الإثنين 29 ابريل 2024

هل باع الفلسطينيون أراضيهم للصهاينة؟

مقالات24-10-2023 | 20:48

قبل أقل من ربع قرن، كانت الجامعات تشتعل بالمظاهرات احتجاجا على قتل الصهاينة الطفل الشهيد محمد الدرة، بدا في المشهد جنود الاحتلال وكأنهم في تدريب على إطلاق النار أو نزهة لاصطياد طائر نادر الوجود، واهتزت ضمائر الأحرار في العالم كله لجريمة نكراء، إلا من يساوون بين صاحب الأرض والمحتل الغاصب المستقوي بعالم استعماري أورثه جزءا غاليا من عالمنا العربي قبل ابتعاده مؤقتا عن المنطقة.

كنت أدرس علم التاريخ في كلية الآداب بجامعة عين شمس، وكانت بين أنشطتي الكتابة الصحفية متدربا فترة الدراسة، وإدارة نشاط طلابي جامعي متمثلا في أسرة "العروبة" التي أسستها تحت إشراف المؤرخين الكبار الأستاذ الدكتور جاد طه والأستاذ الدكتور إبراهيم جلال، فترة تألق العمل الطلابي بالكلية كلها برعاية العميد الراحل المؤرخ الأستاذ الدكتور رأفت عبد الحميد، والأستاذ الدكتور طارق منصور حفظه الله، بينما كانت ساحة الحرم الجامعي تتسع لكافة الأفكار التي ينتفض أصحابها لأجل القضايا القومية والوطنية وينتزعون حق التظاهر وتنظيم المعارض السياسية في ظل هامش من الحرية.


وقتها؛ شغلتني مع حادثة الشهيد الدرة أقاويل باطلة ترددت على ألسنة طلاب جامعيين وانتشرت بين مواطنين كثر يكررونها دون فهم أو إدراك لخطورتها أو استقصاء لمدى صحتها، مفادها أن لليهود حق تاريخي في فلسطين، وأن التاريخ المعاصر شهد عمليات بيع الفلسطينيين أراضيهم للصهاينة طواعية منذ تصريح بلفور وحتى قبيل حرب 1948 وإعلان دولتهم المزعومة على الأرض العربية المحتلة، وكأنها غاية المستسهلين الرافضين لدعم كل ذى حق دون أن يطالهم اللوم أو العتاب على مواقفهم السلبية.
كانت "أسرة العروبة" تستهدف صراحة تثقيف الطلاب ونقل خبرات و علم من سبقونا إلى الباحثين عن الحقائق، وتباعا إلى أجيال تحملها وتفهم بها ومعها المستقبل وتحدياته، ربما كان الإقبال الطلابي التقليدي على الأنشطة الفنية أعلى من غيرها، لدرجة أن ندوة تناقش "الدلالات التاريخية على عروبة أرض فلسطين" التي نظمتها الأسرة بحضور المؤرخين الكبار الدكاترة عادل غنيم وعبد العزيز نوار ومحمود عبد الظاهر و جاد طه ومعهم رئيس جبهة علماء الأزهر الدكتور محمد عبد المنعم البري، لم تحظ بحضور 20 طالبا.
في القاعة؛ أطلق أستاذ الدراسات الفلسطينية الراحل الدكتور عادل غنيم نتائج بحوثه ودراساته العلمية التاريخية المستندة إلى وثائق بشأن شائعة بيع الفلسطينيين أراضيهم للصهاينة، وقال إن أكثر من 80 % من مساحة الأراضي المباعة للصهاينة قبل العام 1948 كانت مملوكة بالكامل لعائلات و أسرات شامية وتركية، بحسب حجج ملكياتها المسجلة، والنسبة المتبقية من الأرض باتت متخللات أكره فلسطينيون على تركها تحت ضغوطات العصابات الصهيونية المسلحة المحمية بقوى الاستعمار، وأكد أن الأشقاء الفلسطينيين أبرياء تاريخيا من هذه التهمة وتؤكد تضحياتهم بأرواحهم بعد النكبة حتى الآن أنهم أكثر شعوب الأرض تمسكا بوطنهم.


