بقلم – جمال أسعد
لاتزال وستظل فكرة ودعوة تصحيح وتجديد الفكر الدينى الإسلامى والمسيحى قائمة وضرورية بل حتمية لما لها من أهمية قصوى، حيث إن الفكر الدينى بشكل عام هو الذى يؤثر ويشكل فكر وسلوك معتنقى الإسلام والمسيحية، حيث إن هذا الفكر ومن خلال أساليب وآليات الخطاب الدينى يتم نقل هذا الفكر؛ حيث إنّ الإشكالية ليست في الخطاب وهو الوسيلة، ولكنها فى الفكر وهو الأساس الذى يبنى عليه صحيح العقيدة التى تتمسك بالدين وبصحيح تفسير النص الدينى
وبالتالى تقبل الآخر الدينى وغير الدينى. ولما كانت الدعوة قد بدأت بتجديد وتصحيح الفكر الدينى الإسلامى، حيث كانت من الرئيس السيسى لرجال الأزهر وفي مناسبة دينية إسلامية قد فهم من ذلك أن هذه الدعوة تقتصر على الفكر والخطاب الدينى الإسلامى دون المسيحى؛ ولذا يعتقد ويتصور رجال الكنيسة والمسيحيون أن الفكر الديني المسيحى لايحتاج إلى تصحيح ولا يعوزه تجديد حتى أن البابا تواضروس قد قال هذا صراحة في حديث له في مجلة المصور، وقمت بالرد بالمصور فى مقال بعنوان “تصحيح الفكر الدينى الإسلامى والمسيحى أيضاً يا قداسة البابا”، ومشكلة هؤلاء هي اختصارهم لفكرة التصحيح فى العمليات والفكر الإرهابى فقط. ولذلك رأينا بعض الذين يظهرون في قناة زكريا بطرس والذين مع قناتهم يقومون بدور ترويجى لفكر دينى غير صحيح بل خطير يسىء أول ما يسىء إلى صحيح الفكر الدينى المسيحى بمحبته وتواضعه وسماحته وقبوله للآخر، ذلك القبول الذى يفوق حدود المثالية الإنسانية فى التعامل البشرى الذى يصل فى قبول الآخر إلى حد حب الأعداء ومباركة اللاعنين، وليس الإساءة الدائمة للآخر بأساليب لا علاقة لها بالمسيحية من قريب أو بعيد، تتسق وتتناسب مع قائليها فقط. ولما اختصر هؤلاء فكرة التصحيح فى الإرهاب فقط تناسوا أن جوهر التجديد والتصحيح تعنى تجديد وتصحيح ليس الدين ولا ثوابته ولا نصوصه الإنجيلية ولكن التصحيح يعنى ويستهدف فكر البشر واجتهاداتهم الشخصية والذاتية في تفسير النص الإنجيلى حتى إن هذه الاجتهادات وتلك التفاسير هى التى أوجدت مئات بل آلافاً من الطوائف المسيحية لكنائس تقليدية كاثوليكية أرثوذكسية وإنجيلية. بل إن تلك التفاسير التى تعنى الفكر البشرى لتفسير النص ينتج عنها حروب لعشرات السنين وملايين القتلى نتيجة لهذه الحروب بين الكاثوليك والبروتستانت وهى حرب الثلاثين عاما ١٦١٨ - ١٦٤٨ أليس هذا نتيجة لفكر دينى غير صحيح؟ أليست هذه الحروب هى أعلى درجات الإرهاب باسم المسيحية والمسيح؟ ومع ذلك فنحن نقصد فى الإطار الجغرافى المصرى والعربى وعلى ضوء الواقع المعيش الآن للمسيحيين بكل طوائفهم فى المنطقة العربية تصحيح الفكر الدينى فى مجمله، وفيما يخص بعض الممارسات وكثيراً من السلوكيات التى اعتمدت على تفاسير للنص لا تتسق ولا تتوافق علي مقاصد هذه النصوص، وكثير منها اعتمد على سلوكيات وممارسات شخصية لرجال دين تم توارثها في إطار مقدس، فأصبحت جزءاً من هذا المقدس، وهى سلوكيات وممارسات شخصية وبشرية لا علاقة لها بأى مقدس، ولكنها لمجرد أنها تمت وجاءت من بعض رجال الدين “الكهنوت”.
