بعد توقف دام 11 عاما عن الكتابة المسرحية بدأ الكاتب السوري سعد الله ونوس يطل برأسه من جديد على ساحة الإبدع عام 1989 بكتابته لمسرحية "الاغتصاب" والتي استلهمها من مسرحية "القصة المزدوجة للدكتور بالمي" للأسباني بوييرو باييخو، لكنها نقلها إلى البيئة العربية وعالج من خلال إطارها الدرامي واحدة من أهم القضايا العربية ألا وهي قضية الصراع العربي الإسرائيلي، وفي معالجة ونوس تحتوى المسرحية على راويين وحكايتين، راو إسرائيلي، وراوية فلسطينية وحكايتين متجاورتين ومتداخلتين إحداهما حكاية إسرائيلية والأحرى حكاية فلسطينية وطبيعة الحكايتين اقتضت تقسيمة شكلية للمسرحية توزعت عناوينها الجانبية التي وضعها ونوس بين أسفار للأحزان اليومية التي يخلفها هذا الصراع المشتعل دوما، وأسفار للنبوءات كأسفار خاصة بحكاية الجانب الفلسطيني والتي ترويـها "الفارعة" الشخصية النسائية الرئيسية في المسرحية وأخرى للجانب الإسرائيلى ويرويها "منوحين" الطبيب النفسي وصاحب الفكر المعادي للأفكار الصهيونية.
وعبر الحكايتين لا يقوم ونوس بتسييس جمهور يعايش ويشاهد الحكاية داخل النص ليتبعه جمهور آخـــــر خــــارج النص كما فعل في بعض مسرحياته الأخرى من مثل "مغامرة المملوك جابر" لكننا نجده وهو يمسك بمشرط الجراج ليشرّح شكل الصراع العربي الإسرائيلى وفيه يفرّق بين الصهيونية كأيديولوجية وبين اليهودية كمذهب دينى مؤكدا على أن للصهيونية امتداداتها داخل اليهود وداخل العرب أيضاً، فكما يوجد للصهيونية أعداء من العرب فلها أيضاً أعداء من اليهود وهي كمفهوم تعنى كل من يؤمن بدولـــة إسرائيل الكبرى وبإقامة وطن قومي لليهود قائم على التعذيب والتنكيل، وبالتالي كل من يؤمن بهذا الفكر أو يسانده بأية طريقة سواء بالقول أو بالفعل فهو يندرج تحت فهم سعد الله ونوس للصهيونية.
وأحداث المسرحية تدور داخل الأراضى الفلسطينية المحتلة وتقوم بنيتها على خطين متجاورين ولكنهما غير منفصلين إذ يتماسان في كثير من الأحيان فالخط الفلسطيني يقوم على حكاية أسرة المناضل "إسماعيل" والذى تعتقله القوات الإسرائيلية ويتم إخصاؤه داخل السجن كما يقومون أيضا باغتصاب زوجته "دلال" أمامه لإجباره على الاعتراف عن رفاقه من الفدائيين، مما يصل به في نهاية رحلة التعذيب إلى الموت ومن ثم تتحوّل زوجته "دلال" من إمرأة فلسطينية عادية لفدائية. تضع حياتها على كفها وتنتظر الموت في سبيلها للانتقام لزوجها وتحرير الأرض، وهذا الفهم يبين لنا في أحد جوانبه كيف تتكون المقاومة الفلسطينية ضد العدو الصهيوني.
وخط الحكاية الإسرائيلية يدور حول ضابط المخابرات "إسحاق" المصاب بعجز جنسي والذى يلجأ إلى الطبيب النفسى "منوحينط لعلاجه وتخليصه من عجزه، وخلال سرد تفاصيل هذا الخط الدرامي نعرف أيضا أن زوجة "إسحاق" والتي تسمى "راحيل" تعرضت للاغتصاب على يد زميله "جدعون" في المخابرات. ويمتلئ الخطان بتفصيلات كثيرة أخرى عن الجانب النفسى لدى كل شخصية ففي حين نجد شخصية د."منوحين" الطبيب النفسى الذى يعادى الفكر الصهيوني نجد شخصية "مائير" رئيس جهاز الأمن الإسرائيلي علــى النقيض من ذلك تماماً فهو يعتنق كل الأفكار الصهيونية ومتشبع بها لحد التخمة، وبينما نجد داخل الحكاية العربية شخصية "إسماعيل" المناضل الذي يدفع حياته ثمناً لهذا النضال نجد أخوه "محمد" قد أفقدته التعذيبات الإسرائيلية القدرة على المقاومة فغدا مستسلماً بائسا.
