الأحد 5 مايو 2024

مصطفى محمود في حوار نادر لمجلة الهلال: لم أقدم تفسيرًا للقرآن بل محاولة للفهم

مصطفى محمود

كنوزنا27-12-2023 | 13:21

بيمن خليل

يُعد الدكتور مصطفى محمود، أحد أبرز المفكرين والفلاسفة المصريين في القرن العشرين، حيث تحل اليوم الذكرى الـ102 لميلاده، لقد تميّز هذا الطبيب والكاتب الموهوب بأفكاره العميقة وآرائه الجريئة في مجالات الفلسفة والدين والمجتمع، مُقدّمًا تصوّرات ونظريات متطورة وسابقة لعصره.

قام الدكتور مصطفى محمود في وقت سابق بمحاولة لتفسير القرآن الكريم، وكانت هذه المحاولة من المحاولات المتميزة في الفكر الديني الإسلامي المعاصرـ غير أنها استُقبلت من قِبل عدد كبير من الناس بالمعارضة، حيث رأوا أن مصطفى محمود ليس مؤهّلًا لتقديم تفسيرٍ للقرآن الكريم.

وقال المعارضون: إن تفسير القرآن الكريم يحتاج إلى ثقافة دينية واسعة لم تتوفر في الدكتور مصطفى، ومع ذلك، وافق بعض رجال الدين على محاولته واعتبروا أن باب الاجتهاد مفتوح أمام كل المسلمين. 

وفي عام 1970م، نشرت مجلة الهلال حوارًا أجرته مع الدكتور مصطفى محمود حول كتابه عن «القرآن الكريم»، ردّ من خلاله على التساؤلات والانتقادات التي طالته بسبب محاولته تفسير القرآن الكريم.

إلى نص الحوار:

**ما هي الأسباب التي دعتك إلى تقوم بمحاولة تفسير القرآن؟

- - لا أستطيع أن أحدد سببا واحدا للإيمان، وإنما هو تطور فلسفي وذهني ووجداني ومراحل فكرية مررت بها ابتداء من كتابي «الله والإنسان» حتى تأليف كتابي عن «القرآن» وسوف أشرح هذه المراحل في كتابي القادم «رحلتي من الشك إلى الإيمان».

 

**من الواضح في تفسيرك للقرآن أنك متأثر بالصوفية.. ويقول الصوفيون أنهم يعبدون الله لوجه الله ذاته وليس لأي غرض آخر.. ولعل كلمات رابعة العدوية تلخص ذلك حين تقول - اللهم إن كنت أعبدك خوفا من نارك فالقني فيها، وإن كنت أعبدك طمعا في جنتك فاحرمني منها، وإن كنت أعبدك لوجهك الكريم فلا تحرمنى من رؤيته.. فهل يمكن أن نقول بناء على ذلك بأن الذي يعبد الله خوفا من النار وطمعا في الجنة ما هو إلا عابد انتهازي؟

- - هي انتهازية فعلا، ولكنها أشرف من انتهازية الأرض، لأن الطمع في الله والخوف من الله هو وضع للطبع والخوف، حيث يجب أن يوضعا، فلا تكون الخشية إلا من الله ولا يطمع إلا فيه، لأنه وحده الغني وهو وحده الجبار، وأصدق من كلمة الانتهازية هنا أن أسميها «الدرجة الأولى من الإيمان» عند المؤمن العادي، ولا تستطيع أن تطلب من المؤمن العادي أن يمتلك القدرة على تجريد حواسه تماما بحيث يرتفع إلى المطلب المجرد فيحب الله للحب ويعبده للعبادة ويقصده لوجهه.. فهذه معان رفيعة لا يدركها إلا القلة من أهل الخصوص الذين أدركوا تماما تفاهة اللذات الحسية .

 

**ألا تعتقد أن تفسيركم لما في الجنة من أنهار العسل واللبن ومختلف الطيبات بأنها "مجرد رموز" يمثل صدمة خصوصا بالنسبة للفقراء الذين يعيشون على أمل التمتع في الجنة تعويضا عن الحرمان الذي وجدوه في دنياهم؟

-- أنا لم أنكر اللذة الحسية والمتع الحسية في الآخرة، وإنما قلت بأن هذه اللغة الحسية لا أحد يعرفها تفصيلا، فليس العسل المحكى عنه في القرآن هو العسل الذي نعرفه، ولا اللبن هو اللبن، ولا النساء هن النساء، وإنما هي درجات من اللذة هي بالنسبة إلينا غيب، كأن يقول فنان مثلا: "كانت امرأة جميلة كالضياء".. إن الفنان هنا، يروي حلمه ومثله الأعلى، وبالمثل يمكن أن تكون الجنة ولذتها هي من نوع هذه المراتب العليا التي لا نعرف لها مثيلا على الأرض، وأذكر أيضًا إني قلت إن نعيم الروح درجات يبدأ من المتع الحسية ويرتفع حتى يصل إلى مقام الأنبياء الذين ينعمون بالله ذاته وبجمال وجهه وبحضرته الجلالية وفي ذلك يقول القرآن عن الرجل التقي أنه: «فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ».

فهنا نجد أن الجنة هي الجوار المطلق للحضرة الإلهية وهو أقصى ما يمكن أن يتصوره الإنسان من سعادة ولا يجب أن نفهم من القرآن أن آياته نزلت لإشباع أحلام الفقراء ولكن القرآن يقدم لنا منتهى العلم.