لما كان الكهنوت التابع للكنائس التقليدية أى غير الإنجيلية “البروتستانتية” له وضع مميز؛ حيث إن في هذه الكنائس لا تتم الصلاة ولا ممارسة أسرار الكنيسة بغير الكهنوت، ولما كان يطلق على هذه الأسرار بأنها مقدسة، بالرغم من أن هذه الأسرار لم تكن بشكلها الحالى منذ بداية الكنيسة والمسيحية فى عام ٦٠ ميلادية، ولكن إذا كانت مقدسة، فبالتالى فلمن يمارسها يكون فى رأيهم أنه مقدس، ومن هنا تواتر وتوارث فكرة تقديس الكهنوت، والتقديس هنا غير الاحترام الواجب لهذا الكهنوت، فالاحترام للكهنوت وغيره هو سمة وصفة مسيحية وإنسانية لانقاش ولا خلاف على هذا، ولكن الإشكالية هنا أن هذا الاحترام الواجب قد تأثر بتاريخ وممارسات وشكل الكهنوت اليهودى والفرعونى، فلما كانت المسيحية تؤمن بما جاء قبلها؛ حيث إن هذه هى طبيعة وفلسفة الأديان. فالمسيحيون يعتبرون أن العهد القديم وهو كتاب اليهود مع العهد الجديد وهو إنجيل المسيحية فهما واحد وامتداد كل منهما للآخر، خاصة فيما يخص فكرة الألوهية، وما يتطابق ولا يتناقض مع مبادئ وقيم العهد الجديد وهو الإنجيل، حيث إن هناك ممارسات جاءت فى العهد القديم لا تتناسب ولا تتسق مع قيم العهد الجديد من القتل والحرب والتخريب الذى كان في العهد القديم، والذى لازال يؤمن به ويمارسه اليهود لا يوجد فى الإنجيل، حيث إن الإنجيل فيه حب الأعداء وليس قتلهم أو حرقهم. وبالتالى فالكهنوت المسيحى من الطبيعى جداً والمطلوب جداً أن يستمد أصوله وممارساته وسلوكياته وقيمه من كهنوت السيد المسيح، فهو يعتبر الكاهن الأعظم، ولا يستمد من هذا الكهنوت اليهودى حتى ولو كان فى العهد القديم. فالكاهن اليهودى كان مميزاً وذا موقع ممتاز وخاص ولا أحد يستطيع أن يكون كاهناً بعيداً عن سبط الكهنوت هذا، فكانت لهم امتيازات مادية ومعنوية فيأخذون جزءاً من الذبائح التى تقدم محرقة للمذبح ويحصلون على نسبة من العشور ولهم سلطة التسليم والخضوع.
وفكرة التسليم والخضوع أو فكرة السمع والطاعة هذه هى الآفة الخطيرة التى دائماً ما يتم استغلالها في كل الأديان، وتتم المتاجرة بها باسم الدين، وهى التى دائماً وأبداً ما تنتج الاستبداد الدينى، وهذا ما رأيناه فى الاستبداد الكنسى فى العصور الوسطى فى أوربا وما شاهدناه فى ممارسات الإخوان. ولذا كان التأثر بهذا الكهنوت اليهودى تحت زعم أنه قد جاء في العهد القديم الذى يؤمن به المسيحيون.
