الثلاثاء 7 مايو 2024

بين 7 يناير و25 ديسمبر.. الأنبا غريغوريوس يكشف الأسرار وراء ازدواجية موعد عيد ميلاد المسيح (مقال نادر)

الأنبا غريغوريوس

كنوزنا3-1-2024 | 14:24

بيمن خليل

كل عام يحل السؤال من جديد.. لماذا تحتفل الكنيسة الشرقية بعيد الميلاد في السابع من يناير بينما تحتفل الكنيسة الغربية به في الخامس والعشرين من ديسمبر؟ ما هي خفايا هذا الاختلاف التقويمي الذي طالما شكّل لغزًا لدى المسيحيين؟

 

في ظلّ احتفالات عيد الميلاد تتجدد التساؤلات حول السبب وراء اختلاف موعد الاحتفال بين الكنيستين، ذلك الاختلاف الذي طالما أثار حيرة واستغرابا لدى البعض، خاصة مع تشابك الأعياد وتقارب مواعيدها، فبينما تستعد الكنيسة الشرقية للاحتفال بميلاد السيد المسيح في السابع من يناير، ما زال صدى احتفالات عيد الميلاد في الخامس والعشرين من ديسمبر مستمرا.

 

أين تكمن جذور هذا "الخلاف" التقويمي؟ وما أسباب اختلاف توقيت الاحتفال بأعظم أعياد المسيحية بهذا الشكل؟ للإجابة على هذه التساؤلات، سنعيد نشر مقالٍ تفصيلي كتبه الأنبا غريغوريوس، أسقف عام الدراسات اللاهوتية والثقافة القبطية والبحث العلمي، والذي تنيّح عام 2001م.

 

نُشر هذا المقال في العدد الصادر في الأول من يناير 1984م من مجلة "الهلال"، يوضّح من خلاله الأنبا غريغوريوس الاختلاف حول تحديد موعد عيد الميلاد بين المسيحيين الشرقيين والغربيين.

 

نص المقال كاملا

لعل الجواب المريح عن هذا السؤال هو أن الخلاف ليس هو على حقيقة الميلاد وإنما على اليوم الذي اصطلح فيه على الاحتفال بالميلاد، وهذا يرجع إلى خلفية تاريخية واجتماعية يتباين فيها الغرب عن الشرق والشرق عن الغرب، كما يرجع إلى اختلاف في التقويم الذي يتبعه كل من الشرق والغرب.

 

ميلاد المسيح وتأسيس روما

لقد ذكر الإنجيل أن المسيح ولد في زمن الإمبراطور الروماني أوغسطس قيصر (63 ق.م -  14 م)، كما ذكر أنه في السنة الخامسة عشرة لطيباريوس قيصر (14 - 37م) كان المسيح قد بلغ الثلاثين لميلاده، ولما كان تاريخ حكم الإمبراطرة الرومان يتحدد بالنسبة لتأسيس مدينة روما، فقد استطاع المؤرخون أن يحددوا السنة التي ولد فيها المسيح، وأن يؤرخوا لها بالنسبة لتأسيس مدينة روما، وقالوا أن روما تأسست في سنة 752 ق.م.

 

وهكذا ارتبط تاريخ ميلاد المسيح بتاريخ تأسيس مدينة روما، وهناك من الباحثين من يذهب إلى أن هذا التاريخ متأخر بأربع سنوات.. ومهما يكن من أمر فقد أصبح تاريخ ميلاد المسيح فاصلا زمنيا وعلامة واضحة متميزة في تاريخ العالم، وصار هو ذاته بدءًا لتاريخ جديد.. هذا من حيث الميلاد.

