الثلاثاء 7 مايو 2024

فلسطينُ المبارَكةُ في شِعْرِ القَسِّ السُّوريِّ جُوزيف إيليا


أ.د/صبري فوزي أبوحسين

مقالات11-12-2023 | 12:10

أ.د/صبري فوزي أبوحسين

لا ريب في أن شرائع الأنبياء-عليهم السلام- كافة، جاءت لحماية الإنسان، أي إنسان، بلا تمييز أو عنصرية، وأن غياب تعاليم هذه الشرائع أو تغييبها من حياة الناس، أدى إلى انتشار الكفر المُدمِّر والنزعة الشيطانية الإرهابية المُخرِّبة في ربوع العالم كلِّه! تلك التي ترضى وتبرر قتل الأبرياء من الأطفال والنساء وكبار السن والمرضى، والاعتداء على دور العبادة المقدسة، والمؤسسات المَدَنية من مستشفيات ومدارس ومصالح حكومية، اعتداءً قاسيًا همجيًّا، لا يرضاه عاقل ولا منصف، ويظهر أثر ذلك بجلاء في قضية فلسطين المُبارَكة، منذ نكبتها عام 1948م على يد الصهاينة المجرمين ومن عاونهم، وإلى آننا الدامي هذا! تلك العصابات المستكبرة المرتزقة، والهمجية المحتلة، التي لا تعرف للإنسان حُرمة، ولا تعطي للمكان أمانًا و لا ترى للمخلوقات حقًّا! فتعيث في الأرض فسادًا، وتهلك الحرث والنسل: تدميرًا وحرقًا وجرحًا وقتلاً، بأعتى الأسلحة وأفتك آلات الموت جوًّا وبَرًّا وبحرًا؛ مما أدى إلى إزهاق أرواح الآلاف من الأبرياء أطفالاً ونساءً وشيوخًا، بل وشبابًا واعيًا مُعمِّرًا! خلال ما يزيد عن خمسة وسبعين عامًا! ومن ثم صارت قضية فلسطين حدًّا فاصلاً بين فسطاطين لا شِيَة بينهما: فسطاط الحق، وفسطاط الباطل؛ ففلسطين قضية كل عربي وعربية، وهمُّ كل إنسان متحضر، في كل زمان ومكان، من أهل فسطاط الحق! ومن لا موقف إيجابي له تجاه فلسطين عليه أن يُراجع عقلَه وتديُّنَه!

ومن الظواهر الإيجابية التي ينبغي أن نسلط عليها الضوء في مسيرة الأدب العربي المقاوم لكل اعتداء واحتلال واستكبار، عبر هذه المقالة، ذلك الموقف الإيجابي النبيل الشجاع للقيادات الدينية المسيحية العربية من قضية فلسطين؛ فقد أعلن البابا شنودة الثالث موقفه كاملاً من مقاومة الكيان الصهيوني الظلوم الغشوم بتقريره أن إسرائيل الحالية ليست شعب الله المختار، وأن فكرة شعب الله المختار كانت لفترة معينة أو لغرض معين وانتهت! وأن اليهود جاءوا إلى فلسطين بوعد من بلفور، وليس بوعد من الله! وأننا لن ندخل القدس إلا وأيدينا في أيدى إخواننا المسلمين"، ولم تخرج الكنيسة عن الصف العربي في مواقفها تجاه القضية الفلسطينية على مَرِّ تاريخها؛ فقد أصدرت الكنيسة بيانًا رفضت فيه نقل السفارة الأمريكية إلى القدس؛ تمهيدًا لإعلانها عاصمة للدولة المفتراة (إسرائيل)، ومازالت حتى اليوم تشتبك مع المحاكم الصهيونية لاستعادة دير السلطان المملوك تاريخيًّا لها من يد الرهبان الحبشيين، الذين استولوا عليه منذ سنوات، فلم تخرج الكنيسة عن النسق العربي الرافض للوجود الصهيوني في القدس العربية...

