عام يسدل أستاره شهِد مثل سابقيه، ومنذ تفشي جائحة كورونا، تغييرات جوهرية في هيكل النظام العالمي تتآكل معها كل يوم مفاصله، لكن نهايات عام ٢٠٢٣ وتحديدا بعد السابع من أكتوبر الماضي جاءت لتتجاوز كل تلك التغييرات وتعصف به نحو سيناريو النهاية.
عام مضى وقبل أن يسدل أستاره أبى إلا وأن يتحطم معه العمود الفقري للنظام العالمي ممثلاً في النموذج الديمقراطي الغربي، ويسقط في هاوية أخلاقية سحيقة بعد سقوط الأقنعة الزائفة عمن تذرعوا دوماً بدعاوى حماية حقوق الإنسان والديمقراطية والعدالة وحقوق الطفل والمرأة والمساواة بين الشعوب، وتدخلوا بشعاراتها ومبادئها في الشئون الداخلية للشعوب وخياراتها ومصائرها بدعاوى حماية الضمير الإنساني.
وعلى مسرح حرب غزة الدامي وقف العالم مُشاهِداً وشاهداً على أن مروجي هذه المبادئ الإنسانية هم أول من ضربوا بها عرض الحائط بل ودافعوا عمن انتهكها ودعموه عسكرياً وسياسياً.
وقف العالم مُشاهِداً لجرائم الحرب والتطهير العرقي والإبادة الجماعية، بل وشاهداً على من منحوا المعتدى شرعية لاستمرار هذه الجرائم وهم يخدعون ويضللون شعوبهم قبل شعوب العالم بسيول من الأكاذيب والتضليل وإخفاء الحقائق وتوجيه وسائل إعلامهم ومنصات جامعاتهم وتكبيل وعقاب من يتجاسر ليكشف لشعوبهم ناهيك عن شعوب العالم الحقيقة، وقف العالم مُشاهِداً وشاهداً على من صدعوا أدمغة شعوب العالم حديثاً عن حرية الرأي والتعبير وحق التجمع والتظاهر بينما هم من أوجدوا لأنفسهم الحجج لمنع التظاهر في بلادهم واعتقال المتظاهرين فقط لأنهم تجرأوا وطالبوا بوقف الحرب ونزيف الدماء.
وفي نهايات ٢٠٢٣ وقف العالم مشاهداً وشاهداً على من تشدقوا بحماية حرية الصحافة والإعلام بينما هم أنفسهم من منعوا على منصات وسائل التواصل الاجتماعي وقبلها على وسائل الإعلام كل رأى داعم للحق الفلسطيني وكل صوت رافض لجرائم الاحتلال وكل صورة تكشف وحشيته.. وشاهد العالم بأسره وشهد على أولئك المتشدقين بحرية الرأي والتعبير وهم يتجاهلون قتل أكثر من مائة صحفي وإعلامي بل ونسف منازل أسرهم على رؤوسهم في حرب غزة.
شهد العالم "أم المجازر" وشاهد بالعين وسمع بالأذن كل المجازر التي ترتكبها إسرائيل على مدار الساعة وعلى مدى يناهز ثمانين يوما، ضد الشعب الفلسطيني في غزة بل وتوسيعها إلى الضفة الغربية، وأطلت رائحة الدم والجثث المتراكمة من شاشات التلفاز لتزكم الأنوف فتخنق معها كل ضمير حي في العالم.
شهد العالم في ٢٠٢٣ سقوط الأقنعة الزائفة عن نموذج الديمقراطية الغربية، لتدهسها الأقدام مثلما دهست جرافات الاحتلال جثث القتلى في المقابر الجماعية بساحات مستشفيات غزة.. سقطت ديمقراطيتهم المزعومة بمبادئها المكلومة، سقطت المساواة بتبنيهم عنصرية إسرائيل، سقطت الحرية أمام سجانٍ يسفك الدماء ويحبِس شعباً في سجن كبير اسمه غزة.. سقط قناع حرية العبادة واحترام دورها أمام تدمير مساجد وكنائس وتدنيسها وانتهاك حرماتها.
سقطت أكذوبة القيم الغربية وانكشف زيفها أمام الصمود الأسطوري لشعب فلسطين في غزة، وأمام صمود منظومة القيم العربية الرافضة للاستسلام للاحتلال.
سقطت كل أوراق ما أسموه الربيع العربي لو تذكرون، ذاك الذي أسموه ربيعاً استناداً لشرعية نفس تلك الأوراق أو بالأحرى الأقنعة التي سقطت بعدما تجملت بها وجوههم لعقود.. سقطت مثل أوراق الأشجار في الخريف.
سقطت كل أوراق شجرة ديمقراطيتهم المزعومة، سقطت في أرض غزة بعدما سقطت صواريخ العدوان على بيوت سكانها المدنيين وعلى مستشفيات أطفالها الخدج المستسلمين ونسائها الحوامل المستضعفين.
سقطت أوراق التوت وفضحت عورات نظامهم العالمي ليطل علينا بوجهه الحقيقي، سقطت في اختبار التاريخ المُعنون بعام ٢٠٢٣.
ومهما حاولوا أن يخفوا سوءاتهم باستبدال أوراق التوت في ٢٠٢٤ فلن تنسى شعوبنا حقيقة وجههم الذي رأينا ملامحه بكل تفاصيلها الملطخة بدماء الأطفال في غزة، ولو أطلوا بوجوههم الشريرة علينا بعد عامنا هذا بحجج وأوهام ديمقراطية مزعومة وحقوق إنسان مزعومة وحرية رأى مزعومة أو بعدالة مزعومة فأبداً لن تُصدِق شعوبنا أكاذيبهم، أبداً لن تتجرع شعوبنا سمومهم مرة أخرى، سنلفظها أو بالأحرى قد لفظناها وبلا رجعة.
نجحوا هم نعم في مادتهم المُفضلة (الغاية تبرر الوسيلة).. وسقطوا ورسبوا في مادة الأخلاق والضمير، رسبوا بلا ملاحق، رسبوا ولا عزاء في ديمقراطيتهم، لا عزاء في ديمقراطيتهم فقد دفنوها
هناك تماماً عند حدودنا الشرقية، في مقبرة "حقوق الإنسان" بجوار كل مقبرة جماعية في أرض غزة.
رسبوا لأنهم لم يلتحقوا بمدرسة الإنسانية، رسبوا ربما لأنهم لم يتعلموا في حضرةِ مصر مادة " الحضارة".