كيف يربّون أبناءهم
ونلمح هنا في كلا الجانبين خيطاً رقيقاً يكشف عن شكل تربية الأجيال الجديدة في كلا الجانبين الفلسطيني من ناحية والإسرائيلي من أخرى فنجد "الفارعة" والتى تمثل راوية الجانب الفلسطينى تحادث ابن أخيها الطفل "وعد" قائلة له: "ماذا حكى وعد وعمره بالشهور لا بالسنوات حكى قال: الدجاجة لها بيت .. بيت الدجاجة اسمه القن، العصفور له بيت بيت العصفور اسمه العش.. الأرنب له بيت، بيت الأرنب اسمه الجحر .. أما أنا الفلسطيني فلا بيت لى.. لأن بيت الفلسطيني يحيا فيه الآن عدو الفلسطيني".
وبالمقابل نجد في الحكاية الإسرائيلية الأم (أم اسحاق) وهي تحادث "مائير، جدعون، موشى" وهى المعبأة توراتيا قائلة لهم: " كل مكان تدوسه بطون أقدامكم يكون لكم . من البرية ولبنان، من نهر الفرات إلى البحر الغربي يكون تخمكم"
ويمتد هذا الخط فى النمو فنجد "الفارعة مازالت تلقن "وعد" (الممثل للجيل الفلسطيني القادم) دروس التاريخ وهي تردد "واحتل الصليبيون القدس وأسسوا الممالك والقلاع، وظنوا أن الأمر استقام لهم لكن القائد صلاح الدين الأيوبى أعد عدّة الحرب وانقض.." ويوازى هذا أيضاً فى الجانب الآخر رأياً فى ما يرى أنه الرجولة من جانب "جدعون" أحد ضباط المخابرات الإسرائيلية كنموذج لما سيصير عليه الطفل الإسرائيلي مستقبلا نتيجة الدروس التلقينية التي يربّيه عليها الفكر الصهيوني من مثل مقولات: "ليس لدى أصدقاء، القوة هى صديقى الوحيد أنا من أجيال الصابرا من هؤلاء الذين يتعلمون أن الرجل الفعلى لا يحتاج إلى أصدقاء وأن عليه ألا يثق بأحد"
ماذا يعني تدمير الثقافة؟
وهذا هو نفس الفكر الذى يؤمن به "مائير" نفسه ويعمل جاهداً على بثه في كل ضباطه فهو أحد الذين يحملون الفكر الصهيونى إلى حد التعصب والجنون، لذا نراه يردد مخاطبا "جدعون" قائلا له: "عليكم ألا ترحموا حتى تدمروا نهائياً ما يسـمى بالثقافة العربية التي سوف نبنى حضارتنا على أنقاضها" وهنا "مائير" يكشف أن أحد أهم أسباب المقاومة العربية تنبع من ثقافة عربية راسخة، لذا فقد رأى أن الإطاحة بهذه الثقافة العربية إجمالا والفلسطينية خاصة لا بد وأنه سيعبّد له طريقاً إلى مبتغاه فمحو هوية وثقافة الإنسان يجعل من السهل على الآخر اختراقه.
لذا سنجد أن شخصية الشاب "محمد" داخل المسرحية تدل على الحالة التى يمكن أن يصل إليها غيره من الشباب العربي والفلسطيني بصفة خاصة إذا ما تغلغلت داخلهم هواجس الثقافـة الصهيونية، وما يتبعها من هواجس الاستسلام واليأس، وهذا ما دفعه إلى أن يسعى للعمل في محال الإسرائيليين فلقد وصلت به حالة الخنوع والاستسلام إلى أن يرى أن الاحتلال الإسرائيلي قائم "سواء عملنا معهم أم لم نعمل" ثم يؤكد لـ "الفارعة" أنها لو ســـــــافرت مثلـه ورأت "كيف تجرى الأمور فى البلاد العربية لعرفت أن "الاحتلال قائم وأن بوسعهم احتلال المزيد لو شاءوا " وهذا النموذج السلبي هو ما يقابله فى الواقع نماذج إيجابية، فإذا كان "محمد" على هذا الشكل من الخنوع فأخوه "إسماعيل" يقاوم بكل ما أوتى من قوة هذا العدو الصهيوني خارج بلاده..
وكما تحدث تمزقات على مستوى الكتلة العربية تحدث تمزقات أكثر علـــى مستوى الكتلة الإسرائيلية والتى يكشفها تمرد "اسحاق" على "مائير" وعدم استجابته لأوامره فهو يكشف أن هذا "المائير" ما هو إلا شخص أنانى متغطرس، متعصب يمتلأ بالعصاب والجنون و يبنى مجده على جثث القتلى ومنهم أبوه، لقد فجر "اسحاق" كل هذه القضايا من داخل فكرة عجزه الجنسي التي أوردها النص عنه والتي بسببها يستطيع "جدعون" إغواء زوجته "راحيل" واغتصابها وهو ما يزيد من عجز "يائير" ولعل أكبر ما يكشف هذه التمزقات هو شخصية الطبيب النفسى .د منوحين والذي يعادي الفكر الصهيوني رغم يهوديته لذا فهو يحلّل شكل التربية والتي نوّهنا عنها قبلاً - تلك التى وصلت بالإسرائيلي إلى هذه الطريقة البشعة والبعيدة عن الإنسانية.
