الخميس 9 مايو 2024

قصة وطن ما زال شعبه يكتبها بدماء أبنائه


د. وجيهة السطل شاعرة وأديبة

مقالات6-12-2023 | 14:25

د. وجيهة السطل

وهناك قاسمٌ مشترَكٌ أعظم، يربط بين الآداب العالمية التي تسطر مقاومة أبنائها، وتؤرِّخ لها وتوثّقها إبداعًا؛ وهو الحس الإنساني بقسوة الاحتلال وثِقَله على نفوس أبناء الأرض

يبقى لكلِّ أدب خصوصيَّتُه في تنوّع أسلوب الاحتلال وشكله وظلمه؛ وبخاصّة إذا تخلَّله خروج عن القِيم الإنسانية، والقوانين التي أقرّها المجتمع الدولي، في التعامل مع الشعوب المحتلة

خرج أدباء المقاومة من رحم القضية الفلسطينية، وانصهروا في جحيم المأساة معبّرين عنها بصدق وأمانة، فاستطاعوا أن يرسموا صورًا صادقة لشعب اقتُلع من أرضه ظلمًا وغدرًا

 

 

هل المقاومة بالاشتباك الجسدي فقط وبالسلاح المعروف من رصاص وبندقية وقذيفة!؟

أم أنّ هناك مقاومةً أخرى تؤازر تلك، وتشحذ المشاعر والهمم، وتبقي القضية حيّة في نفوس الأجيال المعاصرة؟!

"أدب المقاومة" مصطلح أطلقه النقاد على ما تتفتق عنه أذهان الكُتّاب الفلسطينيين من إبداعٍ فكري يشمل

القصة والرواية والمسرحية وقصائد الشعر. ولأنّ قصة اغتصاب فلسطين لم يعرفها بلد في العالم؛ فقد اختص النقاد هذا الأدب بمصطلح أدب المقاومة لِما له من خصوصية وتميّز.

وأوّل من أطلق هذا المصطلح على تلك الإبداعات الأديب الفلسطيني غسان كنفاني.

وإذا تساءلنا، هل لهذا الأدب سِمات عامة يشترك بها أدب المقاومة مهما اختلف الوطن المقاوِم جغرافيًّا؟؟ نجد أن لأدب المقاومة في فلسطين بالذات سَمْته وطعمه وخصوصيته.   وهناك قاسمٌ مشترَكٌ أعظم، يربط بين الآداب العالمية التي تسطر مقاومة أبنائها، وتؤرِّخ لها وتوثّقها إبداعًا؛ وهو الحس الإنساني بقسوة الاحتلال وثِقَله على نفوس أبناء الأرض. وهذا عامٌّ بين جميع الشعوب الباحثة عن الحرية والاستقلال.

لكنّه يبقى لكلِّ أدب خصوصيَّتُه في تنوّع أسلوب الاحتلال وشكله وظلمه؛ وبخاصّة إذا تخلَّله خروج عن القِيم الإنسانية، والقوانين التي أقرّها المجتمع الدولي، في التعامل مع الشعوب المحتلة، من قتل وتشريد وتهجير ونفي واعتقال. كما يبقى لكلّ إبداع خصوصيتُه، في رائحة الوطن التي تعبَق من ثقافة المبدع. وتحكمها موروثاتُه الفكريّة والاجتماعيّة. وأبجديَّته اللغوية، من ألفاظ وصور بلاغية. وتمثل تلك الموروثات ذاكرة المبدع، وتحمل طعم الوطن فيستشعرُ القارئ المكان من الأسماء المطروحة، والألفاظ الواردة في النص، تبين الزمان.

 بمعنى أننا نستطيع معرفة البلد الذي ينتمي إليه النص الأدبي؛ لأنّه يحمل رائحة الأرض وشخصيّة المواطن المرسومة عبر التاريخ.

 وقد كان للتجربة الفلسطينية سماتُها الخاصة التي تُضاف إلى ما يحمله أدب المقاومة عمومًا، من صمود وإصرار، وتحدٍّ دائمٍ للمحتلِّ، ووعيٍ كاملٍ بحقِّ المواطن في الحرية، وحقِّ الوطن في التحرُّر والاستقلال.