المؤرخ الكبير فاجأ الحضور كله بأن حرب فلسطين عام 1948 لم تكن إلا للوجاهة الملكية في الدول العربية التي صدرت أنظمتها جيوشها "رمزيا" للمعركة، حتى أن عدد قواتها مجتمعة لم يزد عن 17 ألف جنديا في مواجهة أكثر من 70 ألف مسلح ينتمون لما تسمى بالعصابات الصهيونية والتي بدت أكثر تنظيما وتدريبا و تسلحا، حتى سقط بعض القوات العربية في حصار العدو، ثم تم ترويج شائعة الأسلحة الفاسدة على خلاف حقيقتها وقد جلبت مستعملة من تجار تحصلوا عليها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
الأستاذ الدكتور عادل حسن غنيم هو من أشرف على المئات من رسائل الدكتوراه والماجستير بالجامعات المصرية والعربية حول القضية الفلسطينية وتاريخ أطماع اليهود والصهاينة في الأرض العربية وفلسطين، وهناك عدد كبير من علمائنا تصدوا لكثير من المغالطات التاريخية التي يروج لها أقرباء قبل الأعداء وخدمة لهم عن جهل أو عمد، وتتناقلها فئة من أجيال متعاقبة لديها استعداد نفسي الآن لتقبل فكرة تهجير الفلسطينيين أو إعادة توطينهم على غير أراضيهم، وليكن المال حلا سياسيا لتحقيق إرادة مغتصب الأرض وقاتل الأطفال والنساء ضمن خطة أو تصور لإعادة تقسيم المنطقة والتلاعب بمكوناتها وفرض واقع جديد على شعوبها.


بنفس منطق أرباب الشائعات والمغالطات المستهدفة سمعة الفلسطينيين عبر التاريخ المعاصر، تتصور إسرائيل وأعوانها وداعموها أن  لكل شيء ثمن، وأولها الأرض، فلا مانع من قبول ملاحقة الشعب الأعزل وتجريم مقاومته وقتل نازحيه بعد تجويع وتعطيش وحصار يصمت عنه عالم يصف المقاوم صاحب الأرض بالإرهابي، رغم أن تشريعات دولهم الجنائية كافة تبريء القاتل متى كان المقتول لصا لقى مصيره داخل بيت استهدف سرقته، وتقضي بإعدام القاتل أو سجنه لو كان القتيل هو صاحب البيت وكانت الواقعة على أرضه وملكه.
إن الانتفاضة الإنسانية العالمية الرافضة لجرائم اغتصاب الأرض وقتل الأبرياء في فلسطين المحتلة خير دليل على وعي أحرار العالم، و نسختها الأقرب في مظاهرات الشعوب العربية والإسلامية بالمنطقة هي جرس إنذار من مصير مماثل لما يحدث للأشقاء في فلسطين، وقد أفضت أحلام أصحاب البروتوكولات إلى المزيد من التوسع في سلب الأرض العربية واستسهال جرائمهم بحق الأبرياء وسط تواطؤ مفضوح من حكومات دول كبرى.
لم يصمت الاستعمار القديم عن صنع التابعين له ولم يرض بغير تشويه ذاكرة شعوبنا ولو ابتعد عن أراضينا بجيوشه نصف قرن ترك قبلها الكيان الصهيوني شوكة في ظهر العرب كلهم، لكنه يتباهى الآن بعودته بأسلحته و عتاده للمنطقة، وقد فعلها في العراق وليبيا وسوريا، وفلسطين المحتلة أيضا داعما لتل أبيب، وسبق أن واجهنا مباشرة على أراضينا داعما لإسرائيل في بروفة حرب 1956 وحين أسقطنا أسطورة الجيش الذي لا يقهر في حرب أكتوبر المجيدة.

لنكن على وعي تام بما يحمله لنا وما تتضمنه مصطلحاته المزينة.. وشائعاته المضللة بحق أصحاب الحق.

Dr.Randa
Dr.Radwa