وفي آننا هذا نجد قَسًّا سُوريًّا، وإنسانًا نبيلاً، مرهف الحس، يعد من أبرز أعلام الأدب  في الساحة الثقافية العربية الحالية، سواء في منتدياتها الواقعية، أو مواقعها الافتراضية؛ فهو مثقف يجمع بين التدين المعتدل والشاعرية الطيبة، إنه صديقي القس السوري الشاعر جوزيف إيليا، المولود في مدينة المالكيّة التّابعة لمحافظة الحسكة ١٩٦٤م، وقد صقل موهبته الشعرية بالتعلم الذاتي، وكانت دراسته الأكاديمية في مصر في الفترة (١٩٨٨ – ١٩٩١م)، ثم كان رئيسًا للطّائفة الإنجيليّة فيها لمدّةٍ اقتربت من ربع قرنٍ، واضطرته الظروف القاسية إلى ترك وطنه نازحًا إلى ألمانيا! وقد ارتكز في حياته على دعائم فكرية قوامها الإنسانية والوطنية، والمحبة والتسامح والعطاء، ومن ثم كانت توجهاته الوطنية والقومية الصادقة، وتشهد له وسائل الإعلام ومواقع التّواصل الاجتماعيّ بأنه شخصيّةٌ محبوبةٌ فاعلة؛ فهو يكتب ما يظنه خادمًا للواقع الثّقافي، ودافعًا إلى العمل الوطنيّ، ومساندًا للحالة الإنسانيّة، يقول مخاطبًا كل المنكوبين:

جرحُكم جرحي وإنّي مُثْخَنُ     لو دُفنتم في قبورٍ أُدفَنُ

وإذا قـمـتـم شَـدَتْ أغنيتي        نـغَمًا إيقاعُهُ يُستحسَنُ

ونرى ذلك في أعماله الشعرية الكاملة، البالغة أربعة مجلدات، والتي فيها أكثر من اثني عشر ألف بيتٍ من الشّعر! وأكثر من مئتي قصيدة تفعيلةٍ؛ فهو (رجل دين) يشعر بالإنسان، و(شاعر) يؤمن بالإنسان، ويحيا في عوالم إنسانية تحترم الاختلاف والتعددية، ويرى أنّ مسؤوليّة المثقّف والأديب والشّاعر والمفكّر لا تقلّ خطورةً ولا أهميّةً عن مسؤوليّة السّياسي في إيقاظ الوعي، وإظهار مواطن الخلل في مفاصل المجتمع، وإبراز مخاطر الكراهيّة ولَجْم جماح التّطرّف، وتشجيع الأفكار الّتي من شأنها دعم حقّ الفرد وحرّيته وحفظ السّلم الأهليّ، ولهذا فإنّه لزامًا عليهم من منطلق هذه المسؤوليّة أن يَنهضوا ويُنهضوا؛ كي يتمّ ضمان عيشٍ أكرم ومستقبلٍ أفضل لأجيالنا القادمة. إنه من أشدّ الدّعاة إلى أن يعود الشِّعر إلى تفاصيل الحياة ويوميّاتها، وإلى أن يكون له دورٌ فاعلٌ في تغيير الواقع إلى الأفضل، وألّا يقتصر وجوده على النُّخب، وإنّما يتعدّاها إلى عامّة النّاس؛ لهذا ابتعد في شِعره عن الكلمات القاموسيّة الميّتة، مستخدمًا كلماتٍ سهلة الفهم والاستيعاب ورافضًا طلسمة المعاني والعبارات حتّى لا تجد الجماهير نفسها نائيةً عن دنيا الشِّعر؛ فالشِّعر يكتب للنّاس جميعًا.. كما يقرر القَسُّ الشاعر في كثير من اللقاءات الصحفية التي عقدت معه، وكما نقرأ في تجاربه الشعرية التي يمتعنا به كل يوم في منشوراته بصفحته الرقمية الفيسية، وكأني به شاعر ديوانيٌّ مَهْجري أبولِّلي! ومن أصدق ما قيل في شاعريته قول أستاذي الدكتور حسان الشناوي:

سيّديْ القسَّ النّبيلا                 زنتَ بالشِّعرِ العقولا

فــكـأنّي بكَ تستزْ                رعُ في النّاسِ حقولا!

