السبت 4 مايو 2024

معرض الكتاب.. الضرورة الوطنية والمعرفية

حلمي النمنم

ثقافة5-2-2024 | 11:39

حلمي النمنم
  • نشط المعارضون وتظاهروا داخل معرض الكتاب بعد قرار اشتراك إسرائيل في المعرض، وتطورت الأمور بما أدى فى النهاية إلى إصابة صلاح عبدالصبور بذبحة فقد حياته على أثرها
  • حين أخذت الدولة العراقية فى التعافى، كان معرض الكتاب هو الدليل الأبرز على ذلك. معرض الكتاب له دور وطنى، بحجم الدور الثقافى والمدنى، فى بناء المجتمع وقوة الدولة

 

فى العام 1969 أقيم "معرض القاهرة الدولى للكتاب" للمرة الأولى، وكان من المفترض أن تكون المرة الأولى والأخيرة، ذلك أن فكرة المعرض ظهرت لدى الرئيس جمال عبدالناصر، وعرضها على وزير الثقافة د. ثروت عكاشة، كانت مصر تخوض حرب الاستنزاف وقتها، تمهيداً لإزالة آثار العدوان، أى عدوان إسرائيل علينا سنة 1967، وفى عام 1969 فقرر الاحتفال بألفية القاهرة، اهتم الرئيس عبدالناصر بهذه المناسبة ووضعها تحت رعايته، وهو الذى افتتح الاحتفالية، فى إطار تلك الاحتفالية وأجواء الاستعداد لها، وصل إلى مكتب الرئيس اقتراح من أحد الناشرين هو الراحل إسلام يكن، بأن يقام على هامش الاحتفالية معرضا دوليا للكتاب، وطبقا لما سمعته من مدير مكتب عبدالناصر، سامى شرف، الذى غادرنا العام الماضى قام هو بعرض الاقتراح على الرئيس الذى رحب بالفكرة وعرضها على وزير الثقافة.

المفكر الكبير د. فؤاد زكريا كان أحد الذين حضروا الافتتاح وكتب عنه مقالا لمجلة "الفكر المعاصر"، كان الجو بارداً وممطراً فى شتاء القاهرة ومع ذلك وجد أعداداً غفيرة من رجال وسيدات تجشموا عناء هذا الجو وخرجوا لحضور المعرض، وكان يتصور أن عشر دقائق سوف تكفيه للتجوال بالمعرض، فإذا الوقت بطول، ويشعر الجميع بالدفء. نجاح تلك الدورة واقبال الناشرين على المعرض من القاهرة ومن العواصم العربية، فضلا عن العواصم العالمية، كان نظريا  لوزارة الثقافة أن تتمسك بالمعرض وتصر على أن تعينه وتجعل منه مناسبة ثقافية معيدة كل سنة، فى الأسبوع الأخير من شهر يناير ونحن - هذا العام - نحتفل بالدورة الخامسة والخمسين من هذا المعرض.

المئات الذين سعد د. فؤاد زكريا برؤيتهم سنة 1969، صاروا الآن مئات الآلاف، وصرنا أمام جمهور خاص بالمعرض يأتى من سائر المحافظات، والأهم من ذلك أن المعرض لم يعد معرض القاهرة فقط، لكنه صار يقام فى معظم المحافظات، من الإسكندرية ودمنهور وصولا إلى بورسعيد والسويس وحتى أسواق.

