هل هناك بوصلة أدبية؟ سؤالٌ يحتاج إلى ترسيخ المفهوم أولا، ثم نظر إلى السياق الزمني ثانيا، ثم تحديد رسالة الأدب مجتمعيا وإنسانيا وتبيان دور الأديب ثالثا.
فمفهوم "البوصلة الأدبية" يعني: الهدف أو الغاية التي يرومها الأديب في مشروعه الإبداعي، وفي تجربته الأدبية، التي لابد أن تكون غاية سامية، قوامها إنسانيّ، وعمادها قيميّ، وتوجهها إصلاحي، يستنهض فيه الأديب الأفئدة، ويحرّض العقول، للمشاركة البنّاءة في كل ما هو خير. ويا لها من رسالة سامقة، أن يسعى الأديب لبعث مكامن الخير والقيم والمحبة في النفوس، وينتصر للمقاومين والشهداء.
يقال ذلك، لأننا وجدنا انحرافا كبيرا في البوصلة الأدبية العربية في العقود الأخيرة، تحت دعوى كسر التابوهات، فأمعن كثير من الأدباء في سرديات وأشعار عن شهوات النفس، وانحرافاتها، ولقطات الضعف النفسي، وكشف المخبوء من تجارب الجنس ونزوات الذات، وبعضهم تطرف، وبرّرَ الشذوذ الجنسي، مضفيًا عليه المشروعية، وبعضهم ملأ مدوناته الأدبية بإشارات ساخرة عن الدين ورموزه.
أما السياق الزمني للبوصلة الأدبية، فمقصود به نظر الأديب إلى أحوال الأمة العربية وأقطارها، وما تعانيه من صراعات، ومظالم، ومفاسد، والنظر أيضا إلى حال فلسطين، بوصفها القضية المحورية للأمة، والتي تراجع الاهتمام بها في السنوات الأخيرة، بفعل الحروب التي عصفت ببلدان العروبة، ولكن ها هي تعود من جديد، وتجعلنا نقف جميعا على المحك، لنعيد تموضعنا، ولتصحيح رسالتنا، بأن تكون كتابة أدب عنوانه النضال ضد الصهيونية، والانتصار للأقصى، ورفض سردية إمكانية التعايش مع كيان أجنبي مزروع بشعارات دينية مختلقة، ودعاوى سياسية برّاقة تروّج أن الكيان الصهيوني واحة ديموقراطية زاهرة، ومجتمع حضاري متقدم، وحبذا أن يتصدر قيادة منطقة الشرق الأوسط، ليتخذوه نموذجا.
إن الواقع المعيش دال على استعلاء استعماري صهيوني، مدعوم بلا حدود من الغرب عامة، لا يكتفي بقضم فلسطين التاريخية، بل يسعى إلى التمدد لما يسميه أرض إسرائيل الكبرى، عبر إشعال الحروب فيما حوله من أقطار، مع نزعة دموية مستمرة لا ترتوي من دماء الفلسطينيين، في الوقت الذي صدّع رؤوسنا بعض المفكرين والسياسيين والباحثين، بتحليلات عن تفاوت ميزان القوة، وحاجة الأمة للعلم والتكنولوجيا الإسرائيلية، وأن التعايش يعني سلاما واقتصادا مزدهرا للمنطقة.
ومن هنا، فإن الأديب المنتمي؛ مطالب أن تكون رسالته تحريضية، ضد كل ظلم وهيمنة واستعلاء صهيوني وغربي، وتنوير الأمة بكل ما يحاك لها من مؤامرات، جعلتها في حالة من الصراعات الداخلية، أضاعت مقدرات الشعوب، وبددت ثرواتها، وطردت أبناءها إلى المهاجر، إما بقوارب الموت، أو بالتسلل عبر الغابات.
أيضا، لابد أن يكون الأدب -سردا وشعرا- متناولا لقضايا فلسطين، ومنشغلا بمشكلات الأمة، وما أصابها من تدهور وتفكك وصراعات، والنظر في هموم شعوبها اليومية، ومعاناتهم، وأيضا يقدم وجوها من نضال الفلسطينيين، وتمسكهم بالأرض، ويتوافر في ذلك سرديات لا نهاية لها، لابد من توثيقها أدبيا، بجماليات عالية، ويمكن أن تكون مادة لصناعة محتوى فني، لمرئيات فيلمية ومسرحية وتشكيلية.
