الأربعاء 26 يونيو 2024

القصيدة العربية بين المطرقة والسندان

20-2-2017 | 19:41

أحمد عنتر مصطفى - شاعر مصري

  الشعر هو فن العربية الأول؛ وهو كما قيل عنه: ديوان العرب؛ وهو من فنون القول والسماع؛ أي أنه يعتمد على اللسان مؤديا وعلى الأذن متلقيا؛ وقد أثير لغط وجدال حول ما إذا كان العرب يعرفون الكتابة أم لا؛ وكان البعض قد فهم لفظ الجاهلية، فهما ضيقا، وأجحف في حقّها، فقالوا: إنّ العرب لم تعرف الكتابة، ولا القراءة، ولا العلوم، وغاب عن أذهانهم أن لفظ الجاهلية أطلق عليها من منظور دينيّ، حيث الجهل بتوحيد الله والإيمان به، والجهل بالديانات السّماوية، فالأمّية التي وسمها بها القرآن الكريم أُمية في الدين والسلوك؛ والجهل الذي ألصق بأهلها؛ هو ما عناه شاعرهم عمرو بن كلثوم في معلقته؛ حيث يحذر ويُنذر ويتوعد:

ألا لا يَجْهَلنْ أَحَدٌ علينا/ فنجهل فوق جهلِ الجاهلينا

   وهناك إجماع لدى الكثير من الباحثين والدارسين أنّ عرب الجاهلية لم يكونوا أهل كتابة، حيث فضلوا عليها البيان والفصاحة وبديهة اللسان؛ ولم تكن الكتابة عندهم نادرة كما يميل أو يذهب البعض، فهم كانوا يكتبون بينهم العقود والمواثيق، ويكتبون الرسائل في بعض الأحوال، ويبدو أن الشعراء أيضا كانوا يدونون أشعارهم أيضا، وقد قيل في التعريف بالمعلقات أنها كُتِبَت على القباطي المُذَهبة وعُلِّقَت على أستار الكعبة؛ ومع أنّ الكتابة كانت معروفة في الجاهلية، فإنها لم تكن مألوفة، وخصوصا في البادية، ولعلّ من أسباب ذلك ما فرضته طبيعة الحياة الجاهلية، من تنقل وترحال، واشتغال بالتجارة.

   وجاء القرآن يحاكي العرب بما يفهمونه ويعرفونه، فذكر القلم والكتاب، والألواح، والآيات التي تدلل على هذا كثيرة في القرآن الكريم؛ وما كان الله ليخاطب قوما بشيء لا يعرفونه، فقال تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" (العلق)، وما كان التنويه السماويِ للقراءة عموما لو لم تسبقها كتابة؛ وحرصا على توثيق العلاقات الإنسانية وتقنين المعاملات التجارية وحفظا للحقوق نزل القرآن الكريم حاضّا على تدوين الأمور المهمة، كتوثيق المعاملات صَوْنا لحقوق العباد، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ" (البقرة: 282).

   ويرى الدكتور ناصر الدين الأسد أن الآية الكريمة: "وقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَة وَأَصِيلا" (الفرقان: 5) تُبين عن أنّ بعض الجاهليين كانوا يدوّنون الأخبار والقصص والتاريخ، وأنّ هناك من كان يملي هذه الموضوعات. وكما أقسم القرآن بالشمس والقمر والتين والزيتون أقسم بالقلم: "نون  والقلم وما يسطرون". إذ كان  لديهم أنواع من الأقلام؛ ومن يرجع إلى كتب الأدب العربي والتراث سيطالع أيضا ذكر أنواع مختلفة من الخطوط العربية القديمة.

   ولما كان الشعر فن قوْليا يرتبط بالإلقاء والإنشاد؛ كانت الأذن العربية سبَّاقة إلى اكتشاف الإيقاعات النغمية للكلمة ومنطوقها. ومن المعروف أن الخليل بن أحمد، واضع ميزان الشعر العربي وعروضه، التقط إيقاعات البيت الشعري من خلال إيقاعات سير الإبل، كما جاء في إحدى الروايات، أو من طَرقات الحدَّادين فى أحد الأسواق، حين واكب ذلك ترنمه بإحدى القصائد، فجاء إيقاع أبياتها الشعرية موافقا لتلك الطرقات، كما تزعم رواية أخرى. وقبل أن يضع الخليل عروض الشعر، كان هناك من يتغنى بالشعر- موزونا - في أسواق عكاظ بالجاهلية، وقد عرف العرب الغناء بمصاحبة الآلات الموسيقية قبل الإسلام، عن طريق الفرس والروم، وكانت القوافل التجارية في رحلاتها إلى الشام وحدود فارس تجلب بعض المغنِّيات، في ما تنقله أيضا من التأثرات بالحياة الفارسية والبيزنطية.