تعرّض الشعب الفلسطيني لمأساه لا مثيل لها في العالم. ومن رحم هذه المأساة خرج الأدباء متوالين يشدّ بعضهم أزر بعض. ويمثّلون كتائب أدبية، تدافع بالكلمة عن الحق.  

 وقد كان تجاوب الشعر مع القضية الفلسطينية أسرع وأغزر وأغنى؛ وذلك لأن الشعر يأتي في صدارة الفنون الإبداعية، ولأن الموهبة الشعرية أكثر حظًّا في عدد المبدعين من موهبة الرواية والقصة.

 أما الفنّ القصصي بأشكاله المختلفه، فنجد أن القصة تليها الرواية، كانتا أكثر الأنواع مواكَبة للقضية وتعبيرًا عنها بصدق وتفاعل. مؤرِّخة وموثّقةً لأحداثها.

 وظلّ الروائيون الفلسطينيون كُتَّابا وكاتباتٍ، يقدّمون إبداعًا متميِّزًا في أعقاب نكبة فلسطين الأولى 1948 ثم في أعقاب النكبه الثانيه  عام 1967 وحتى وقتنا الحاضر.

 ومن العسير استقصاء أسماء المبدعين وإبداعاتهم لكثرتها وكثرتهم. وأولُ من حمل راية الوطن، وعبّر عنه في فنون النثر المختلفة، الأديب غسان كنفاني 1936م- 1972م، الذي سنتوقف عنده  في عرض نتاجه الأدبي، ثم عرض  المحتوى والرؤى الفنية، في مجموعة قصصية له. وله روايات: ما تبقى لكم- عائدون إلى حيفا- رجال في الشمس- سقوط الجليل- فضلًا عن روايتين لم تكتملا: العاشق، وبرقوق نيسان. أشار إليهما الكاتب أحمد بيضي في كتابه (مع غسان كنفاني) وله مجموعات قصصيه: موت سرير رقم 12- أم سعد- عن الرجال والبنادق- أرض البرتقال الحزين.

 ومسرحيتان: الباب- وعالم ليس لنا- بالإضافة إلى دراساته التي جُمعت في كتب بعناوين: أدب المقاومة في فلسطين المحتلة- في الأدب الصهيوني- الأدب الفلسطيني المقاوِم من 1948م حتى 1968م. وللشاعر سميح القاسم روايتان الصورة الأخيرة في الألبوم- إلى الجحيم أيها الليلك.

 والمتتبع للروايه الفلسطينية يلاحظ أن عدد كاتبات الرواية ضئيل بالنسبة إلى ما قدّمه الكُتاب. ونردّ ذلك إلى ندرة الكاتبات المبدعات قديمًا وحديثًا في كلِّ أنحاء العالم. ومنهن: سميره عزام، وهيام الدردنجي، وسحر خليفة.

   خرج هؤلاء الأدباء وغيرهم، من رحم القضية الفلسطينية، وانصهروا في جحيم المأساه معبّرين عنها بصدق وأمانة.   فاستطاعوا أن يرسموا صورًا صادقة لشعب اقتُلع من أرضه ظلمًا وغدرًا. 

 إنهم كتيبة مبدعة، تحارب بالكلمة وتساند الثوار في عمق الأرض المحتله وخارجها.  دفاعًا عن الأرض والحقّ السليب المغتصَب، وتحدِّيًا للعدو الصهيوني، عدو الحقّ والعدل.  

 وسنرى كيف عبّر القاص الفلسطيني عن مأساة شعبه في أعماله القصصية التي ظهرت بعد نكبة 1948م، من خلال مجموعة قصصية للأديب غسان كنفاني.الذي اغتالته الصهيونية غدرًا، وهي: "أرض البرتقال الحزين".

  لعلّ مأساة  فلسطين قد تجسّدت بأبعادها وتطوراتها في موهبة كاتبنا الكبير غسان كنفاني. فعبّر عنها بصدق في قصصه المتعددة.

 إذ يستمد مادته القصصيه من عالم الواقع. فأبطال قصصه رجالٌ وشباب، شردهم الاحتلال الصهيوني بعد قيام إسرائيل عام 1948م فعاشوا ضياعًا وفقرًا وبؤسًا. ولكنهم أبدًا لم يكفُّوا عن النضال في سبيل قضيتهم العادلة.