هذا، و تمثل تجربة الأديب الفلسطيني إبراهيم نصر الله (1954) نموذجا في الأدب النضالي المقاوم للمحتل الصهيوني، فقد اتسق نصر الله مع تكوينه الذاتي، بوصفه ابنا لأسرة فلسطينية عانت من التهجير في أعقاب نكبة (1948)، وعاشت في مخيم الوحدات بالأردن، لينشأ إبراهيم في أجواء المعاناة القاسية، منصتا إلى ذكريات الآباء والأجداد عن فلسطين الأرض والوطن والتاريخ، والهوية والتقاليد والثقافة، فتشبعت روحه بأرض الزعتر، وصخور القدس و شموخ الأقصى وهو الذي لم يرها، ولم يمشِ في حاراتها وأزقّتها، ولكنه وجّه بوصلته نحو إبداع يجذّر ويؤرخ الحياة والتاريخ على أرض فلسطين، فأصدر 14 ديوانا شعريا، و14 رواية أدبية، جلّها عن فلسطين، منها سبع روايات عن الملهاة الفلسطينية، مبحرا في التاريخ، متتبعا خصوصية الأرض والإنسان والجهاد لأكثر من مائتي وخمسين سنة. ويا له من مشروع بديع، بتسريد التاريخ، والمأساة، والجهاد، على أرض الجهاد والمحشر. ففي روايته "طفل الممحاة"، يحكي تاريخ فلسطين، ووعد بلفور، حتى سنة النكبة والتهجير. وفي روايته "طيور الحذر"، نقرأ وقائع الحياة في مخيمات اللاجئين في الأردن، من العام 1950، وإلى هزيمة يونيو 1967. ويكمل في روايته "زيتون الشوارع" سردية الحياة في المخيمات، حتى التسعينيات، وما انتابها من تغييرات، وما ألمّ بها من أحداث. ويتعرّض في روايتيه "أعراس آمنة"، و"تحت شمس الضحى" لسنوات الانتفاضة الأولى والثانية، ونتائج اتفاقيات أوسلو.
إنه إبداع يسقط مقولة مؤسس الكيان الصهيوني "ديفيد بن غورويون"، وقد هتف بثقة: "الكبار يموتون، والصغار ينسون"، والحقيقة أن الكبار حكوا، والصغار وعوا، والأحفاد أبدعوا، وما رأيناه على أرض فلسطين من بسالة ونضال وصبر، إنما هو معبر عن الوعي المتوارث بين الأجيال، الذي تحول لقنابل ثورية.
وكان مشروعه الملحمي الثاني، الساعي إلى رسم ذاكرة فلسطين سرديا ، بإصداره "ثلاثية الأجراس"، وهي روايات ثلاث، تتناول الحياة المدنية والعمرانية في فلسطين، والدور المسيحي النضالي والثقافي في بيت لحم والقدس، وبيت ساحور بشكل خاص، وأبطال الثلاثية شخصيات مسيحية، ومسلمة ويهودية. ففي رواية "ظلال المفاتيح"، يعود بنا إبراهيم نصر الله إلى ما قبل النكبة، ومع بداية تهجير الفلسطينيين من أراضيهم، والظروف التي أحاطت بحرب عام 1948. وفي رواية "سيرة عين" تحضر شخصية المصوِّرة الفلسطينية الرائدة كريمة عبود (1893- 1940) في النصف الأول من القرن الماضي، ليتعانق الفن والصورة، مع السرد والحياة، وتأخذنا رواية "دبابة تحت شجرة عيد الميلاد"، لتأمّل حال فلسطين طيلة، خمسة وسبعين عاماً، بدءاً من الحرب العالمية الأولى، حتى نهاية الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1990)، متتبعة ما عاشته فلسطين من تحولات، في الأرض والإنسان والعمران.
وتأتي رواية إبراهيم نصر الله، المعنونة بـ "طفولتي حتى الآن" لتسجل ما يشبه سيرته الذاتية، عن حياته في مخيم الوحدات، وحبه لنور ابنة الجيران، ووصفه للمعاناة التي تحملتها المرأة الفلسطينية، والتي أنتجت جيلا من الأبناء، عرفوا كل شبر في فلسطين، وعرفوا آلام الاغتراب، لمواجهة الرواية الصهيونية المتداولة عالميا، وللأسف رددها العرب المتصهينون في أعقاب موجة التطبيع التي روّجت للتعايش، بين المحتل والعرب، متجاهلين الدماء المنثالة على أرض الأقصى.
وتعزف روايته الفريدة "أرواح كليمنجارو" على لحن الإرادة الفلسطينية، من خلال رحلة قام بها أطفال وشباب فلسطينيون، فقدوا بعض أطرافهم برصاص الاحتلال الصهيوني، وصعدوا مع المؤلف إلى أعلى جبل في إفريقيا، وهو جبل كليمنجارو، في أقصى الجنوب، في تحد للذات، والعالم، وللمحتل، بأن ذوي الهمم (المعاقين) من أبناء فلسطين قادرون على الإنجاز داخل الوطن، وخارجه، وكان نصرا الله شاهدا معهم، عرف جوانب من محنتهم، ودوّن في روايته ملامح ومواقف من تحديهم.
لقد أدرك إبراهيم نصر الله أن تميّزه الإبداعي تأتّى من خصوصية تكوينه الذاتي، وحياته التي عاشها، والقضية التي انتمى إليها، فسعى إلى صياغتها إبداعا راقيا.