أما الكهنوت الفرعونى ، فمن المعروف أن مصر هى التى أبدعت التدين، وهى التى عرفت الإله الواحد، وإن تعددت الآلهة فى مناطق مختلفة، ولكن لم يؤمن المصرى بتعدد الآلهة. وعرف المصريون الكهنوت الفرعونى الذى ارتبط بفكرة الدين والتدين، ولما كان الفرعون ذا مكانة وسطوة وحظوة اتسقت مع طبيعة مصر والمصريين منذ البداية . هذا جعل هناك تداخلاً بين الكاهن والحاكم والإله الذى كان طريقه هذا الكاهن. ومن هنا أخذ الكهنوت المصرى القديم وضعا مميزاً . فعندما جاءت المسيحية إلى مصر على يد مرقس الرسول وجدت تلك الأرضية الممهدة لنشر هذه المسيحية . فوجدت المسيحية المعبد الذى تحول إلى كنيسة ووجدت إيزيس وأوزوريس وحورس الذى تحول إلى الثالوث المسيحى (وهذا غير عبادة الله الواحد الأحد). ووجدت مفتاح الحياة الذى تحول إلى صليب، ووجدت الكاهن الفرعونى الذى تحول إلى كاهن مسيحى . ولما تحول هؤلاء المصريون من الأديان المصرية القديمة إلى المسيحية، فكان هذا سهلاً وسريعاً حتى إن كثيراً من طقوس وألحان الكنيسة تعتمد على الألحان المصرية القديمة حتى الآن . كما أن اللغة القبطية التى هى إحدى لهجات اللغة المصرية القديمة هى لغة قد أصبحت كنسية، ويعتبرها بعض المنغلقين الأقباط أنها لغة تخص المسيحية فقط ولا تخص كل المصريين باعتبارها مصرية وليست مسيحية. هنا تأثر الكهنوت المسيحى ببعض ممارسات وسلوكيات ومظهر الكهنوت اليهودى والفرعونى القديم. فهل الكهنوت المسيحي الذى يجب أن يستمد أصوله وممارساته ومظهره من كهنوت المسيح يتناسب ويتطابق مع كهنوت السيد المسيح فى إطاره الروحى، باعتبار أن السيد المسيح هو النموذج والمثل لأى مسيحى وليس للكاهن فقط ؟ وهنا فماهى القيم الروحية والمعيشية التى يجب أن تمارسها وتكون مستمدة من السيد المسيح؟ السيد المسيح ولد فى مذود بقر لكى يعلمنا التواضع. كان لا يجد مكاناً يسند إليه رأسه. كان لايحب المظاهر الكاذبة. كان يعمل ويأكل بعرقه فكان يعمل نجارا مع يوسف النجار حتى بعد بداية رحلة التبشير كان محباً للجميع لا يفرق بين أحد. فلم يحاسب ويحاكم الزانية. فالجميع خطاة. ولم يكن حاكما بين الناس فما لقيصر لقيصر ومالله لله، ولم يحب الدنيا ولا مباهجها ولا مظاهرها، فهو مملكته ليست من هذا العالم. كات متسامحاً «اغفر لهم يا أبتاه» . على هذا ماهى سلوكيات الكهنوت الآن والتى لم تكن كذلك بل تغيرت كثير التغير فى العقود الأخيرة، نظرا لممارسات قيادات كنسية كانت لها رؤيتها وتطلعاتها ونظرتها الذاتية التى استغلت موقعها الدينى وحوادث هذه الممارسات وتلك السلوكيات إلى سلوك مقدس وكأنه جزء من المقدس العقيدى المسيحى . فهل هذه السلوكيات والممارسات تتناسب وتتوافق مع شخصية وكهنوت السيد المسيح؟ مثل تلك الملابس المزخرفة والمطرزة والمذهبة التى يلبسها الأساقفة والبابا. فما هى الأصول التى استند إليها هؤلاء للظهور بمثل هذه المظاهر التى لا علاقة لها بالتواضع المسيحى؟ مع العلم أن هذه البدعة الملابسية لم تظهر فى غير عهد البابا شنودة الثالث . فحتى عهد البابا كيرلس وما قبله كانوا يلبسون اللبس الكهنوتى الأسود العادى والتقليدى والموروث حيث إن لبس الكهنوت اجتهاد لايوجد به نصوص قطعية. فالبابا كيرلس كان يلبس الشال الأسود على رأسه دائماً ويستعمل المنديل المحلاوى البلدى ويلبس الحذاء البلدى (ابو استيك) والساعة الجيب، وهذه الأشياء موجودة فى مقبرته فى دير مارى مينا. مثل الاستقبالات والزغاريد التى حولت الكنيسة إلى مكان لايليق بالقداسة. فالبابا الآن يدخل الكنيسة فى موكب ملكى إمبراطورى، فكان البابا كيرلس يجده المصلون أمامهم داخل الكنيسة، ولا أحد يشعر بدخوله فى مثل هذه المواكب الملكية مثل تقبيل الأيدى، فلم تكن تلك العادة موجودة ولا لزوم لها . يوجد مايسمى بالتبخير للأسقف والبطرك يقف ويقوم كاهن بالتبخير أمامه بالمبخرة وهو يسجد . فمن أين جاءت تلك الممارسات الوثنية . هناك مايسمى بالمكانية أى يقوم الشخص بالسجود أرضا أمام الأسقف والبابا والإنجيل يقول «لله وحده نسجد وإياه وحده نعبد»، يتم ذكر اسم الأسقف والبابا فى صلاة القداس أكثر من ذكر اسم السيد المسيح، ماهذا الذى يحدث وكيف تسربت هذه الممارسات للكنيسة تحت اسم المقدس وهو موروث ولا علاقة له بالمقدس؟. وإذا قال أحد إن هذه ممارسات تعنى الاحترام، فالاحترام لا يكون بمثل هذه الممارسات الوثنية التى لاتتناسب مع جلال الكهنوت المسيحى، الذى يجب أن يأخذ السيد المسيح قدوة ومثلاً. والاحترام واجب ولا اختلاف عليه ولكن الاختلاف فى كل هذه الممارسات التى لا علاقة لها بالاحترام، ولكنها تخلق حالة من التقديس للبشر، الشىء الذى يحولهم إلى مقدسين، وهنا يجب الخضوع والتسليم لها وسماع مايقولون سواء كان خطأ أم صحيحاً، وعدم مناقشتهم والتسليم بما يأمرون وصحته، وبالتالى لايصح لغيرهم الاجتهاد ولا التفكير ولا الاختلاف فى الرؤى، ولذلك رأينا اختلاف البابا شنودة مع القمص متى المسكين وهو علامة من علامات الفكر الكنسى، هذا الاختلاف جعل البابا شنودة وأتباعه يعتبرون متى المسكين خارج العقيدة الأرثوذكسية . والغريب الذى يثبت خطأ هؤلاء هو لماذا لم يحاكم متى المسكين كنسيا إذا كان خارجاً على الكنيسة؟ ولكن ولسماحة الفكر تمنع كتب متى من عرضها فى الكنائس فى الوقت الذى فيه يتداولها العالم كله. هذه بعض آثار ونتائج الفكر الدينى المسيحى غير الصحيح، أو على الأقل الذى يحتاج إلى نقاش وخلاف وحوار لأنه اجتهاد وفكر بشرى قابل للصواب وللخطأ. وليس كل ماهو موروث وماهو تراث يكون صحيحاً أو مقدسا . فلا مقدس غير الله ولا مقدس غير النص الإلهى الذى يسمح بالاجتهاد والتفسير البشرى . وذلك حق لكل مؤمن أعطاه الله له حتى يكون الإيمان سليماً بالقلب والعقل ليس بالتوريث والتسليم . الله يرشد الجميع إلى الفكر الصحيح .