الانضباط وسيلة يتحول معها الإنسان إلى «آلة» غزيرة الإنتاج كمًا وكيفًا.
وقد تطول جولتنا أكثر فنكتشف حقيقة ثالثة ورابعة وخامسة. لكننا لا نكون قد أصبنا سوى مظهر واحد من مظاهر جوهر أساسي، حدسه هؤلاء الجهابذة بما تمتعوا به من حس مرهف وتفكير سديد.. إذ وجدوا أن بعض مظاهر التمدن تعاند هذا الجوهر من حيث لا فرصة لنا فى معاندته، مما يعود على الإنسان بالخسران. فقرروا احترامه وتجاوز العناد، ولعل القارئ يسأل: ما هذا الجوهر وفيمَ العناد؟
هناك ناموس يحكم عالمنا هو إيقاعية ظواهره، أى تكرارها خلال آماد زمنية متساوية. وجسم الإنسان ليس استثناء من هذا الناموس. ويكفى لإيضاح ما نقول نظرة إلى عمل القلب أو الرئتين أو الدماغ.. لقد كشفت الأبحاث العلمية عن وجود آلاف مؤلفة من إيقاعات الأعضاء والأنسجة بل والخلايا، يتراوح ترددها بين جزء على ألف من الثانية (أى أنها تتكرر ألف مرة فى الثانية الواحدة) وبين ١١ سنة (تتكرر كل ١١ سنة).
ولأن جسم الإنسان وحدة متكاملة فلا بد أن تعمل الإيقاعات المختلفة فى توافق عجيب. وبالفعل وجد أن إيقاعات الكائن الحى لا تعمل خبط عشواء، وإنما تخضع لإيقاع عام يلعب دور المايسترو فى قيادتها ضامنًا ألا يتحول عملها إلى نشاز، وعرف هذا الإيقاع بالإيقاع شبه اليومى لأن تردده نحو ٢٤ ساعة. ولعل سمته الأولى هى الاتفاق مع زمن دوران الأرض حول محورها وبالتالى مع دورة الليل والنهار واليقظة والنوم. ولإيضاح طبيعة عمل هذا المايسترو نذكر على سبيل المثال أنه إذا كان الإيقاع العام لعمل القلب ٦٠ دقة فى الدقيقة فإنه يتراوح فعلا بين ٧٠ دقة نهارًا و٤٥ دقة ليلا، وإذا كان الإيقاع العام للتنفس ١٦ دورة فى الدقيقة فإنه يتراوح بين ١٨ دورة نهارًا و١٢ دورة ليلا... أى أن كل عضو ونسيج يخضع إلى جوار إيقاعه الخاص لإيقاع شبه يومي، وقد أمكن تحديد ما يقرب من ٥٠ عملية فسيولوجية فى جسم الإنسان تتعرض لتذبذبات متكررة فى دورات يومية. ويمكن تشبيه هذا المايسترو بأمين على مخزن الموارد المحدودة الموجودة لدى الجسم يصرفها ويوزعها زمنيًا بالصورة التى تمكن من التوفيق بين عمل الأجهزة، وتجنب الجسم أية اختناقات فى الموارد، ولهذا تختلف درجة نشاط أجهزة جسمنا خلال النهار والليل، ولهذا نحس فى وقت ما بالجوع وفى وقت آخر بالرغبة فى النوم، وفى وقت ثالث... .
أما علاقة جائزة نوبل بالموضوع فإنها منحت فى مطلع أكتوبر ٢٠١٧ ما اكتشفه «رهط نجيب محفوظ» بالفطرة، منحته جائزة نوبل فى الطب ممثلا فى الإنجاز العلمى الذى حققه العلماء الأمريكيون الثلاثة جيفرى هول ومايكل روسباش ومايكل يونغ، وكشف عن طريقة عمل الساعة البيولوجية فى الجسم البشري، وكيف تساعدنا فى التكيف مع حركة الأرض وتُحدث تغييرات كبيرة فى سلوكنا وطريقة عمل أجسامنا.