تطور نشاط المعرض وصار موضع اهتمام المثقفين والشخصيات العامة فى نهاية السبعينيات، حين وقعت مصر معاهدة السلام مع إسرائيل، سنة 1979، والذى حدث أن الحكومة الإسرائيلية طلبت بإلحاح أن تشترك فى معرض الكتاب، ورفض رئيس الهيئة العامة للكتاب الشاعر صلاح عبدالصبور الطلب، وكان مبرر الرفض أن الطلب الإسرائيلى ورد بعد إغلاق باب الاشتراكات، لكن إسرائيل عاودت الطلب تحس وزير الثقافة والإعلام منصور حسن لموقف صلاح عبدالصبور وكذلك وزارة الخارجية وعلى رأسها الفريق كمال حسن على آنذاك، لكن إسرائيل طلبت تدخل الصحفى أنيس منصور الذى كان متحمسا للسلام، فاتصل أنيس بالرئيس السادات وحصل على موافقته وابلغ الإسرائيليين بذلك، فأسقط فى يد وزارتى الثقافة والخارجية، واشتركت إسرائيل، وهكذا نشط المعارضون وتظاهروا داخل المعرض، وتطورت الأمور بما أدى فى النهاية إلى إصابة صلاح عبدالصبور بذبحة فقد حياته على أثرها خلفه فى رئاسة الهيئة د. عز الدين إسماعيل الذى استحدث الأنشطة الثقافية إلى جوار عرض وبيع الكتب ، ثم توسع هذا النشاط فيما بعد على عهد د. سمير سرحان رئيس الهيئة، واستمدت الناشرون كذلك فكرة حفلات التوقيع بأجنحة المعرض بدأ المعرض فى أرض الجزيرة (مقر دار الأوبرا الآن) ثم انتقل إلى مدينة نصر ومن بعدها إلى مقرها الحالى فى أول القاهرة الجديدة، قاعة المنارة، ومع كل انتقال من موقع إلى موقع، كان هناك من يتخوف ويتصور أن تغير المكان سوف يؤثر على الاقبال سلبا، لكن كان العكس يحدث كل مرة.

لم يكن معرض القاهرة الدولى للكتاب، أول تجربة مصرية فى إقامة معرض الكتاب، سبق تجربة طويلة، بدأت فى مايو سنة 948، حيث أقيم معرض للكتاب، وقتها كانت مصر تستعد علدخول حرب فلسطين الأولى، وكانت الحكومة القائمة برئاسة محمود فهم النقراشى، وكان وزير المعارف فيها هو د. عبدالرازق السنهورى وهكذا أقامت الوزارة أولى يوم للكتاب، من حسن الحظ أن مجلة الكتاب التى كانت تصدرها دار المعارف ويترأس تحريرها عادل الغضبان قامت بتغطية موسعة لهذا المعرض، فضلا عن عدد آخر المطبوعات، وكان فيه جزء للمعرض وجزء للبيع كان المعرض يقام سنويا فى شهر مايو مع نهاية امتحانات العام الدراسى، ويفرغ التلاميذ من هموم الامتحان ويستعدون للقراءة الحرة فى الصيف.

كانت مصر مع نهاية الحرب العالمية الثانية، شهدت اهتماما كبيرا بالثقافة، كانت جامعة الإسكندرية تأسست، وتم الشروع فى تأسيس جامعة عين شمس، وكذا صدر مرسوم تلك بتأسيس جامعة فى أسيوط باسم وجامعة محمد على الكبير، وكان الملك فاروق خصص جائزة سنوية تمنح فى ذكرى وفاة والده الملك فؤاد، شهر إبريل، قيمتها ألف جنيه، تذهب إلى أحد كبار الكتاب، الجائزة يحدد شروطها واللجنة القائمة عليها مجمع اللغة العربية، وكانت هناك جوائز أخرى مثل جائزة قوت القلوب التى نالها نجيب محفوظ مع التوسع فى التعليم والاتجاه نحو ديمقراطية التعليم ازدهرت قليلا حركة النشر، حتى بلغ عدد العناوين التى صدرت فى القاهرة سنة 1947، أكثر من 450 عنوان، وكان رقما كبيراً، وقتها.

هذا المعرض ظل يقام سنويا حتى مع قيام ثورة 23 يوليو 1952، ولكن تغير موعده ليكون فى شهر أكتوبر مع بداية العام الدراسى وليس مع نهايته سوف نلاحظ أن معرض القاهرة يرتبط بالعام الدراسى أيضا، حيث يقام وقت إجازة نصف العام، هذه السنة 2024 منتهى لامتحان يوم 24 يناير، هو نفس يوم افتتاح المعرض، رسميا، ومع أول أيام الإجازة 25 يناير يستقبل المعرض الجمهور.

المعرض الأولى، معرض 1948، توقف سنة 1956، إذ بدأ العدد إليهم مع بدء إقامة المعرض. وظلت القاهرة بلا معرض حتى سنة 1969.