على صعيد آخر، تأتي تجربة الفنان الفلسطيني ناجي العلي (1937-1987) لتكون نموذجا في الفن النضالي المقاوم، والذي جعل القضية الفلسطينية بوصلته في رسومه الكاريكاتيرية. فهذا الفنان الذي وُلِدَ في قرية الشجرة بالقرب من مدينة الناصرة، وهُجّر مع أسرته إلى مخيم عين الحلوة في لبنان، ومنذ أن كان في العاشرة من عمره، ولعَ بالرسم على الجدران، ومقاومة المحتل، حتى أنه اعتقل وهو صبي، في السجون الصهيونية، فكان يرسم على الجدران. وعندما أنهى دراسته في ميكانيكا السيارات في جامعة طرابلس في لبنان، اتجه مباشرة إلى الرسوم الكاريكاتيرية، حيث نشر له الأديب والصحافي غسان كنفاني رسما في مجلة الحرية العام 1961، وفي العام التالي 1962، ذهب إلى الكويت، ليعمل في جريدة القبس، وينشر رسوماته بشكل ثابت، عن فلسطين الأرض والمقاومة والنضال، ليواجه كل أشكال الزيف والمتاجرة السياسية، وهو ما كثّر من أعدائه، ولكنه صار فنان الشعب، وضمير القضية الفلسطينية.
وتتمثل المفارقة في ابتكار ناجي العلي لشخصية حنظلة، لتكون توقيعه الثابت في كافة لوحاته الرائعة، وما حنظلة إلا طفل المخيمات الفلسطينية الفقير، ذو الشعر الأكرت، والثياب البالية، ويعطينا ظهره دائما؛ في دلالة على رفضه لواقع العروبة والنضال، وربما كان حنظلة هو ناجي نفسه عندما كان طفلا، وهذا ما ذاكره معلمه، فقد قال: "إن حنظلة يشبه ناجي عندما كان في الصف الخامس الابتدائي". فكأن حنظلة تجسيد لناجي الذي تمرّد منذ طفولته وطيلة عمره، فكان صداقا شفافا.
وعندما نتأمل بعضا من لوحاته، نلحظ حنظلة فاعلا فيها بشكل دائم، إما محاورا، أو معلقا، أو مشيرا بإحدى يديه. ومن أبرز لوحاته، لوحة سيدة فلسطينية فقيرة، تخاطب زوجها محني الظهر، وأولادها شبه عرايا بجانبها، وتقول له: "بآخر الشارع شفت لوحة مكتوب عليها عيد سعيد، رُحْ جِيبها، حتى أعمل لباسات للأولاد"، أما حنظلة فهو في الركن الأيسر في اللوحة، بظهره وإطراقته، وملابسه الممزقة، وكأنه واحد من أبناء الأسرة. وفي لوحة أخرى، حملت عنوان "اقتتال الفقراء"، نشاهد طفلين في المخيمات، أمام صفيحة قمامة مقلوبة، وهما يبحثان عن بقايا طعام، وأحدهما يقول للآخر ليبعده عنها: هيدي مش مزبلة أبوك! فيرد عليه الثاني: ولا مزبلة أبوك، خلينا نعيش وبلاش نعملها طائفية"، وكان حنظلة بجوارها، صامتا، ناقما، مطرقا، يكتفي بالمشاهدة. ودلالة الكاريكاتير طريفة، فالمنازعات الطائفية والحزبية أضاعت القضية الفلسطينية، وأفقرت الشعب، بل هي حاضرة في مكبّات القمامة.
وفي لوحة أخرى، نشاهد حنظلة واقفا، يتأمل جثة مسجَّاة، مغطاة بالشال الفلسطيني، أعطانا حنظلة ظهره كالعادة، وحتما فإن عينيه اللتين غابت عنا، كانتا تنظر بحسرة إلى الجثمان، ومكتوب على اللوحة "لا لكاتم الصوت". واللوحة نُشِرت العام 1987، في زمن انشغلت فيه المنظمات الفلسطينية بالصراعات الداخلية، على حساب القضية، وانتشرت آنذاك الاغتيالات ضد الفلسطينيين أنفسهم، وقد كان ناجي العلي واحدا من ضحايا هذا الأسلوب، فقد انتهت حياته برصاصات من كاتم للصوت، في أحد شوارع لندن، وتفرّق دمه بين المنظمات الفلسطينية، والموساد، وبعض الأنظمة العربية التي عارض سياساتها في لوحاته، ليموت ناجي العلي، ويبقى ذكراه خالدا، لواحد من عباقرة فناني الكاريكاتير في العالم، ونردد ما قاله في إحدى لوحاته، حيث صوّر فيها حنظلة واقفا في الخلاء الواسع، محني الظهر، وقد ازدانت السماء بقرص الشمس، ونقرأ أغنية تنثال كلماتها استنطق بها ناجي صديقه حنظلة مترنّما:
لو رحل صوتي ما بترحل حناجركم
عيوني على بكره، وقلبي معكم
لو راح المغني؛ تبطل الأغاني
تجمع القلوب المكسورة واللي تعاني