 

**في تفسيرك انتهيت إلى أن القرآن كتاب دين وأخلاق وليس كتابا في السياسة ونحب أن نسمع رأيك في القول بإن القرآن كتاب دين وسياسة وحكم ونظم اجتماعية، وأنه المرجع لكل شيء..؟

-- قلت إن القرآن يقدم لنا توصيات عامة في السياسة وأنه لا يقدم لنا تفصيلات، لأنه ليس كتاب لعصر بعينه وإنما لكل العصور، ولقد أراد الله هنا، أن يترك لنا تفصيلات حياتنا نصوغها وفق الضرورات المتغيرة.

 

**بعض الذين ردوا عليك.. قال فريق منهم بأن تفسير القرآن عمل لا يستطيع القيام به إلا أناس معينون امتلكوا زمام اللغة ومعرفة تراكيبها وأسرارها.. إلخ.. وهو شيء لا يتوافر عند كثيرين من المثقفين المصريين وقالوا بأنه كان من الأجدى - باعتبارك طبيبا - أن تقوم بتفسير الجانب الطبي فقط، بينما فريق آخر دافع عنك وقال أيا كان ما قاله مصطفى محمود فالمهم أنك كنت ملحدا وعدت إلى حظيرة الدين وهذا كسب، وفريق ثالث قال اجتهد الرجل فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر.. فما رأيك في كل ذلك؟

-- أنا لم أقدم تفسيرا للقرآن وإنما قدمت محاولة للفهم.. محاولة.. مجرد محاولة.. فإذا كان هؤلاء الناس الذين اعترضوا على الكتاب لا يقبلون المحاولة، حتى مجرد المحاولة من كاتب وأديب ومفكرـ فإنهم قد بلغوا غاية التزمت وضيق الأفق وتصوروا أن القرآن نزل  لهم وحدهم وأن تفهمه حكر عليهم ويجب أن يفهم المعترضون أن القرآن ليس مجرد كتاب في اللغة وأنه ليس وقفا على اللغويين، وإنما هو دائرة معارف يجب أن يشترك الكل في فهمها وتفسيرها، وأنا في الواقع لا أطمع ولا في ربع أجر، ومنتهي أملي من الله التوفيق.

 

 

**في ص 88 من كتابك عن القرآن تقول، «وغض البصر ليس فقط غض البصر عما يتعرى من الجسد وإنما هو أيضًا غض للبصر عما في يد الناس من مال ونعمة وهو الحياء والترفع عن النزول بالنفس إلى مواطن الشهوة والحسد والحقد والغيرة».. ألا ترى أننا في بعض الظروف حين يوجد استغلال اجتماعي لسنا في حاجة إلى التطلع فقط إلى ما في يد الناس من نعمة ومال، وإنما نكون في حاجة إلى أن ننتزع هذا المال من أيديهم انتزاعا.. ثم ألا يعتبر هذا المنطق الذي يقول بأن الله خلق الغني والفقير لحكمة وليس لوجودهما نتيجة لظلم طبقي؟

 

--  السؤال يتكلم عن المظلوم وموقفه من الظالم وأنا لم أقصد هذا المعنى وإنما قصدت الحسد والحقد والغيرة وهي موجودة في كل المجتمعات.

 

**لقد أثرت قضية عامة، وهي قضية الدين والعلم، فهناك اتجاه يحاول باستمرار أن يربط بين أي كشف علمي جديد وبين نصوص قرآنية محتلفة، على أساس أن العلم لم يأتِ بجديد بدليل وجود إشارات إلى العلوم الحديثة في القرآن، وأعتقد أنك لجأت إلى ذلك.. فمثلا تدلل على كروية الأرض في القرآن مستشهدا بما جاء في سورة الزمر آية 5 :  «يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ» وشرحت ذلك بقولك: «وهي آية لا يمكن تفسيرها إلا أن نتصور أن الأرض كروية» وتستشهد بقول الله تعالى «ثم إن علينا بيانه» وتقول شارحا «أي أنه سوف يشرحه ويبينه في مستقبل الأعصر» .. وغير ذلك من الاستشهادات العلمية الكثيرة، وهذا الكلام يطرح عدة تساؤلات مثلا.. ألا يعني ذلك أن الذين نزل عليهم القرآن وآمنوا به حوالي 1400 عام مضت لم يفهموا عددا من آياته لأن الوسائل العلمية لم تكن متاحة لهم مثلما هي متاحة لنا الآن؟

**ما الحكمة في أن ينزل الله آياته على قوم لن يفهموها وإنما سيفهمها من سيأتون بعد 1400 سنة؟

**هل على العلماء أن يبدأوا  بدراسة القرآن أولا قبل أن يدرسوا المؤلفات العلمية وقبل أن يتوجهوا للمعامل مادام في القرآن كل شيء عن العلم؟

-- العلم له مجاله، والدين له مجاله، وأنا لم أقصد الحجر على العلماء باسم القرآن وإنما كل ما قصدته أنه لا يوجد تناقض بين القرآن وبين الحقائق العلمية الثابتة ولا يعني هذا أن تكف عن البحث العلمي لمجرد أننا نملك «القرآن»، هذا فهم خاطئ لكلامي.. وأنا أقول أن القرآن لم يفض إلينا بكل أسراره إلى الآن، وحكمة من الله واضحة في أنه لم ينزل كتابه على الناس ليُفهم كله وينتهي أمره في أول جيل، وإنما أنزله للعالمين وليكون سرا يبسط سلطانه على كل الدهور ويتحدى جميع العقول وبالنسبة للنقطة الثالثة، فأنا لم أقل هذا الكلام فالعلم له مجاله والقرآن له مجاله والعلم له أدواته والقرآن له وسائله، ولا يصادر أحدهما علم الآخر ولا يحتكر أحدهما علم الآخر.