وعندما نتصفح شعره فيما يخص القضية الفلسطينية بكل أبعادها نجد له مجموعة من القصائد الجميلة النبيلة، التي تعبر عن موقف شعري عقلاني هادئ متزن، يجمع بين الحب الروحي لها، والتقدير العقلي لها، والتضرع للإله من أجلها، والإشارة بطريقة كنائية إلى معاناة أهلها، والحث على المقاومة النبيلة، وهي قصائد متنوعة بين (التجارب المباشرة) مثل قصائد: (فلسطين، والقدس قدسي، والقدس فينا، وإلى القدس نمشي، وأرض الألوهة، وتراتيل الأمم)، ومنها (التجارب غير المباشرة) مثل القصائد: (التّطرّف واحدٌ، واحتياجٌ، وبعد رحيل العاصفة، والله يا الله، وشن حربك، وإلى متى نقتتل، ورباه ليتك، وورد الحق لا يبلى، أبعِدْ غناءكَ، جنون الساسة، معي فلتصلُّوا).

ومن يتتبع تاريخ إبداعها يجد القس الشاعر جوزيف إيليا مع القضية الفلسطينية دائمًا وأبدًا حتى هذه اللحظة الأليمة التي نعيشها الآن في غَزَّة المقاومة، وفي الضفة الغربية الصامدة، وفي القدس الشريف المغتصب، حرره الله وطهره، وعندما نعيش في ظلال هذه التجارب نجدها تتنوع إلى أبعاد ثلاثة، هي:

التجارب الشعرية الفلسطينية المباشرة:

من يقارب تجارب القس جوزيف المباشرة في فلسطين يجد حبًّا جمًّا لها، وتقديرًا ودعاءً مخلصًا لها، يقول من نُتفة نظمها في١٧ / ١١ / ٢٠٢٢م:

وفلسطينُ بيْ تصوغُ نجومًا      فأراني أمشي بهيَّ الجبينِ

شرفٌ لي زيتونُها منهُ أُعطى    يا لهُ مِنْ كنزٍ عظيمٍ ثمينِ

يا إلهي صُنْها مِنَ الشّرِّ أرضًا   ليــســوعٍ و للنّبيِّ الأمــيــنِ

وله تجربة ثانية بعنوان(فلسطين) نظمها في ١٥ - ٧ – ٢٠٢٠م، يقول منها:

هي الأسمى هي الأحلى بلوحِ الكونِ تلوينُ

وأقــدامٌ لـهــا تـــمــشي بـــدربٍ مــا بــهِ طـــينُ

إلــى الأقــداسِ مــَســعــاها ففيها يثمرُ الدِّينُ

بــلادُ الــرّوحِ مــا صــالــت بواديها شياطينُ

إلــى أبــوابــِها جــاءت بــإيــمــانٍ سـلاطينُ

و"تــوراةٌ" و"إنــجــيــلٌ" و"قـرآنٌ" بها صِينوا

ثم يبشرنا ببقائها وحضور صوتها بقوله:

ســتبــقى مــثــلمــا نــرجو تُحلِّيها تـلاحـينُ

ولن يُخفى لها صوتٌ ولن يبلى بها تينُ

ولن يـلـهوْ بها وحـشٌ ولن تـحيا ثعابينُ

ســلامًا يا "فلسطينُ" ولا أدمـتْكِ ســكّينُ

ويخص القس الشاعر القدس المباركة بخمس تجارب شعرية متنوعة في شكلها ومضمونها، هي: (القدس قدسي، والقدس فينا، وإلى القدس نمشي، وأرض الألوهة، وتراتيل الأمم)؛ ففي نتفته الشعرية المعنونة بـ(القدس فينا)، والتي نظمها في٧ - ١٢ – ٢٠١٧م، يقرر بقاء القدس وخلودها في النفوس المحبة، فيقول:

" القُدْسُ " فينا صاحيهْ     مهما فعلتم باقيهْ

كالنّور تبقى حيّةً         تزهو كغصنِ الدّاليهْ

أرضُ"المسيحِ" "وأحمدٍ"   " للنّصرِ يومًا آتيهْ

وفي تجربته (إلى القدس نمشي) التي نظمها في ٢ - ١٠ – ٢٠١٥م، نجد الهمَّ الجاثمَ عند القَسِّ على حال القدس داعيًا إلى تطهيرها ممن سماهم (الأغراب) قائلاً:

مالوا إلى بلدي يسقونَ حِنْطتَها        سُمًّا فمَنْ يُخرِجُ الأغرابَ من بلدي؟!

ثم نجده يصور مستقبل القدس في نظره بقوله:

لترجعَ "القُدْسُ" قُدْسًا في مرابعِنا       نمشي إلـيـها بـظـلِّ الـواحــدِ الصّــمَـدِ

فإنّها "القُدْسُ" تبقى لحنَ نغمتِنا        عــلى خُـطاهـا سنمشي رحـلـةَ الأبـدِ

معًا ونبني جسورَ الطُّهْرِ مِنْ فمِها      كي ننتهيْ مِنْ فسادِ الرّوح والجسدِ

ونرسُمَ الفجرَ مِنْ ألوانِ صحوتِنا         ونطلقَ الصّوتَ مثلَ الطّائرِ الغَرِدِ

وينهج النهج نفسه في تجربته(أرضُ الأُلُوهة) التي نظمها في ٧ / ٨ / ٢٠٢٣م، فيقول منها:

القدسُ بستانُ المباهجِ تُشتهى    ممّن رأى وجعًا وممّن قد حزِنْ

ترنو إليها أعينٌ لمْ تنطفئْ          ولـهـا نـفـوسٌ حُـرّةٌ شوقًا تحِنْ

والرّبُّ يحرسُ مجدَها متألِّقًا      هــذي الّتي بقيتْ كصخرٍ لمْ تَـلـِنْ

وتظلُّ دومًا نخلةً لا تـنـحـنـي       ومَـنِ ارتـجـى مـوتـًا لهـا حيًّا دُفِنْ

فلفلسطين المباركة وللقدس الشريف كل حب وكل تقدير، وكل دعاء وتضرع، وكل نظرة متفائلة لمستقبلها في مرآة القس الشاعر، بارك الرب قلمه...

التجارب الفلسطينية غير المباشرة:

وتأتي التجارب الشعرية غير المباشرة عن فلسطين في رؤى تتعلق بالقضية شعوريًّا وفكريًّا وإعلاميًّا، ففي تجربته(أبعِدْ غناءكَ) يرفض مظاهر الفرح وقت ابتلاء العرب بكل صنوف القهر، يقول:

غناؤكَ أبعِدْهُ عن أذُني    فمشلولةً أصبحت سفني

ودمعي من القهرِ منسكِبٌ   وروحي مفارِقةٌ بدني

أُجرَّعُ ماءً رديئًا وفي    طعامي كثيرٌ من العفَنِ

وفوقي رمالٌ وتحتي حصًى  وتركُلُني أرجلُ المحنِ

فكيفَ يطيبُ غناؤكَ ليْ    ومحترقٌ وجهُهُ وطني؟

وفي نُتْفته(جنونُ السّاسة) يقول منتقدًا تدمير المدن عن طريق الصراع السياسي المجنون:

بجنونِ ساستِنا هوتْ مدُنُ   وغزتْ مسارحَ دهرِنا محِنُ

يجنونَ أمجادًا وأوسمةً       وشعوبُهم دمُها هو الثّمَنُ

وفي تجربته(التّطرّف واحدٌ) التي نظمها في ٦/ ١٢ / ٢٠٢٠م، يعبر عما قام به أحد المتطرّفين اليهود في الرّابع من شهر كانون الأوّل ٢٠٢٠م بمحاولة إحراق كنيسة "الجسثيماني" المعروفة بكنيسة (كلّ الأمم)، وهي واحدةٌ من أقدس كنائس القدس، وقد تمّ القبض عليه قبل إتمام عمله الأثيم وإنقاذ الكنيسة من شرّه المستطير، يقول:

وجهُ التّطرّفِ واحدُ لجحيمِ بلوًى والدُ

يُنمي مزارعَ بِغْضةٍ فيها الوجودُ شدائدُ

الفهْمُ عنهُ غائبٌ والنّورُ فيهِ خامدُ

قهرُ الخلائقِ سعيُهُ منهُ الجميعُ يكابدُ

مَنْ سارَ في طُرقاتِهِ باتَ الشّرورَ يساندُ

فِتَنٌ دمٌ أجواؤهُ وكوارثٌ ومكائدُ

سيجِفُّ وردُ حياتِنا إنْ ظلَّ يعظُمُ حاقدُ

يا ليتنا حقًّا معًا ضدَّ الغُلُوِّ نجاهدُ

وهي صورة شعرية دالة على رؤية ثقافية منصفة ترى أن الإرهاب لا دين له، ولا جنس له، ولا مكان، وأنه موجود في جهلة متشنجون ممَّن حولنا، وأضراره ماثلة في كل ما حولنا، وهي خطيرة فاتكة، فواجب على الجميع مجاهدته!

وتعد قصيدته (إلى متى نقتتل؟) رفضًا لكل اقتتال، تلك التي نظمها في ٦ / ١٠ / ٢٠٢٣م، والتي بدأها بقوله:"ما قُتلَ إنسانٌ بصرف النّظر عن انتمائه الاثنيّ والدّينيّ والسّياسيّ في أيّة بقعةٍ من بقاع العالم وإلّا وشعرت أنّني أنا من قُتل..." فدعا إلى السلم قائلاً:

الجـرحُ بــاقٍ لــيـس يندملُ     ووجوهُنا بالنّارِ تشتعلُ

ماذا دهانا؟ الرّملُ يطمِرُنا    نمشي إلى غدِنا ولا نصلُ

نـعـرى ولا ثـوبٌ يـدثّرُنا      ويـغـيبُ عن أفواهِنا العسلُ

والسّيلُ يجرُفُنا إلى حُفَرٍ   وعلى الّذي شِدنا هوى جبلُ

نـغـفـو عــلى وجعٍ ويـقظتُنا    قلَقٌ بهِ للخوفِ نـرتحلُ

ويستنكر كون هذا الاقتتال الدموي شائعًا في أمتنا العربية دون غيرها من الأمم، فيقول:

ما بـالُ أمـّتِنا يعاركُها     مـوتٌ وعـنـها لـيـس ينتقلُ؟

يـسـطو عـلى أبـنائـِها فدمٌ    جارٍ ودمعٌ ظلَّ ينهملُ

والجوعُ يُنهكُها وفي عطشٍ  باتت تئنُّ ودُمِّرَ الأملُ

تبًّا لحربٍ ضيّـعـتْ وطنًا   فـغـدا كسيحًا داؤهُ الشّللُ

تُرمى حمائمُنا بقنبلةٍ   ومِنَ الذّئابِ يلاحَقُ الحَمَلُ

ثم يدعو إلى السلام بقوله:

سنموتُ والآتي سيدهسُنا  إنْ لمْ تُمَتْ في فكرِنا العِللُ

عودوا إلى سِلْمٍ يهدهدُنا   فإلى متى يا قومُ نقتتلُ؟

ونجد حثًّا مباشرًا على الكفاح والمقاومة ضد القَهَرة الفَجَرة في تجربته (بعد رحيل العاصفة) التي نظمها في ٢٧ /١٠ / ٢٠٢٣م في زمن معمعة العدوان الصهيوني الغاشم على غزة، يقول:

مـا للجــيادِ واقــفــهْ لــدمــعِ قــهـــرٍ ذارفهْ

مـرجومةً مرميّةً لجوفِ كهفٍ زاحــفهْ

ولــمْ تــزلْ قــويّةً عــلى السـّباقِ عــاكـفهْ

يـا ليتها في دربِها تسيرُ غيرَ خــائـفهْ

لــمـن أعــاقَ خطوَها بقيدِ شوكٍ نــاسفهْ

وحــربُــهــا فــائــزةٌ عــلــى الرّعــودِ القاصــفهْ

وتجد الدعوة إلى المقاومة النبيلة-أيضًا- في تجربته(شُنَّ حربَكَ) التي نظمها في ١٠ / ٧ / ٢٠٢٣م. وفي تجربته(اللّه يا اللّه) التي نظمها في ٢٩ / ١٠ / ٢٠٢٣م، يقول متعجبًا أو مستنكرًا:

وإلى متى يغتالُنا الألمُ     ويفِرُّ مِنْ أعوادِنا النّغمُ

نُنسَى مِنَ الدّنيا وتحملُنا   سفنٌ إلى ما فيهِ نصطدمُ

ما ذنْبُ زنبقةٍ لنا دُهِستْ    مِنْ أرجلٍ في دوْسِها سقَمُ

وديارُنا ما ذنبُها سقطتْ      وبنا بقفْرٍ رحّبتْ خِيَمُ

...ثم يتضرع قائلاً:

اللّهُ يا اللّهُ نكبتُنا             تزدادُ والبركانُ يضطرمُ

لا ناصرٌ إلّاكَ ينقذُنا         ومسامعُ الدّنيا بها صمَمُ

فأرسِلْ ملائكةً لنجدتِنا       إذْ أرضُنا كثُرَتْ بها الرِّممُ

إنْ لمْ تخلِّصْ أنتَ لا أُفُقٌ    يبدو وسوفُ يلُفُّنا العدَمُ

ويخض التضرع والدعاء بقصيدة نظمها يوم11/11/2023م، بعنوان(معي فلتصلُّوا)، يقول منها:

معي فلْتُصَلُّوا لتبلى الحروبُ                وترتاحَ مِنْ صانعيها الشّعوبُ

فقد شربتْ سمَّ بلوى وماتت                عصافيرُها وأتتْها كروبُ

وينحو القس الشاعر في القضية الفلسطينية منحًى ثقافيًّا؛ فله قصيدة بعنوان(ورد الحقّ لا يبلى) عن الصّحفيّة الفلسطينيّة المقاومة، والإعلامية البطلة شيرين أبوعاقلة، الّتي ما إنْ سمع بنبأ استشهادها الموجع، وهي تؤدّي عملها الإعلامي في١١/٥ /٢٠٢٢م حتّى أسرع إلى قلمه فكتب على عجلٍ مرثية، مطلعها :

إلى الأمجادِ شيرينُ بها تزهو بساتينُ

دعتْكِ اليومَ في حُبٍّ لترتاحي عناوينُ

فقولي: لستُ أخشاها وإنْ هاجت ثعابينُ

فإنّي بنتُ تاريخٍ لهُ في الأرضِ تكوينُ

رفعتُ الصّوتَ لمْ أرهبْ بهِ للصّخرِ تليينُ

ستنأى موجةُ البلوى وتأتينا فلسطينُ

 

وهكذا نرى في هذا التجارب رؤى فكرية متنوعة في عرض القضية الفلسطينية، عرضها شاعرنا جوزيف إيليا عرضًا شعريًّا دعويًّا وإعلاميًّا طيبًا نبيلاً...