 

لماذا يعيد الغربيون في 25 ديسمبر؟

أما لماذا يعيد الغربيون لعيد الميلاد في 25 ديسمبر بينما كان يجب أن يعيدوا له في أول يناير، نقول أن تحديد بدء العام بأول يناير يرجع إلى التقويم الروماني السابق على عيد ميلاد المسيح وهو التقويم الذي صحح وعدل في زمن يوليوس قيصر في عام 45 ق.م، ولذلك عرف بالتقويم اليولياني، ولا شك أن بدء العام الجديد يخضع لقواعد فلكية سبق فحددها علماء الفلك، ومن المعروف أن تقسيم السنة اليوليانية إلى إلى إثنى عشر شهرا بدءًا من يناير وانتهاءً بديسمبر، تقسيم فلكي وضعه علماء الفلك من أزمنة قديمة، وأدخلت عليه بعض التعديلات في أزمنة لاحقة لضبط السنة الشمسية لتكون 365 يوما + 5 ساعات + 48 دقيقة + 46 ثانية، ولذلك أضيف إلى بعض الشهور يوم ليكون 31 يوما، وهي شهور يناير، ومارس، ومايو، ويونيو، وأغسطس، وأكتوبر، وديسمبر، وأما شهر فبراير فصار 28 يوما في السنوات البسيطة، 29 يوما في السنوات الكبيسة.

 

أهمية 25 ديسمبر عند الغرب

أما تحديد 25 من ديسمبر عند الغربيين موعدا لعيد الميلاد، فذلك مرده لا لأن المسيح ولد في هذا الوقت من الشتاء، ولكن لأن لهذا التاريخ بالذات أهمية عند الغربيين، أهمية دينية تاريخية واجتماعية سابقة على اعتناقهم للمسيحية فقد كان هذا اليوم هو «عيد الشمس» عند الغربيين، لأنه يوافق وقت «انقلاب الشمس الشتوي» إذ يبدأ النهار يطول وكان يعرف عندهم باليوم الذي تولد فيه الشمس من جديد، ولما كانت الشمس هي التي تبعث النور والدفء، فكانت القبائل الأوربية الشمالية تجعل احتفالها الرئيسي بانقلاب الشمس الشتوي solslice في هذا اليوم بإيقاد حطبة ضخمة واشعالها فى الهواء الطلق احباء لذكرى ولادة الشمس من جديد .

 

عيد الإله ساتورن

كذلك كان يقع في هذا اليوم الخامس والعشرين من ديسمبر، عيد الإله ساتورن في روما القديمة ويعرف باسم satumalla و«ساتورون» هو «زحل» وهو عند الرومان إله الزراعة والقوة المتجددة للشمس .

ويعزى إلى الأمبراطور أوريليان «270 -275» أنه في سنة 274 أدخل إلى العاصمة الامبراطورية الاحتفال بالشمس التي لا تقهر Inuicti Natalis solis في 25 من ديسمبر.

ومن العلماء من يقول أن يوم 25 ديسمبر كانت تجرى فيه الاحتفالات بعبادة الإله ميثرا Mithras فقد كانوا يرون في الشمس التجلي المنظور للاله «ميثرا»  ذاته، Mithra وميثرا هو إله النور عند الفرس الأقدمين للميلاد، وقد انتشرت عبادته انتشارا واسعا في العالم الروماني مند القرن الأول.

 

عيد الشمس

ولما كان «عيد الشمس» عند الرومان عيدا عظيما جدا، وكان الاحتفال به احتفالا شعبيا كبيرا، ولما لم يكن من السهل على الشعوب نسیان أعیادها، وما يصحبها من احتفالات عامة شارك فيها الكبار والصغار، وبمظاهر مختلفة تعكس حضارة تلك الشعوب في تعبيراتها في الفن والأدب والموسيقى والغناء والصناعات والمأكولات الشعبية المأثورة، وغير ذلك، لذلك رأى المسيحيون منهم اختيار هذا اليوم بالذات ليكون عيد ميلاد المسيح بديلا عن عيد الشمس، وكانت الشمس هي الرمز إلى المسيح الذي وصفه الكتاب المقدس بأنه «شمس البر، والشفاء في أجنحتها».

فقد ورد عنه في نبوءة النبي ملاخي من أنبياء العهد القديم «وتشرق لكم ايها المتقون لاسمى شمس البر، والشفاء في أجنحتها» (ملاخی 4 : 2 ).