يعرض الكاتب في قصة البرتقال الحزين التي تحمل المجموعة القصصية اسمها، للأحداث التي مرت بها العائلات الفلسطينية، التي طردت بالتحديد، ليلة الخامس عشر من مايو عام 1948م، من يافا وصفد، واللد وعكا. وهُجّرت قسرًا، بعد إعلان إنشاء دولة إسرائيل.

 بتغيرات طفيفة، تخص حكاية كل عائلة  على حدة.. ويعرضها برؤى مختلفة.

 بطل القصة عجوز طرد من يافا مدينة البرتقال، التي لا يريد مغادرتها. كان يرتجف بغضب ذبيح نبيل. وإلى جواره برتقالة عجفاء يابسة ترمز إلى تعلّق الفلسطيني بأرضه، وإلى عمق أثر الهزيمة التي لحقت بالجيوش العربية في نفوس الفلسطينيين، بسبب الخيانة العظمى في فساد الأسلحة.

أما قصة (لا شيء) فتمثّل رؤية لجندي عربي يؤدي خدمته على الحدود في مواجهة العدو. يطلق رصاص سلاحه الرشاش، في لحظة غضب قدسية، باتجاه الأرض العربية المحتلة. لم يكن مجنونًا. ولكن قيل هذا، واقتيد إلى مستشفى الأمراض العقلية. وكلّ ما في الأمر، أنه حاول التعبير عن غيظه وألمه المكبوت في أعماقه.             

 وفي قصة (قتيل في الموصل) نجد شابّا عربيّا يدعى (معروف) شاب مرح فلسفته في التعامل مع الناس 

 التسامح والنكتة. يدرس في جامعة بغداد، نعرف فيما بعد أنه فلسطيني من (اللد)، فقدَ أمه حين ضياع التيه والتهجير سيرا على الأقدام، وقضت نحبها عطشى، لأنه تأخر في إحضار الماء لها من بئر كانت في الطريق،  وكان الازدحام عليها شديدًا وظلّ هذا الموقف بما ترتّب عليه من حزن، يطارده طوال حياته، فكان يخفي حزنه، وراء فلسفة  التسامح والمرح والنكتة. رأى في الثورة العراقية خطوة نحو (اللد) والعودة. فخرج  في مظاهرة شعبية، خانه فيها مُدّعو التقدمية. فهربوا حين رأوا الجيش في الشارع، لم يهرب وسقط قتيلًا.

 وتمثل قصة (السلاح المحرم) رؤيه تحمل رمزًا صريحًا يلخص قصة اغتصاب فلسطين. والتمسّك بالأرض في وجه المغتصب. الشخصية الرئيسة جندي أجنبي  يحاول الإقامة في قرية، رفضه أهلوها لأنه يحمل سلاحًا. والسلاح دليل عداء. وطلبوا منه التخلي عنه ليوافقوا.

 ولكن الضابط جاء مع الجندي الغريب يحميه، ويفرض على المختار قبوله في القرية.

 والشخصية المعادلة الفلسطيني (أبو علي) العجوز المتعب، الذي اخترق الصفوف، ووصل إلى الجندي، وخطف منه بندقيته، وجرى بها بعيدًا. ولكن رجلان استطاعا اللحاق به. والحصول على السلاح.

 وفي قصة (أبعد من الحدود) رؤية  لنوع آخر من مأساة الشعب. شابّ فلسطيني يهرب قافزًا من النافذة أثناء التحقيق معه. وكانت تهمته أنه سكب الحليب فوق رأس الموظف الصهيوني المشتري، رافضًا أن يبيع خير وطنه لأعدائه.

 ثم ذهب إلى بيت قاضي التحقيقات، ليفاجئه قبل النوم ويخبره بالتفاصيل التي رسمت مأساة  حياته. فأبوه يقيم في قطر، ولم يره أبدًا.

 وأمه ماتت تحت أنقاض البيت الذي بناه لها  أبوه في (صفد). وتحدث عن ذل التهجير هو ومجموعة اللاجئين، في مخيمات وكالة الغوث الأونروا. التي كانت تأتي بالسيَّاح، لتصوير بؤس ساكني المُخيَّمات. فيمرّ عليهم السائح ليحزن قليلًا، وهو يلتقط بعض الصور. ثم يعود الى بلده قائلًا: زوروا مخيمات الفلسطينيين قبل أن ينقرضوا.!!