فى حالة معرض القاهرة الدولى للكتاب، اختلف الأمر، كان هناك إصرار من جميع الأطراف على بقاء المعرض وإقامته فى موعده، والحرص على نجاحه، الدولة ممثلة فى وزارة الثقافة والحكومة عامة، وكذلك الناشرون، فضلا عن جهود المعرض من قراء ديمقراطيين عاديين، فضلا عن الكتاب والمثقفين، وعلى هذا النحو بات معرض القاهرة حقيقة مؤكدة وثابتة.

تأسيس المعرض سنة 1969، وقبلها إقامة معرض سنة 1948، يعكس وفى الدولة، بغض النظر عن طبيعة النظام السياسى القائم، بأهمية ودون الشأن الثقافى والمعرضى، أو ما كان يطلق عليه "القوة الناعمة" هى جزء أساسى من قوة الدولة، لا يقل أهمية من "القوة الصلبة" أو الخشنة، كل منهما جناح للدولة وكذلك للمجتمع.

كان إقامة المعرض ضرورة وطنية واجتماعية مع توسع حركة التعليم ونشر الثقافة، كان هناك زمن ظلت الثقافة والمعرفة حكر على خاصة الخاصة، ولم تكن شأنا عاما، لكن مع ديمقراطية التعليم ونشر المعرفة والثقافة، ازدهرت صناعة الكتاب ، عل مستوى النشر والتوزيع ، صار هناك طلب متزايد عليه، وبالتالى توسعت حركة التأليف والبحث العلمى، أى الكتابة بمختلف صفوفها وفنونها.

أدى المعرض وما تبعه من معارض سواء داخل مصر أو خارجها ، إلى ازدهاره معرض الكتاب، ازداد عدد الناشرين، وبعد أن كانوا أقل من مائة ناشر فى مصر، صار الآن الرقم بالآلاف ، وترتب على قيام المعرض أن تأسس اتحاد الناشرين المصريين ثم اتحاد الناشرين العرب، لرعاية شئون الناشرين وقواعد المهنة، فضلا من حركة النشر.

مع توسع حركة النشر، كان لابد من ظهور أجيال من المؤلفين .. مبدعين وباحثين فى مختلف فنون الكتاب أو المعرفة، وكل عام يدخل هذا المجال كتاب وأسماء جدد، دعنا الآن من مستوى الإجادة، هذا متروك لحكم القراء والسادة النقاد.

بعد معرض القاهرة، انتشرت المعارض فى العالم العربى، بات هناك معرض - على الأقل - فى كل عاصمة عربية، يخصها، يشارك فيه الناشرون العرب، وهكذا صار المعرض ضرورة وطنية وسيادية لكل دولة سائر المؤسسات الأخرى، وربما يكون معرض الكتاب عن الصورة التى يتجسد فيها اللقاء العربى قائداَ، بلا مخاوف ولا حواجز، بل بلا حساسيات.. من المغرب وحتى الخليج.. وباتت إقام المعرض دليل تعافى الدولة وقوتها، بعد الاحتلال الأمريكى للعراق، وحين أخذت الدولة العراقية فى التعافى، كان معرض الكتاب هو الدليل الأبرز على ذلك، معرض الكتاب له دور وطنى، بحجم الدور الثقافى والمدنى، فى بناء المجتمع وقوة الدولة.

بقى القول أن هناك إصرار من البعض على مقارنة معرض القاهرة بمعرض فرانكفورت الدولى، والقول أن معرض القاهرة هو الثانى عالميا بعد فرانكفورت، والحق أن المقارنة لا تصح ولا تجوز، لأن معرض فرانكفورت فى الأصل مخصص لعقود النشر والناشرين وحقوق الترجمة، بينما معرض القاهرة للجماهير أولا، للبيع للقارىء، وهو من هذه الناحية يسبق الكثير من المعارض الدولية، كل معرض حالة خاصة بالمجتمع والمدينة التى يقام فيها وطبيعة الحياة الثقافية، معرض القاهرة بات طبقا ثقافيا واجتماعيا مصريا لا يمكن الاستغناء عنه.

Dr.Randa
Dr.Radwa