الإثنين 20 مايو 2024

المقاومة غاية أم وسيلة؟


د. عماد حسن مرزوق

مقالات14-12-2023 | 10:44

د. عماد حسن مرزوق

● عندما يعرض المقاوم نفسه للموت، ومنزله للهدم، وأسرته للخطر، فهو ليس إنسانا محبطا يائسا أو مغامرا طائشا، وإنما اليأس والإحباط هو خضوع المظلوم لمشيئة الظالم
● لا يرى المقاوم أن وصوله إلى تحقيق ما يقاوم من أجله ضرورة حتمية لازمة، لكنه يرى أن الضرورة اللازمة عدم التفريط فى المطالبة بحقه ما دام حيا
● المقاومة ليست حقا مشروعا دائما فحسب، وليست وسيلة إلى استرجاع الحقوق المسلوبة فقط، وإنما المقاومة هى الانتصار نفسه على محاولات الإخضاع والإذلال والقهر والخوف


تتباين المواقف من المقاومة باختلاف الرؤى حول المقصد منها، وكلما كان ثمن المقاومة باهظا ازدادت المواقف منها تباينا، فتبرز التساؤلات: ما الهدف من المقاومة؟ ما جدواها إذا كانت عاجزة عن استرداد الحق؟ وهل يجب الاستمرار فى المقاومة إذا كانت خسائرها فادحة؟ 
ثمة نظرة ترى فى المقاومة وسيلة لتحقيق غايات، كاسترداد الحقوق المسلوبة، والقضاء على قوى الباطل وغير ذلك من الأهداف المشروعة، لكن آفة هذه النظرة أنها تجعل النفعية مقياسا تحدد بها الموقف من المقاومة، فتجعلها مشروعة تارة إذا كانت نافعة قادرة على تحقيق أهدافها، وتجعلها غير ضرورية تارة أخرى إذا لم يتحقق منها هذا النفع، فإن ترتب عليها ضرر كانت ملومة مذمومة، على أن المقصود من النفع والضرر فى هذه النظرة ذلك الأثر المادى الملموس وحده دون غيره من جوانب النفع والضرر.
وهناك نظرة أخرى للمقاومة أرحب أفقا وأكثر عمقا من تلك النظرة النفعية الضيقة السطحية، حيث ترى المقاومة غاية فى نفسها لا وسيلة إلى غاية أخرى، لأن تغلب الباطل على الحق، وإن بدا أنه انتصار ظاهر، فإنه يبقى غير مكتمل ولا نهائى مادامت هناك مقاومة، فوجود مقاومة تأبى الاستسلام هزيمة للباطل، وسواء أحققت تلك المقاومة بعد ذلك نصرا ماديا أم لم تحقق فهى بذلك منتصرة فى حقيقة الأمر، لأن بقاءها يعنى أن الباطل لم يستطع أن يخرس صوت الحق، والمقاومة بهذا المعنى ليست حقا مشروعا دائما فحسب، وليست كذلك وسيلة إلى استرجاع الحقوق المسلوبة فقط، وإنما المقاومة بهذا المعنى هى الانتصار نفسه على محاولات الإخضاع والإذلال والقهر والخوف. 
إن المقاوم عندما يعرض نفسه للموت، ومنزله للهدم، وأسرته للخطر، ليس إنسانا محبطا يائسا أو مغامرا طائشا، وإنما اليأس والإحباط هو خضوع المظلوم لمشيئة الظالم، وإيثار الحياة الذليلة على الموت بكرامة ليس من التعقل فى شىء.
وليس إزهاق أرواح الأبرياء، وهدم المنازل انتصارا، وإنما الانتصار الحقيقى هو أن الأرواح تزهق دون أن تتخلى عن قضيتها، والمنازل تهدم ولم يتركها أصحابها. وإن التاريخ لا يعد القاتل عظيما لأنه استطاع القتل، والسارق شريفا لأنه تمكن من السرقة. وإنما العظيم والشريف هو الذى يقاوم قاتله وسارقه وإن لم يستطع أن يتغلب عليه. فمقاومة المظلومين أشواك فى طريق الظالمين، ودماء الشهداء صرخات فى وجوه القاتلين. 
 إن المقاوم لا يرى أن وصوله إلى تحقيق ما يقاوم من أجله ضرورة حتمية لازمة، لكنه يرى أن الضرورة اللازمة عدم التفريط فى المطالبة بحقه ما دام حيا، وقد مات أنبياء ولم يشهدوا فى حياتهم إيمان الناس بما دعوهم إليه، فهل يقال عنهم إنهم قد هزموا والله عز وجل قد قال ( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر:51] ؟
