الخميس 26 سبتمبر 2024

مئوية الفارس النبيل

15-10-2017 | 14:43

بقلم : أشرف غريب

ولد أحمد مظهر على ظهر جواد..

هكذا كان يردد للمحيطين به و ونقلتها عنه وسائل الإعلام بعد ذلك ، وحينما سئل ذات مرة عن تفسير جملته هذه أجاب ضاحكا أن والدته كانت من هواة ركوب الخيل وأنها شعرت بآلام الولادة وهى تمتطى جوادها ، فأسرعت إلى البيت ، وبعدها بقليل أتى أحمد مظهر إلى الدنيا ، ورغم أن هذه الرواية لا يدعمها منطق الأمور ، وأن مظهر نفسه كان يخلط فى روايته بين الجد والهزل فإنها تكشف عن عمق العلاقة الخاصة بينه وبين الخيل والتى تصح أن تكون مفتاحا لفهم شخصية رجل لم يتخل يوما عن فروسيته قولا وعملا ، خلقا وسلوكا وأسلوب حياة ، لأنها أصبحت ببساطة جزءا أصيلا من نسيج تكوينه بل وعالمه كله .. أذكر أننى فى حوار لى معه نشرته الكواكب فى أكتوبر 1987 سألته عن العصر الذى كان يتمنى العيش فيه ، فأجاب دون أدنى تردد أو تفكير : عصر القرون الوسطى فى أوروبا ، عصر الفرسان والنبلاء ، حيث سادت أخلاق النخوة والشجاعة وإغاثة المحتاج ونصرة المظلوم ، هذا هو العصر الذى تمناه ، وهذه هى الأخلاق التى أراد لها أن تسود.

ويوم أن حاورته قبل ثلاثين عاما بالتمام كان حقا شابا فى السبعين من عمره ، كان شابا فى نقاء قلبه وروحه ، فى حيوية حركته ، بل وفى اتقاد ذهنه أيضا ، يومها تحدثنا فى كل شىء من أول جنكيز خان وحتى الخيار النووى وزراعة تربة القمر ، يومها كان لا يزال يمارس الفروسية خيالا ومدربا وعضوا فى لجان تحكيم مسابقاتها .. الأهم من ذلك أننى أدركت عن قرب إلى أى مدى ذابت الشخصية فى اللقب ، أو توحد اللقب فى الشخصية حتى أضحت كلمة الفارس مرادفا لاسم أحمد مظهر ، والعكس أيضا صحيح .

ففى صدر شبابه وحينما كانت مصر تعيش فى الأربعينيات ومطلع الخمسينيات أقصى فترات غليانها السياسى كان الفارس الشاب ابن العسكرية المصرية يؤمن بأن حياته تهون من أجل مبدأ يعمل له أو هدف يسعى إليه ، ومن هنا عرض نفسه للخطر أكثر من مرة عندما كان عضوا فى مجموعة الفريق عزيز المصرى ثم عضوا فى تنظيم الضباط الأحرار الذى قاد ثورة الجيش فى يوليو 1952 ، وأخلاق الفرسان هى ذاتها التى منعته من الاستفادة الشخصية من حدث تاريخى حرمته مهمة وطنية أخرى هى تمثيل مصر فى دورة هيلسينكى الأولمبية من المشاركة فيه ، وبل إنه - حتى - لم يحاول استغلال صداقته برجال الثورة أو المتاجرة بها مثل غيره ، ولو أراد لحقق الكثير فى وقت كانت فيه النخبة العسكرية تسيطر على كافة مفاصل الدولة . وحتى بعد أن ترك القوات المسلحة من أجل الفن ظل دائما يحاول أن يثبت أن بدايته اللافتة لم تكن أبدا نجاحا عابرا أو عارضا وإنما هو قادر على البقاء فى السباق حتى نهايته وتجاوز كل الحواجز التى تعترض طريقه ، وهو ما أكدته أدواره الخالدة دورا بعد آخر ، لقد أثبت الفارس الفنان قدرته الفائقة على امتطاء جواد موهبته الكامنة والوصول إلى أعلى درجات المحبة والتقدير ، فالرجل هو صاحب أهم ثلاثة أفلام تاريخية فى مسيرة السينما المصرية هى: «الناصر صلاح الدين ووا إسلاماه والشيماء» ، وهو أيضا صاحب العلامات المهمة : «دعاء الكروان ، جميلة ، القاهرة 30 ، والأيدى الناعمة ، لن أعترف ، الليلة الأخيرة ، نادية ، وإمبراطورية ميم»، وهذه العلامات وغيرها تؤكد أن النجاح لم يكن من قبيل الصدفة ، وأن المكانة التى استحقها أحمد مظهر بين ممثلى السينما المصرية هى عبارة عن ذلك الرصيد المتراكم من العلامات البارزة فى مسيرة فن السينما.

أما وأن أحمد مظهر كذلك سياسيا وفنيا ورياضيا أفلا يستحق أن تلتفت كل الجهات المعنية بالفن والثقافة والإعلام إلى الاحتفال بمئوية ميلاده (مولود فى الثامن من أكتوبر 1917 ) وإعطاء الرجل القدر الذى يستحقه من الاهتمام والتنوير على مشواره الثرى والعطاء الغزير الذى قدمه لهذا البلد ؟! ولولا انتباه مهرجان الإسكندرية السينمائى فى دورته الحالية لمئوية أحمد مظهر لغاب ذكر اسم الفارس النبيل فى مناسبة مئويته ، ما هذه الانتقائية والعشوائية فى الاحتفاء برموزنا ؟ أو ما هذا الجهل بقيمة هؤلاء الرموز ؟ لقد مرت خمسينية رحيل محمد فوزى العام الماضى ومئوية ميلاد يحيى شاهين قبل أشهر - على سبيل المثال لا الحصر - دون التفات أو اهتمام ، وسوف تأتى مناسبات أخرى قريبة وأجزم أن أحدا لن يلتفت لها إما جهلا أو عمدا أو سهوا ، وأتصور أنه لا بد أن تكون هناك أجندة رسمية يعدها - مثلا - مركز دعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء بصورة مسبقة قبل بداية كل عام تكون هادية ومرشدة لكافة الجهات المعنية من أجل عدم إغفال حق هؤلاء الرموز - أيا كانت تخصصاتهم - فى الاحتفاء بعطائهم الإنسانى النبيل ، ورحم الله الناقد الكبير سمير فريد الذى كان يفعل ذلك بجهد شخصى منه حينما كان مشرفا على برنامج النشاط السينمائى بمكتبة الإسكندرية ، ورحم الله أيضا فارسنا النبيل أحمد مظهر فى مئوية ميلاده .