عرف العرب فنون الغناء والموسيقى كسائر الشعوب. واهتموا بها كغيرهم، ولما كان الشعر فنهم الأثير فقد ارتبطت الكلمة باللحن، حتى لو كان بسيطا يأتي فى صورة الحداء أو المونولوج العفوي الذاتي خلال التنقل والترحال، ويبدو أن الحُداء كان غناء شعبيا عاما للعرب فى العصر الجاهلي، يغنون به إبلهم فى مسيرهم  ورحيلهم، وقد اقترن به من بحور الشعر؛ بحر خاص معروف هو "بحر الرجز" وهذا الوزن لم يكن خاصا بالحداء، بل كان يستخدم أيضا فى السقى من الآبار، كما كان يستخدم فى الحماسة والحروب، وقد جعله هذا الاستخدام الواسع ينفصل عن بقية الأوزان القديمة بضروب كثيرة من التجزئة والتعديل فى شتى صوره وأهمها المشطور والمنهوك.

وهنا نلفت النظر إلى أن العلاقة الوثيقة بين الشعر والموسيقي ليست وقفا على القصيدة العربية؛ حتى لو كانت الموسيقى – ممثلة في إيقاعات البحور الخليلية – واحدة من مقومات هذه القصيدة؛ إنما يحدث ذلك في إطار رؤية ترسخ لطبيعة أن تقوم بين الفنون كلها علاقات متبادلة دقيقة ورهيفة ما يزيدها خصوبة وعطاء. وفي الشعر العربي على وجه الخصوص؛ والشعر بصفة عامة بحكم طبيعته الفنية؛ ليس من الصعب على أى إنسان أن يربط لأول وهلة بين الشعر  والموسيقى؛ وأن يحس بنفسه أن العلاقة بينهما تمد جذورا في مفهوم الشعر نفسه؛ إذ يكفي أن يتذكر أن الشعر لا ينفصل عن الوزن والإيقاع والتنغيم والإلقاء؛ وأن كلمة الشعر الغنائي نفسها؛ في أصلها اليوناني قد جاءت من الآلة الموسيقية (ليرا) التي كانت تصاحب الشاعر. كما أن الشعر بقي مرتبطا بالغناء والعزف طوال العصر الوسيط؛ في الموشح الأندلسي؛ وأغاني التروبادور في البروفانس؛ من هنا يتأكد ارتباط الشعر بفن الغناء، حتى إن الشاعر العربى القديم يقول:

تَغَنَّ بالشعرِ إمَّا كنتَ قائله/ إنَّ الغناءَ لهذا الشِّعرِ مضمارُ

   وكان الغناء جزءا من حياتهم ومظهرا من مظاهر بهجتهم وأحزانهم، والروايات التى تدعم ذلك  كثيرة  متناثرة في كتب الأدب، خاصة كتاب "الأغاني" الذي يذكر صاحبه أبوالفرج: أنه لما نصح أبوسفيان لقريش أن يرجعوا في غزوة بدر قال أبو جهل: "والله لا نرجع حتى نرى بدرا فنقيم عليه ثلاثا وننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقي الخمور وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب".

   كما فن الخطابة لدى العرب ما ناله فن الشعر من الاهتمام؛ وهو فن لساني؛ كانت له مكانته خاصة في مناسبات الخطبة والزواج والمفاخرة والمباهاة وتولِّي الإمارة أو المناصب وأيضا في الحث على القتال وغير ذلك من المواقف؛ وكان العرب يقدِّرون الارتجال في الخطابة؛ ولم تخبرنا كتب التراث بخطيبٍ قرأ نصّا من أوراق؛ ومن يرجع الى أمهات كتب التراث سيجد فصولا تتحدث عن بلاغة الخطيب وآليات الخطابة؛ كما سيجد –في البيان والتبين والعمدة - ذكرا لعيوب النطق من الحصر والعيّ؛ والاهتمام بمخارج الألفاظ والحروف؛ والتحذير من عيوب "الفأفأة؛ والدأدأة" أى ورود بعض الحروف  بكثرة في الخطبة والتعثر بها عند النطق. وكان إعجابهم بخطبة رأس المعتزلة  "واصل بن عطاء" إعجابا بالغا؛ وكان يلثغ في حرف الراء؛ حيث تجنبه الرجل في تلك الخطبة التي هاجم بها "بشار بن برد" والاسم وحده وكنية بشار كفيلان بوجود "الراء" في سياق الخطبة التي خلت منه؛ على طولها.