وفي قصة (الأفق وراء البوابة) موقف مؤثر، يعرض نوعا آخر من عذابات الفلسطيني المُهجَّر. شاب فلسطيني كذب طيلة عشرة سنوات، فلم يخبرأمه باستشهاد أخته. غادر القدس متّجهًا إلى بوابة (مندل بوم) ليرى أمه، ويعترف لها. فحين تفجّرت جهنم في وجهه، وأصبح الظلام يلف مدينة (عكا) فقَدَ أخته التي قتلها الأوغاد. وشعر منذ ذلك اليوم أنه لم يعد يهمّه أن يفقد حياته. فمضى يضرب في الجبال، هاربًا من الحزن الذي لاحقه  كسوط. وكان يكذب على أمه، ويقول لها دلال بخير. 

حين وصل إلى البوابة وجد خالته سألها عن أمه، لم تُجب. وسألته هي عن دلال فلم يًجب. أخبرته خالته أن أمه تركت يافا، ولم تخبره إلى أين. حدّق في الأفق بعيدًا وقال: سوف تلتقيان.!!!

 أما القصة الأخيرة (ثلاث أوراق من فلسطين) فهي ثلاث رؤى على هيئة أوراق.  من الرملة، والطيرة، وغزة. وتروي كل ورقه على ألسنة اللاجئين الفلسطينيين من أبنائها وقائع أحداث حقيقية، في تاريخ المأساة الفلسطينية. وقد جاءت هذه الرسائل الثلاث، أقرب إلى الصورة، منها إلى القصة القصيرة.

أما  باقي الرؤى فإنها تأخذ شكلًا قصصيًّا متماسكًا. ومن الملاحظ من التواريخ التي ذيل بها الكاتب أعماله أنها كتبت في حقبة زمنية تبدأ في 1956م، وتنتهي عام 1962م. كما  أن معظم القصص كتبت بضمير الغائب.  واستخدم ضمير المتكلم فقط، في أرض البرتقال الحزين، وثلاث أوراق من فلسطين. ويبدو واضحًا أن كاتبنا الشهيد، استلهم واقع مأساة فلسطين معبّرًا عن ملامحَ وأبعادٍ في هذا الواقع، بأسلوب تميّز بالصدق الفني، والإنساني والوطني على حد سواء. وتتجسّد فيها فلسطين قلب الوطن العربي أرضًا وبشرًا ومأساة.

 وقد كانت الشخصيات متنوعة في قصص المجموعة، من حيث الملامح والسمات والرغبات. ولكنّ همًّا واحدًا كان يشغلهم   جميعًا. يتمثل في ضياعها وتشريدها، والوطن الذي اغتُصب غدرًا وخديعة. وعلى هذا الضياع والتشرد الذي تعيشه الشخصيات، فإنها لم تفقد الإصرار على مواصلة الكفاح، وتفجير براكين الثورة في مواجهة  الصهيونية، فضلًا عن أنها لم تفقد الأمل في تحرير أرضها، وتقرير مصيرها، وتحقيق العودة إلى أرض التين والزيتون، أرض البرتقال والليمون.

وهكذا ثم تأتي رؤى الكاتب غسان كنفاني  واقعية صادقه أمينه في تعبيرها عن الإنسان الفلسطيني، صامدًا مقاوِمًا ببسالة وجسارة.

 وهي رؤى تواكب إيقاعات الواقع والقضية والعصر.

 ونردّد في الختام مع (أبو صابر) أحد شخصيات رواية الصبّار، لسحر خليفة: إذا كان هذا الشعب الباسل قد فقد الكثير، فإنه في الوقت نفسه يمتلك الكثير. وتبقى مقولة  غسان كنفاني، سراجًا يضيء دروب المبدعين:

 إن الكلمة الصادقة سلاح ماضٍ من أسلحة المقاومة الفلسطينية، لا تقلّ أهمية وخطورة عن القذيفة، في مواجهة العدو الصهيوني  مغتصِب الأرض، والقوى المساندة له.

الله صبرًا وتمكينًا ونصرًا

Egypt Air