وهكذا احتل عيد ميلاد المسيح عند الغربيين مكان عيد الشمس عندهم في العهد الوثني - وهذه في الواقع فكرة قيادية ذكية جرى عليها أيضا أهل مصر عندما تحولوا إلى المسيحية، فقد أبدلوا بعض الاحتفالات القديمة التي كانت مقدسة في العهد الوثني إلى احتفالات بأعياد مسيحية، راوا فيها نقطة التقاء، فانطلاق إلى القيم المسيحية المرموز اليها بتلك الأعياد القديمة، دينية أو قومية .

وبهذا المنهج في فهم سيكولوجية الشعوب، نجح الغربيون في استبدال عيد الشمس، بعيد ميلاد المسيح، ونجم عن ذلك أن مات عيد الشمس في الغرب وانتهى أمره إلى غير رجعة، وحل محله عيد ميلاد المسيح .

ولعل هذا هو السبب في جعل ما يصاحب عيد الميلاد عند الغربيين من بعض المظاهر في الشوارع والأسواق مما لا ترضى عنه ضمائر المسيحيين المتدينين من لهو ورقص هو من بقايا الاحتفالات الشعبية التي كانت تجرى في العهد الوثني.. ولذلك ظهر فيما بعد، تيار المتطهرين المتزمتين الذين رفضوا تلك الاحتفالات الشعبية، وقاوموها لأنها تتعارض مع وقار المناسبة الدينية وجلالها وقداستها، وفي عصر القوة لهؤلاء - المتطهرين، وبالذات في عهد أوليفر کرمویل  Oliver Cromwell في سنة 1642 منعت تلك الاحتفالات بل وصارت توقع عقوبات على من يستبيح لنفسه ابتذال المناسبة الدينية العظيمة بمظاهر التهريج والرقص.

ومع ذلك لم ينجح الغربيون تماما في جعل يوم 25 ديسمبر عيدا لميلاد المسيح مطلقا إلا «ابتداء من سنة 336م» .

ويروى «القديس يوحنا ذهبي الفم»  في عظة ألقاها فى عيد الميلاد في أنطاكية سنة 386م أنه منذ عشر سنوات فقد صار يوم 25 ديسمبر معروفا لنا تماما في الشرق البيزنطي»، أما في الغرب فكان معروفا منذ الابتداء، والرومان الذين كانوا يحتفلون به من زمن طويل هم الذين نقلوه إلينا.

 

التقويم الفرعوني القديم

أما الشرق القديم، فقد كانت له شخصيته المتميزة، وكان لمصر تقويم آخر شرقي هو التقويم الفرعوني القديم الذي سبق غيرة بآلاف السنين والمعروف أن نشأة التقويم المصري كانت في عام 4241  قبل ميلاد المسيح أي في القرن الثالث والأربعين قبل الميلاد، عندما رصد المصريون القدماء نجم الشعرى اليمانية المسمى باليونانية Seirios وكان يسميه المصريون «سیدن» SPDT وهو ألمع نجم في السماء، بين كوكبة أو مجموعة نجوم الكلب الجبار أو الأكبر Canis Majoris - ويبعد حوالي 8ونصف سنة ضوئية عن الأرض، وشروقه الاحتراقي Helacal Rising على الأفق الشرقي قبيل شروق الشمس، وهو يوم وصول فيضان النيل إلى العاصمة «منف» يعين أعلى درجات الحر، حتى عد عند اليونان والرومان رمزا للحرب وقد حسبوا الفترة بين ظهوره مرتين، وقسموها لثلاثة فصول كبيرة هي : الفيضان - اخت - والبقر - برت - أي بدر الحب أو الزراعة، والحصاد - شمو - ثم إلى اثنى عشر شهرا، كل شهر منها ثلاثون يوما، وأضافوا المدة الباقية وهي 5 وربع يوما وجعلوها شهرا أسموه بالشهر الصغير «أو النسيء»، فصارت السنة المصرية 365 يوما في السنوات البسيطة، 366 يوما في السنة الكبيسة وقد احترم الفلاح المصرى منذ القديم هذا التقويم نظرا لمطابقته المواسم الزراعية ولا يزال يتبعه إلى اليوم.