الشعر الحديث كمحاولة الخروج

   ظل الشعر العربي رهين الإنشاد والإلقاء والتغنِّي لفترة طويلة؛ ولم تَحُلْ مدارسُ  وحركاتُ التجديد والتطوير التي طرأت عليه أن تنزع عنه هذه السمات التي التصقت به وصارت عنصرا من آلياته. ومع ظهور الصحافة والمجلات الثقافية في مصر والوطن العربي؛ في بدايات القرن العشرين؛ عرفت القصيدة طريقا ودربا جديدا يُفضي بها إلى المتلقي؛ ولم يمنع هذا من إلقائها أولا في محفلٍ أو مناسبة ما ثم يتم نشرها بعد ذلك.

    وما إن قارب القرن انتصافه حتى كان مصطلح (الشعر الحديث) تتناقله الألسنة والكتابات الأدبية عَلَما على القصيدة التفعيلية التي خاض روادها معارك ومساجلات يحفظها تاريخ تلك الظاهرة التي تصدت بثقة وبسالة وثقافة هؤلاء الرواد لهيمنة النص الشعري السائد وغلواء بعض دهاقنته من حرس الفن القديم. الذي بدأت عوراته في الظهور؛ حيث كانت القصيدة تابعا مهينا للحدث لا مستشرفة له؛ خاصة مع انبثاق المد القومي والمناسبات والأحداث الطارئة في مناخ الحماسة الوطنية التي خنعت له القصيدة وسارت في مواكبها صارخة زاعقة مثقلة بسطحيتها وبمفردات الخطابية وتراكيبها؛ مزهوة بالبلاغة القديمة؛ في الوقت نفسه مفتقرة إلى الصدق النفسي والألق الوجداني والفكر المتوهج. وفي مواجهة خطابية القصيدة القديمة وصخبها (القَوْلي) جاءت دعوة الدكتور محمد مندور وعدد من النقاد بالشعر المهموس (الكتابي) وخرجت قصيدة التفعيلة؛ بآلياتها الجديدة؛ شكلا ومضمونا؛ وتحررها من بعض القيود الخانقة؛ وبثقافة شاعرها ورؤيته للعالم وموقفه منه؛ خرجت بالشعر العربي إلى آفاق أوسع وأجمل؛ ناجية به من كمين الرتابة ونمطية الشكل. وسجَّل التاريخ الثقافي لتلك الظاهرة أو التيار الجديد أنها أسهمت في النيل من غرور أساطين القصيدة القديمة؛ وبالتالي خفوت حضورها الصوتي الخطابي وانصراف المتلقي عنها إلى ضرب آخر من الشعر الهامس المقروء وليس الاحتفالي المسموع. شعر يخاطب الجمهور المتلقي كُلا على حِدة. ويقيم معه علاقة حميمية قوامها الفن الخالص الراقي المتصل بالوجدان.

   وعلى مدى سبعين عاما – منذ نشر صلاح عبد الصبور ديوانه الأول (الناس في بلادي) عام 1957- توالت موجات شعراء قصيدة التفعيلة؛ ترسخت فيها أقدامها؛ وتطورت وأضافت إلى تراث شعرنا العربي وضخَّت في شرايينه المستنزفة دماء جديدة. ولكنها ككل جديد لا بد أن يصبح قديما يوما ما يتناسل منه جديدٌ آخر يعيد دورة الحياة؛ فلم تكد قصيدة التفعيلة تستوي على عرش مملكة الشعر حتى وقعت بين المطرقة والسندان. مطرقة قصيدة العامية التي راجت وغصت بها ساحة الإبداع الشعري؛ وسندان قصيدة النثر التي اجتذبت واستهوت العديد من الشباب العاكف على كتابتها والانتصار لها. 