لذا نراه في أحد مشاهده يقرر "فى تربيتنا الصهيونية يعلموننا الكراهية بصورة دؤوبة ولكنهم لا يبالون بالحدود التي يمكن أن تتحملها بنيتنا الإنسانية. إن الكراهية المطلقة الحد الذى يمكن أن يسوغ كل شئ ويمنـــع الاحتلال، ولكن من هو الإنسان الذى يصير كراهية مطلقة ولا يتداعى".
وكأن تلك نبوءة لــ "منوحين" حيث نجد "إسحاق" يتداعى ويصاب بالعجز الجنسى مما يحعله يصب جام غضبه على بني جنسه مما يتسبب في قتله بيد "مائير" ويعلن بعدها أنه مات أثر حادثة عابرة و "راحيل" هي الأخرى تتداعى ولكن بطريقة أخرى حيث تصب لعناتها على نفسها جرّاء ما حدث لها من اغتصاب على يد "جدعون" فتثور في وجه أم اسحاق قائلة "أنت يا امرأة الحليب الفاسد. كنت أحاول مساعدة ابنك وهذا ما نالنى .. انظریى جسدى وثيابي يا مرضعة الذئاب".
اليهودية والصهيونية
د. منوحين هنا في تشريحه لطبيعة المجتمع الإسرائيلي وفكرة الصهيونية نراه يهدم هذا الكيان الصهيونى من أساسه الأخلاقي والفكري حينما يكشف أن كل مؤمن بفكرة الصهيونية له صفات غريبة وولاءات أغرب، إذ نراه يقرر: "إن ولائى ليس للقانون بل للعدالة وليس فيما تفعلونه أى عدل، وليس في احتلال الأراضى أى عدل. وليس فى التزمت الصهيونى الذى تأسست عليه دولة إسرائيل أى عدل"
والكاتب المسرحي السوري سعد الله ونوس بكل هذه الشخصيات المعبرة عن حالات فكرية ومواقف إنسانية يرصد ويفتت الكيان الصهيونى على يد أبناء هذا الكيان نفسه، ويؤكد مرارا على هشاشة هذا الكيان المحتل من داخله فتصويره لشخصية "منوحين" يعني أن اليهودية كعقيدة مختلفة تماما عن الصهيونية وأن الفرق بينهما شاسع، وفي محاولة من ونوس لتأكيد مقولاته داخل النص الجرامي نراه يكتب حواراً محتملاً في نهاية المسرحية يعنونه بـ "سفر الخاتمة" بينه وبين "منوحين" يؤكد فيه وجود مثل هذه الشخصية المعادية للفكر الصهيونى داخل الكيان الإسرائيلي نفسه، كما يؤكد العكس، أن داخل الكيان العربي امتدادات للشخصية الصهيونية بغض النظر عن الديانة، والمتابع لما يجرى في العالم الآن سيجد بالفعل نظيرا لشخصية "منوحين" اليهودي والمعادي للصهيونية، وسيجد في المقابل نموذج لشخصية العربي المتخاذل وهو ما يؤكد رأي ونوس في أن للصهيونية امتداداتها داخل الجسد العالمي عربي كان أو أجنبي، كما نراه يقرر أيضا وبشكل صريح وواضح أن الصهاينة هم فئة مؤدلجة ومنبوذة من الجميع واصفا إياهم بقوله: "ليس بوسع العرب ولا اليهود أنفسهم التعـايش معه.
والصراع العربي الإسرائيلي الممتد زمنيا منذ عام 1948 هو صراع تاریخی وسياسي ويقتضى وعياً مزدوجاً، وعياً للواقع العربي من جهة ووعياً تفصيلياً ودقيقاً لإسرائيل ولمشروعها الاستعماري وخططها تجاه المنطقة العربية، وبمثل هذا الوعى الذى يتجاوز المواقف الشعائرية والطقوسية يمكن أن نبلور نضالاً طويلاً وصعباً وواعيا نواجه فيه إسرائيل، ونعيد صياغة تاريخنا في الوقت نفسه. ومسرحية "الاغتصاب" شأنها كمسرحيات كثيرة تناولت هذا الصراع تشرح آليات هذا الصراع بشقيه الخارجي المتمثل في الكيان الصهيوني والداخلى المتمثل في امتدادات الكيان الصهيونى داخل الوطن العربي.