توظيف قالب الأنشودة

معروف أن القس الشاعر جوزيف يحرص على إبلاغ رسالته إلى أكبر قطاع من جماهير العروبة، ويتحقق هذا الهدف –كما تنطق النماذج السابق ذكرها-عن طريق النظم على الأبحر القصيرة، والأبحر المجزوءة، مع تنويع القالب وزنيًّا وقافويًّا، فنجده يوظف فن الأنشودة المعتمد على شعر مكون من مقاطع، كل مقطع له نظام خاص في القافية؛ في ثلاث تجارب، هي(القدس قدسي، تراتيل الأمم، رباه ليتك)؛ ففي تجربة(القدس قدسي) ينحو منحًى تعليميًّا؛ ليُوصِّل رسالته عن القدس إلى أطفال العروبة في كل مكان، قائلاً وإن شئنا قلنا(مغنيًّا) منها:

قُدْسٌ " قُدْسي هذا درسي  

ســأردّدُهُ    كغِنا العُرْسِ  

قدسٌ قدسي

صخرُ إبائي  صوتُ رجائي

سرُّ بقائي   مثلَ الشّمسِ

وهذا ديدنه في تجربته (تراتيل الأمم)، التي نظمها في  ١٣ / ٤ / ٢٠٢٣م، يقول مصورًا مأساة القدس التاريخية والواقعية:

القدسُ تراتيلُ الأممِ      مـا أنـقـاهـا مـنذُ القِدَمِ

يُنشدُها في طربٍ فمُنا    لنزيلَ بهِ صوتَ العَدَمِ

تـاريـخٌ مُــرٌّ حـاصرَها    مُذْ وحشُ البلوى دمّرَها

والغزوُ بعنفٍ مرمرَها   ورماها في بئرِ الألمِ

القُدسُ تراتيلُ الأممِ

أطفالٌ فيها باكونا    ونساءٌ قد ذقنَ منونا

ورجالُ العزِّ يعانونا   قهرًا بزنازينِ الظُّلَمِ

القدسُ تراتيلُ الأممِ

ثم يختم القَس الشاعر أنشودته بمقطع تفاؤلي قائلاً:

صبرًا يا قدسُ لكِ النّصرُ  مهما طالَ عليكِ الغدرُ

ولسوفَ يطيبُ بكِ العُمْرُ  إذْ تهطِلُ أمطارُ النِّعمِ

وكذا شأنه في ابتهاليته(ربّاه ليتكَ) التي نظمها في ١٩ / ١٠ / ٢٠٢٣م، وهكذا نرى، في هذه التجارب الشعرية القَسِّيَّة الآسرة، عدم وجود أي تعارض بين الدين والشعر؛ فهذا القَسَّ الشاعر الإنسان لا يحسّ بصراعٍ في داخله بين رجلي الدِّين والشِّعر، بل هما متّفقان على أحسن ما يكون الاتّفاق؛ فالدِّين هدفه تقريب الإنسان من خالقه وإصلاحه وتهذيبه ودعوته إلى كلّ ما فيه سموّه وهجر كلّ ما من شأنه قتل روح الإنسان في داخله أو خارجه!...

فليسلم صديقي القسّ السوري (جوزيف إيليا) في مجال المقاومة بالأدب والفكر والفنّ، لأجل قضية فلسطين الغالية والقدس المباركة، ولْيعِشْ منتقلاً من إبداع إلى إبداع، ومن حضور إلى حضور!

 وليسلم المجاهدون المرابطون المقاومون، وليحفظ الله أهلنا الصابرين المصابرين الثابتين، في فلسطين الحبيبة، وفي كل ديار العروبة والإسلام..

Egypt Air