 حضور مطرقة العامية

   وقد واكب ظهور شعر العامية المصرية بزوغ الموجة الأولى من شعر التفعيلة؛ وكان أن عرفت الساحة الثقافية قصائد فؤاد حداد وصلاح جاهين وسيد حجاب وزين العابدين فؤاد وفؤاد قاعود؛ ولسنا هنا في مجال تقصي جذور هذا التيار في تراثنا المصري إذ يحتاج ذلك إلى مساحة أوسع وزمن أطول؛ ولكن نختصر فنقول إن هذا التيار اجتذب الكثيرين من الشعراء الذين أغنوا قصيدة العامية بإبداعهم؛ وفيهم من التقط خيطا فلسفيا نحيلا من (رباعيات) صلاح جاهين الذي حاول خلالها مجاراة أبي العلاء في لزوميات جديدة بالعامية؛ وتأتي نموذجا لذلك الاتجاه قصائد ماجد يوسف ومسعود شومان والسعيد قنديل وسعيد المصري وسعيد شحاتة. حيث نلقى فيها إعمال الفكر والتأمل والحس الساخر الناقد وإثارة التساؤل عن المصير وكُنْهِ الوجود وجدوى الحياة.

    ويمثل انتشار شعر العامية المصرية وذيوعه واتساع رقعته على حساب قصيدة الفصحى بشقيْها الكلاسيكي والتفعيلي؛ عودة إلى الشفاهية؛ بعد مرحلة القصيدة المكتوبة؛ يؤكد ذلك حضورها الطاغي إبَّان ثورة يناير 2011 نائبة عن القصيدة الفصحى التي انسحبت على استحياء وأخلت لها الساحة نظرا لظروف الحشد الجماهيري الذي يتطلب سرعة التواصل وإذكاء روح الحماس في مناخ الثورة الهادر.

الدودة في أصل الشجرة

   وتواجه قصيدة العامية الآن تحديات أهمها: أنه لم يُتفق إلى الآن على آليات كتابة الحروف في قصيدة العامية كما هو الحال حينما تكتب (القاف وتنطق همزة) أو إضافة (الهاء) أم (الحاء) إلى الفعل في صيغته المستقبلية بديلا عن (حرف السين) في الفصحى. فضلا عن اختلاف اللهجات  من منطقة إلى أخرى؛ ومن المسلم به أن اللهجات تقف عائقا أمام التواصل الكامل؛ فكثيرا ما يؤدي هذا الاختلاف إلى التباس بعض المعاني؛ وقد يُضطر الشاعر إلى قطع تواصله مع المتلقي أثناء الإلقاء ليشرح كلمة أو يفسِّر جملة. كما يحدث ذلك في قصيدة من فن (الواو) الشفاهي الذي يعتمد على الجناس الصوتي – إذا جاز المصطلح - واللغوي في مربعاته؛ حين يحرص الشاعر على إعادة تقطيع الكلمات المدمجة ليسهل تواصله مع المتلقي، فضلا عن أن عددا كبيرا من ممارسي كتابة قصيدة العامية يظنونها أسهل إبداعا من الشعر الفصيح في حين أن صعوبتها تكمن في شيوع معجمها اللفظي على ألسنة العامة والبسطاء وهو في الوقت نفسه المتاح لشاعرها ليصوغ به قصيدته بعد أن يجلو عن هذا المعجم صدأ الاستعمال المجاني وإضفاء بريق الفن عليه وإعادة عرضه؛ أي مطلوب منه أن يستخرج من زهور ذابلة عطرا نفَّاذا.

   إن الاستسهال والمجانية وفوضى الدخول إلى ساحة إبداع هذا الشعر لكل من تسول له نفسه ـ الآمرة بالإبداع والسوء بالطبع ـ ممن خلوا من الموهبة والثقافة؛ يجعل الدودة في جوف الشجرة؛ ويشكل عبئا ومعوِّقا للإبداع الحقيقي في مجال الشعر العامي. خاصة إذا بلغت المجانية والاستسهال حد استنساخ نجومية شاعر راحل ليحل صوته ولهجته في جسد لشاعر ضحل الموهبة والثقافة.

   هذا عن مطرقة العامية؛ أما سندان قصيدة النثر فله شأن آخر نرجئ تناوله إلى مقال آخر نختتمه بخطر هذين التيارين على قصيدة الفصحى؛ وآثارهما السلبية على اللغة العربية.