 

وبموجب هذا التقويم المصري يبلغ طول السنة 365 يوما + 6ساعات.. وبهذا يفترق طول السنة الشمسية «وهو 365يوما + 5 ساعات + 48 دقيقة + 46 ثانية» عن السنة المصرية بمقدار 11دقيقة + 14 ثانية - وهذا الفرق يتجمع فيصل إلى يوم كامل في كل 128 سنة.

 

ومما هو جدير بالملاحظة أن المصري القديم مع أنه عرف الشمس وعبدها کإله باعتبارها أصل النور والحرارة وكانت تسمى «رع» واليها ينتسب أسماء الملوك باعتبار الملك ابن رع.. من ذلك أسماء الملوك: خفرع، منقرع «من كاورع»، ورعمسیس «ابن رع»..

 

لكنه مع ذلك لم يتخذ المصريون القدماء الشمس أساسية للتقويم، وانما اتخذوا نجم الشعرى اليمانية «سبدت» ذلك لأن السنة الشمسية لا توصل إلى الثبات الذي تتميز به السنة النجمية، القائمة على أساس رصد الشروق الاحتراقي لنجم «سبدت» أو الشعرى اليمانية.

وبموجب التقويم الشرقي اصطلح المصريون على تحديد عيد الميلاد في التاسع والعشرين من شهر كيهك - الشهر الرابع - «واصله بالمصرية القديمة: كاحر كاو - الروح الأولى فوق الارواح».

 

التزام بعض كنائس العالم بالتاريخ المصري

وهنا ينبغي التنويه بأن الكنيسة القبطية في مصر - وتتبعها في التقويم الكنيسة الأثيويبة والكنيسة الأرثوذكسية في روسيا - تلتزم بالتاريخ المصري 29 كيهك» ولا تلتزم بالسابع من يناير- فان التاسع والعشرين من كيهك يقابله الآن السابع من يناير ولكنه لم يكن كذلك من قبل، ولسوف يجيء وقت يصير المقابل له، الثامن من يناير .

والسبب في ذلك يرجع إلى أن التقويم المصري الفرعوني يسير على قاعدة غير القاعدة التي يسير عليها التقويم الغربي القائم على طول السنة الشمسية انها 365 يوما + 5 ساعات + 48 دقيقة + 46 ثانية.. أما التقويم المصري فسنته 365يوما +  6 ساعات كاملة.

ولما كانت قاعدة التقويمين الغربي والمصري ليست واحدة، فمن الطبيعي أن يتقابل التقويمان في غير نقطة ثابتة.. وليس هنا مجال مناقشة أي التقويمين أصح من الآخر، إنما الاختلاف بين قاعدتي الحساب في التقويمين هو سبب اختلاف التقابل بين التاريخين المصري القديم والغربي، على أن هذا الفارق الزمني لابد أن يزيد مع الأيام، ومثلنا في ذلك مثل قطارين يسيران في اتجاهين متضادين، فلابد أن يتقابلا ولكن نقطة التقابل بينهما تتوقف على السرعة التي يجرى بها كل منهما.. فاذا كانت سرعتهما واحدة فيلتقيان في نقطة معينة، أما إذا تغيرت سرعة أحدهما عن الآخر فسيلتقيان في نقطة أخرى بعيدة عن الأولى.

وعلى ذلك فسيظل عيد الميلاد عند الغربيين غيره عند الآخذين بالتقويم الشرقي القديم.. وسيظل عيد الميلاد في مصر هو اليوم التاسع والعشرين من الشهر الرابع للسنة المصرية «كيهك» ولكنه سيتزحزح اليوم المقابل له في التقويم الغربي «يناير» بمعدل يوم واحد كل أربعمائة سنة .

Egypt Air