لا يكاد يمر عيد أو موسم على المصريين دون كارثة تفسد فرحتهم، وتقلق منامهم، وتصيبهم بالإحباط، وتضرب في مقتل كل سبل التفاؤل بتغير الحال للأفضل ، والفاعل دائما الإهمال الذى يعشعش فى دروب وجنبات مختلف المؤسسات، وعند وقوع المصيبة يكتفى المسئولون بـ»مصمصة الشفايف»، وتبادل الاتهامات للهروب من المسئولية، والبحث عن كبش فداء من الصغار لحماية رءوس الكبار، وللأسف دائما الضحايا من الغلابة.
نعم الغلابة هم الضحايا وكأنها تحولت إلى قاعدة ثابتة فى معظم الحوادث والكوارث المفجعة، وآخرها حادث غرق مركب الوراق - ومن المؤكد أنه لن يكون الأخير - ابتلعت المياه نحو ٤٢ ضحية ما بين أطفال ورجال ونساء، لا ذنب لهم سوى الرغبة فى فسحة نيلية على« أد الإيد »، توسلات الأبناء دفعتهم لهذه الرحلة الخطيرة على المركب المتهالك، وبأعداد لا طاقة له بها لأن جيوبهم خاوية، لا يستطيعون دفع « المنيمم تشارج » فى خروجات وفسح البواخر النيلية المتحركة والثابتة فى نيل المحروسة تخذق عيونهم، وليسوا من أصحاب العضويات فى النوادى الاجتماعية سواء المتوسطة أو الـ« V I P»، وما لهم بمدن الملاهى ذات التذاكر الخارجة عن سيطرة الفقراء، ومن باب أولى، لا يمكنهم الحج إلى الساحل الشمالى، فلا يعرفون الطريق إلى شاليهاته لا اسما ولا رسما.
أرواح الغلابة ودماؤهم لا ثمن لها، فهم يموتون بالقطارات المتهالكة، وحوادث الطرق السريعة والبطيئة معا، والمعديات والمراكب النيلية الضالة، والعبّارات المخالفة، والأمراض الوبائية، والفيروسات الكبدية، والأدوية الفاسدة، لأن المسئولين لا يشعرون بهم، ولا يضعونهم فى حسابهم، يكتفون بتوفير سبل الراحة والأمان لعلية القوم، والقادرين على الدفع مقابل الحصول على الخدمات، اللى معاه جنيه يساوى جنيه، واللى ممعهوش لا يساوى شيئا، والقبور أولى بهم.
والأخطر أن الغلابة هم الذين يدفعون ثمن أى كارثة أو جريمة، فالتهمة دائما جاهزة لإلقائها على عاتق واحد منهم قبل أى تحقيق جاد من أجل إنقاذ رقاب الكبار، وإذا ضلت العيون عن ضبط الضحية المنشودة تتجه الأنظار، وتشير أصابع الاتهام إلى المجنى عليهم لا الجناة بحجة أنهم لم يفحصوا المركب القاتل، أو قبلوا بالحمولة الزائدة توفيرا للنفقات أو تجاهل سؤال المراكبى عن رخصته، أما فى حوادث القطارات نفاجأ بمن يخرج علينا بأن السبب «وابور الغاز «، أو شرارة السيجارة، وحتى فى حوادث الأسفلت يردد أصحاب القرار أن الركاب طالبوا السائق بزيادة السرعة.. بصريح العباراة التبريرات والحجج حبلها طويل، وأكاذيب التهرب من المسئولية لا تنفذ.
وتعد مصر الدولة الوحيدة التى ربما يفتقد فيها بعض المسئولون للحياء والإحساس بالمسئولية، وعدم القدرة على مفارقة الكرسى، مهما كانت جرائمهم التى يستحقون عليها المرور إلى حبل المشنقة جزاء وفاقا، فلا نسمع عن واحد منهم انتحر أو قتل نفسه عند وقوع كارثة فى نطاق مسئوليته، كما يفعل أقرانهم فى الغرب واليابان من فرط الشعور بالذنب، وخوفا من موجات الانتقاد والغضب الشعبى، فمسئولونا من طينة والآخرون من طينة تانية، لا مثيل لهم فى البرود، والتناحة، واللامبالاة، يقتلون القتيل .. ويمشون فى جنازته.
تجسدت هذه الصفات فى مأساة مركب الوراق الغارق، فعلى مدى ثلاثة أيام بعد الحادث لم نر أى بوادر للاعتراف بالمسئولية أو سعيا للاستقالة من مديرى هيئة النقل النهري، والإدارة العامة للمسطحات المائية، وكأنهم لا ناقة لهم ولا جمل فى هذه النكبة حتى عودة المهندس ابراهيم محلب من إيطاليا، واتخاذ قرار استبعادهم من منصبيهما، والضرورة كانت تحتم عليهما المسارعة فى الرحيل لتخفيف آلام أهالى الضحايا، وإطفاء نار الغضب الذى يأكل قلوبهم، لابد من الإقالة ثم المحاسبة الصارمة للوصول إلى الجناه الحقيقيين دون مواربة أو تحايل للإفلات من العقاب.
يا سيادة رئيس الوزراء: اعلن الحرب على الإهمال والفساد بلا هوادة، لا نريد لجاناً وراء لجان مع كل كارثة وفى النهاية تضيع الدماء هدرا، لا نريد ضجيجا بلا طحين، المصريون يئسوا من شعارات إصلاح لا يتحقق، وتغيير لم يحدث، أين المراقبة والمساءلة فى كل القطاعات، لا نملك رفاهية الوقت للانتظار، ارفع سيف العقاب فى وجه كل مسئول صغير أو كبير، واقطع رقبة المقصر بالقانون سينصلح الحال.
كتب : عبد اللطيف حامد