الأربعاء 15 مايو 2024

معرض الكتاب وذكريات المعرفة الأولى


عماد العادلى

مقالات5-2-2024 | 12:11

عماد العادلى
  • ربما كان المعرض هو الصدمة المعرفية الأولى في حياتي، والتي كانت بالنسبة لي كتلك الصدمة الحضارية التي أحدثتها الحملة الفرنسية في المجتمع المصري
  • تطور المعرض الآن كثيرًا، وذهب إلى مكانه الجديد  فأصبح أكثر استعدادًا وجاهزية وتنسيقا، محتفظا بمظاهره وأجوائه التى ظلت كما هي، وظل جمهوره  أيضًا كما هو

 

لم يأت شغفنا بالقراءة نحن مواليد سبعينيات القرن الماضي من خلال كُتب الدراسة التي كانت مفروضة علينا فرضًا، وإنما من خلال القصص الملونة التي كانت تُباع في محلات البقالة والحلويات الموجودة أمام المدارس، وفي أكشاك الجرائد، وكان ذلك مُناسبًا جدًا في سن الطفولة، ولكن حينما خرجنا من مرحلة طفولتنا وخطونا خطواتنا الأولى نحو عالم الكبار، صارت لنا مُتطلبات معرفية لم نعد نجدها في تلك الحكايات المُلونة، فبدأنا في البحث عنها في المكتبات، والتي كانت شحيحة جدًا في بداية الثمانينيات، ومقتصرة على فروع المؤسسات الرسمية كهيئة الكتاب ودار المعارف، بالإضافة إلى بعض المكتبات الأخرى كمكتبة مصر  بالفجالة، فضلًا عن سور الأزبكية الذي كان قِبلة مُهمة لكل مُحبي الكتب، لا سيما أصحاب الدخول الضعيفة الذين يريدون كتابًا بسعرٍ اقتصادي أو مُحبي التراث الذين لا يجدون بغيتهم في المكتبات ويُنقبون عنها في أكوام الكُتب القديمة.

حتى كانت الزيارة الأولى لمعرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1985، والذي كان قد انتقل حديثًا إلى أرض المعارض بمدينة نصر قبل ذلك بعامٍ واحد، فانفتح أمامنا باب شديد الاتساع، استطعنا من خلاله التعرف على كم مهول من العناوين المصرية والعربية في مختلف المجالات، ولم تكن المتعة تتحقق حين كُنا نتجول بين أروقة المعرض وصالاته الفسيحة فحسب، وإنما أيضًا صنعت تلك الرحابة في الكتب المعروضة رحابة في الأفق المعرفي لدينا، فصرنا نعلم أن هناك أصنافا معرفية أُخرى غير تلك التي نعرفها، وأن الأدب لا يتوقف عند ما قرأناه من روايات وقصص وأشعار.

ربما كان المعرض هو الصدمة المعرفية الأولى في حياتي، والتي كانت بالنسبة لي كتلك الصدمة الحضارية التي أحدثتها الحملة الفرنسية في المجتمع المصري، فهذا الكم من العناوين، وهذا الكم من المعارف، وهذا الكم من المكتبات ومن العارضين، لم يكن يجتمع في مكانٍ واحد من قبل، فصرنا نذهب كل أيام المعرض، من بدايته وحتى يُغلق أبوابه، صحيح كانت قدرتنا الشرائية تنفذ خلال اليوم الأول، إلا أن مُتعة الفُرجة والتجوال بين الورق والأغلفة كانت قائمة، كما أن مُتعة الصُحبة التي أفلست معًا.

واتخذت قرارًا بشد الرحال للمعرض يوميًا رغم الإفلاس أيضًا كانت قائمة، ومتعة الأمل في إكمال رحلة تقصي المعروض قائمة، لا سيما ونحن في الأتوبيس الذي كان يقطع القاهرة تقريبًا من البيت إلى المعرض في مشوار يمكن إنجازه الآن في أقل من نصف ساعة.

