السبت 27 ابريل 2024

عنفوان السينما المصرية

مقالات22-1-2024 | 11:15

استمتعت بالمصادفة في عدة أيام بمجموعة من أفلام السينما غبر شاشة التلفاز أو الإنترنت، فكانت خير أنيس وجليس لساعات ، ثم خلفت بعض  الأفكار في ذهني ما كل هذا التنوع والجمال والثراء الذي حظيت به السينما المصرية على مدى مايزيد عن قرن، من الفيلم الاستعراضي الغنائي ، إلى الفيلم الكوميدي والاجتماعي والسياسي والتاريخي، منها ما اعتمد على  نص روائي أو تاريخي ومنها ما كتب خصيصا للسينما.

   شاهدت أفلام "دهب" و"عفريته هانم " و" دعاء الكروان " " مراتي مديرعام " ثم "غروب وشروق" ثم " ليلة ساخنة " . من أنور وجدي والطفلة المعجزة فيروز حيث قدم وجدي خلطة فنية لم يسبقه إليها أحد ولم يلحقه أيضا أحد، خلطة جمعت بين الموضوع الاجتماعي حول من أحق بالأبوة من ينجب أم من يربي ويرعى ؟ وبين الغناء والاستعراض من طفلة موهوبة أحسن اكتشافها وتوجيهها وجدي مع الكوميديان الفذ اسماعيل ياسين ليخرج المتفرج بمتعة فنية وفكرية ببساطة.

  ثم شاهدت فيلم "عفريته هانم " موضوع جديد غير مسبوق في حينه وهو تجسد عفريته جميلة هي سامية جمال لمطرب جديد طموح فريد الأطرش فتحقق له كل مايريد بقدراتها الفائقة لأنها تحبه وتهواه لكنه لايبادلها نفس المشاعر . فنشاهد حيل فنية في التصوير والمناظروالحركة رائدة قياسا بزمن انتاج الفيلم عام 1949، أخرجه أحمد بدرخان أحد المؤسسين للسينما في مصر ، هذا إلى جانب غناء وألحان فريد ورقص سامية جمال وأيضا الكوميديان الفذ ياسين في دور خفيف الظل يكفي أن اسم الشخصية (بوقه ) وهو من بقوم بالسخرية من ملامحه كلها وليس فمه فقط.  

  اعتمد فيلم "دعاء الكروان" إنتاج عام 1959 على رواية العميد طه حسين صاحب النظرة الثافبة لأوضاع اجتماعية محورها الجهل والفقر ومحركها غالبا رجل معقد لايجد مجالا لسيطرة عقده المركبة سوى المرأة . يصعب رصد مناحي جمال وبلاغة الفيلم، السيناريو المحكم للرواية أم التمثيل أم الموسيقى أم التصوير أم الاخراج بقيادة المخرج هنري بركات.

   ثم ماهذا الجمال والمتعة التي تصيبك من فيلم "مراتي مدير عام " المنتج عام 1966 الذي يرصد حركة المجتمع نحو عمل المرأة الناجحة المثقفة من أقرب شخص إليها أي زوجها ثم من محيطها الاجتماعي خاصة زملاء العمل . ربما كان هذا الفيلم من القلائل في السينما الذي رصد ذاك الحراك الاجتماعي في مصربعد ثورة يوليو بهذا الذكاء بعيدا عن المباشرة والخطابة بل حرص سعد وهبة على صياغة الحوار بكل مايميز الروح المصرية من طيبة وخفة ظل لتبقى متعة مشاهدته في نفس المتفرج مهما تكررت مرات مشاهدته ولاعجب فمخرجه الكبير فطين عبد الوهاب.

  عندما تقف عند فيلم " غروب وشروق " فيصعب عليك وصفة بفيلم سياسي فقط يرصد أحوال القاهرة قبل قيام ثورة يوليو بأيام بل لم يأتي مطلقا ذكر الثورة به، إنه فيلم إنساني عميق عمق أزمة بطلته مديحة التي ضاعت حياتها بين أيدي أب متجبرأفقده منصبه كرئيس للبوليس السياسي أي وازع إنساني حتى لأقرب المقربين إليه وهي ابنته، ما هذا الأداء البارع الذي قدمه محمود المليجي ومن أين أتت سعاد حسني بتلك الرجفة في جفون عينيها وصوتها مع كل كلمة ، ماهذا السيناريو الشديد الدقة والحساسية الذي كتبه رأفت الميهي مع إخراج هادئ للكبير كمال الشيخ رغم سخونة الموضوع.

 تعتمد قنوات كثيرة إذاعة فيلم  "ليلة ساخنة " ليلة رأس السنة لأن أحداثه ندور في نفس الليلة فاعتبرته تلك القنوات فيلم مناسبة فقط ، لابأس المهم يذاع ونشاهده . فالفيلم ممتع حواره كتبه محمد أشرف بمهارة لأنه يحمل المفردات اليومية لحديث المواطن المصري ،كما أن السيناريو الذي قام عليه رفيق الصبان وبشيرالديك شديد التركيز لإلتزامه بوحدة الزمن وهي ليلة واحدة هي ليلة رأس السنة وحافظ الراحل عاطف الطيب على إيقاع رائع رغم تعدد المكان وحركة سيارة التاكسي البطل المشارك لنورالشريف ولبلبة اللذان يصعب تخيل غيرهما لأداء دوري  سيد وحورية.

ماهذا الزخم والجمال الذي عشنا فيه مع السينما كمتفرجين ؟ تؤكد هذه العينة العشوائية ذلك فقد امتد زمن انتاج تلك الأفلام منذ منتصف الأربعينيات إلى نهاية التسعينات من القرن العشرين ، انتاج غزير بلغ الاف الأفلام ، تعددت أنواعها واتجاهاتها الفنية من الفيلم الغنائي إلى الواقعي  إلى الكوميدي إلى السياسي والكثير مزج بين أكثر من نوع واتجاه . ماهذه البراعة في الكتابة للسينما سواء تأليف أو عن نص أدبي رواية قصة مسرحية كتاب ، أسماء ممثلين وممثلات اصبحوا أيقونات في حياتنا فاتن وسعاد وشادية وسامية جمال ولبلبة وأنوروجدي ورشدي أباظة والمليجي وذوالفقاروالشريف وعادل إمام ومخرجين اسسوا الصناعة بدرخان ووجدي وبركات والشيخ ثم الطيب والميهي .على مدى مائة سنة سينما عشنا نتمتع بعنفوان فني وفكري بقى في وجدان كل من ينطق اللغة العربية ويفهم اللغة الفنية.  

بعد النظر لإنتاج السينما المصرية حاليا لابد وأن يوجد سؤال لكن من الصعب إيجاد إجابته.. هل يبقى مما ينتج الأن في السينما المصرية فيلم أو أفلام يشاهد ها أولادنا وأحفادنا بعد عشرين عاما من اليوم ولاأقول خمسين أو مائة سنة ويتمتعون بها ؟ السؤال بصيغة أخرى أين ذهب عنفوان السينما المصرية؟ 

Dr.Randa
Dr.Radwa