وقد مات مصلحون ولم تتحقق على أرض الواقع دعواتهم الإصلاحية وعلى الرغم من ذلك فلا يقال عنهم إن دعواتهم لم تنتصر، لأن انتصار الفكرة  فى صحتها فى نفسها، سواء أتحققت فى الواقع أم لم تتحق.
موت الإنسان ليس هزيمة، وهدم منزله ليس هزيمة، وإنما الهزيمة أن يموت الإنسان جبانا مفرطا.
وكذلك فإن الشعب الفلسطينى المقاوم منتصر وإن لقى الموت وهدمت مدنه لأنه لم يجبن ولم يفرط.
فعلى الرغم من أن المجازر الصهيونية بحق الشعب الفلسطينى الأعزل تشكل نمطا فريدا من روح العداء للإنسانية لم يعرف مثيله فى العصر الحديث، فقد أبى الشعب الفلسطينى أن يتخلى عن قضيته، واختار المقاومة التى يبذل فيها دمه وروحه، وتحمل وحده عبء الدفاع عن مقدسات الأمة الدينية وأرضها التاريخية وقضيتها القومية.
ولا يقال عندئذ عن خيار المقاومة الفلسطينية: إن ثمنها باهظ، فكم من طفل قد قتل، وكم من بيت قد تهدم على رؤوس ساكنيه، وكم من أسرة قد تشردت بعد أن فقدت عائلها، ونحو ذلك مما يقال على ألسنة من يرون فى المقاومة نزقا لا يحقق شيئا سوى الدمار والقتل للأبرياء.
لا يقال للمقاومة ذلك لأن وجود المقاومة نفسه انتصار، ولابد للانتصار من ثمن يقدمه الأحرار المخلصون لقضيتهم ومبدأهم فى العيش بكرامة أو الاستشهاد بكرامة كذلك.
إن المقاومة قد انتصرت عندما كشفت للعالم كله توحش الكيان الصهيونى الذى طالما زعم التحضر، وإن دماء النساء والأطفال التى سالت قد قدمت الدليل على أن هذا العدو المجرم فى الدرك الأسفل من الخسة والوضاعة.
إن المقاومة قد انتصرت عندما أظهرت هشاشة جيش الكيان الصهيونى واستهزأت بدفاعاته الحصينة فاخترقتها فى ساعة من النهار. 
وانتصرت عندما ظلت متمسكة بالبقاء على أرضها ورفضت الرضوخ للكيان الصهيونى حين دعاها إلى النزوح والهجرة معلنة أن جيش الباطل إن استطاع أن يضع يده على الأرض فإنه لم يستطع أن يقتلعها من قلوب أصحاب الأرض.
وانتصرت المقاومة كذلك عندما أظهرت الوجه الحقيقى الهمجى للكيان الصهيونى الذى هدد بإلقاء قنبلة نووية وكان يدعى التحضر والحفاظ على القيم الإنسانية.
إن ربط انتصار المقاومة بتحقيق أهداف ميدانية، أو مكاسب سياسية لهو اختزال لمعنى الانتصار، فللانتصار صور مختلفة، فعندما يخرج الرجل من تحت أنقاض بيته بعد أن قصف على من فيه ليقول: (فداء لفلسطين) فهذا انتصار، وعندما تكفن الأم ابنها وهى تقول : (الحمد لله، كلنا مشروع شهداء) فهذا انتصار، وعندما يغنى الأطفال وهم تحت القصف: (لن نرحل) فهذا انتصار، وعندما يعلن الشعب كله رفض التهجير وإن قصف بقنبلة نووية فهذا انتصار. 
وإذا كان البعض لا يرى الانتصار سوى إلحاق الهزيمة العسكرية بالكيان الصهيونى وإجباره على رد الحقوق المسلوبة، فعليه أن يدرك أن المقاومة هى السبيل الوحيد لتحقيق ذلك أيضا، وهى إن عجزت اليوم فستقدر غدا، والمقاومة الفلسطينية قد بلغت قوتها فى هذه المرحلة – بفضل إصرارها على الاستمرار والبقاء- ما لم تكن قد بلغته فى أى مرحلة سابقة من تاريخ الصراع العربى الصهيونى، ومن كان يظن أن الفلسطينيين الذين نزحوا فى النكبة عن مدنهم وقراهم ستجعل منهم المقاومة (طوفان الأقصى) الذى يخترق الحدود المحصنة بأحدث أنظمة الدفاع والاستشعار عن بعد؟ ومن كان يتوقع أن الحجارة فى انتفاضة الأقصى الأولى ستتحول إلى صواريخ تطلق على عاصمة الكيان الصهيونى فلا يستطيع هذا الكيان أن يوقف قصفها حتى يضطر رئيس وزراء هذا الكيان أن يحتمى بالملاجئ تحت الأرض؟ ومن كان يمكنه أن يتصور أن المقاومة ستقدر فى يوم من الأيام أن تأسر نحو مائتين وخمسين أسيرا؟ ومن كان يصدق أن المقاومة ستكبد عدوها فى غزوه البرى هذه الخسائر الفادحة التى أجبرته على التراجع عدة مرات؟ 
إن هذه المؤشرات تشير إلى أن المقاومة بميزان القوى المادية والانتصارات العسكرية فى ساحات القتال فى طريقها إلى النصر على عدوها. وليس بالضرورة أن يكون هذا الانتصار قريبا لكنه سيتحقق بالتأكيد. وسيلقى الكيان الصهيونى بفضل المقاومة مصيره الذى لاقاه من قبل فى سيناء وجنوب لبنان.
ثم لنسأل أنفسنا، ما الخيار البديل إذا لم يكن خيار المقاومة هو الخيار الصحيح ؟ 
البديل أن يخلد الفلسطينيون إلى الاستسلام ويتركوا وطنهم طلبا للنجاة من قصف الطائرات.
والبديل أن يهدم المسجد الأقصى والمقدسات حفاظا على الأبرياء الذين يتعرضون للموت دفاعا عنه.
والبديل أن يتكبد الأسرى الفلسطينيون فى سجون الاحتلال الذل والهوان إيثارا لتلك الحياة  الذليلة على الموت.
إن هذا البديل الذى قد يرى فيه بعض الناس طريق السلامة الذى يجنب الأبرياء تلك الويلات التى نراها بأعيننا من العدو الغاشم ردا على المقاومة، لكن هذا الطريق يرفضه كل حر أبى فى مشارق الأرض ومغاربها فى كل عصر، وتاريخ حركات المقاومة فى العالم يشهد أن المقاومة هى التى حررت الشعوب واستردت الحقوق، وهذا الطريق الذى يطلب البعض من المقاومة أن تسلكه ليس - فى الحقيقة - طريق السلامة وإنما هو طريق الاستسلام الذى لم يجلب يوما سوى المزيد من الذل والهوان، وضياع المزيد من الحقوق فى الوقت نفسه. 
ولا شك أن كل عربى بل كل إنسان ينزف قلبه ألما عندما يرى عبر الشاشات تلك المشاهد المروعة التى لم ير العالم مثيلا لها فى العصر الحديث، لكن علينا أن نعرف أن دماء الشهداء قد أحيت الأمة، وأن دعوات المقاطعة التى يتردد صداها فى العالم العربى كله اليوم لمنتجات الكيان الصهيونى ومنتجات من يعاونه ويؤيده هى انتصار لتلك الدماء الطاهرة التى استطاعت أن توحد الجميع على كلمة واحدة هى (فلسطين)، وأن التفاف شباب الشعوب العربية بل أطفالها فضلا عن شيوخها حول قضية فلسطين هو انتصار لكل امرأة وكل طفل فى فلسطين.
 وأن المظاهرات التى خرجت فى عواصم دول العالم الغربى استنكارا لتلك الإبادة الجماعية التى يتعرض لها الشعب العربى الأبى هى انتصار للمقاومة، وأن قطع بعض تلك الدول العلاقات الدبلوماسية مع الكيان الصهيونى هو انتصار للمقاومة كذلك. 
إن المقاومة قد انتصرت على الكيان الصهيونى بتعريته أمام مسؤولي المنظمات الدولية حتى اضطر بعضهم إلى تقديم استقالته احتجاجا على ممارسات هذا الكيان الغاشم.
وليس من الإنصاف بعد ذلك كله أن تطالب المقاومة بتحرير الأرض وطرد المحتل وإقامة الدولة الفلسطينية فى يوم وليلة، وليس من المنطق أن يجعل النجاح فى ذلك شرطا ضروريا لإعطاء المقاومة حقها المشروع بل الواجب فى استكمال كفاحها.  
إن المقاومة ليست وسيلة لغاية، بل هى غاية فى نفسها لأن المقاومة انتصار.