كان طابور دخول المعرض (وما زال) هو الطابور الوحيد الذي يمكننا الوقوف فيه راضين مستمتعين بما يدور من حوارات بين الواقفين حول الأدب والفكر وحول طموحات الشراء، فتعلمنا حينها وكنا لا نزال يافعين وشرخ شبابنا في مرحلة التفتق والانبثاق، تعلمنا من رواد المعرض كيف يكون سلوك القارئ وكيف تكون طوابير القراء، حيث الالتزام بالدور، بل والإيثار في بعض الأحيان، واحترام الكبير، والابتسامات المهذبة التي يوزعها الجميع على الجميع طوال الوقت، وكأنهم أسرة واحدة في رحلة خلوية، فلم تكن أبدًا كطوابير الجمعيات الاستهلاكية في ذلك الوقت والتي كان الناس يتشاجرون فيها لأتفه الأسباب.

كما أن مشهد ختام اليوم عندما يهبط الليل، والجميع يحمل حقائب الكُتب خارجًا من المعرض وهو  يجرجر قدميه تعبًا وإرهاقًا، ولكنه لا يزال محتفظًا بابتسامته التي تُعبر عن الرضا بما حققه من انتصارات معرفية يحملها معه في حقيبته وهو ذاهب إلى منزله، ليجلس فوق سريره ناثرًا مقتنياته من حوله، ناهلًا من رحيقها مُتعرفًا على عوالمها، فينام قرير العين مرتاح البال.

البديع في الأمر أن الناس كانت تتعامل وما زالت باعتبار معرض الكتاب مكانًا للتنزه، وكعادة المصريين يعتبرون أن الأكل والتسالي من الطقوس المُقدسة للفُسَح والرحلات، فلا خير في فُسحة بلا طعام (غِدِيوه)، كما أن خروجة لا طعام فيها لا يُعَوَل عليها بالتأكيد، فتجدهم يقفون في الطوابير وهم يحملون أكياسًا بلاستيكية بها سندوتشات من كل الأنواع، بل أحيانًا يُمكنك أن ترى بعضهم يفترش الأرض داخل المعرض "وحوله عائلته وأمامهم حلل وأطباق أشكال وألون"، ورغم أن البعض كان يستاء من ذلك مُعتبرًا أن مكانًا للكتب لايصلح لأن يكون مكانًا للمحشي، وأن جلوس الناس في حدائق المعرض ليأكلوا يعتبر مشهد غير حضاري ومُسيء، إلا أن دلالة الأمر في رأيي أن الناس كانت تقضي اليوم كاملًا في المعرض، وبعضهم قد جاء من أماكن بعيدة، ولم تكن محلات الأكل داخل المعرض قد توافرت حينها، كما أنهم كانوا يتعاملون مع المعرض باعتباره مزارا يُناسب كل الأعمار، فتجد فيهم المُسن والشاب واليافع والطفل، مما يُحمل قائد الرحلة مسئولية طلبات ورغبات الجميع.

تطور المعرض الآن كثيرًا، وذهب إلى مكانه الجديد  فأصبح أكثر استعدادًا وجاهزية وتنسيقا، وامتلأ بمحلات الأكل وانتشرت فيه الخدمات،  ولكن مظاهره ظلت كما هي، وأجواءه ظلت كما هي، وجمهوره  أيضًا ظل كما هو، ظل مكانًا يذهب إليه الناس على رأس كل عام ليُنفقوا أموالهم راضين على شيء أكثر سحرًا من المال بالنسبة لهم، إنه الكتاب بالطيع، والذي لا يعرف سطوته على العقول إلا مجتمع القراء.

الشيء الجوهري الوحيد الذي اختلف ويختلف في كل فترة، هو ذائقة القراء وتوجهات الشراء، ففي فترة من الفترات سيطرت القراءات الدينية، لا سيما التراثي منها، وكانت مبيعات الكُتب حينها تؤشر على أن ذلك النوع من الكُتب يطغى في مبيعاته على باقي الأنواع المعرفية، ولكن مع نهايات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي، ومع انتشار المكتبات الخاصة ودور النشر التي اتسمت بالطابع الشبابي بدأ الاهتمام بأشكال أُخرى من القراءة، مثل قراءة الكتابات الأدبية وتحديدًا الروايات والتي نالت نصيب الأسد بعد ذلك، خاصة بعد أن خصصت العديد من الدول العربية لها جوائز قيمة، ودارت رحى المنافسة بين كُتابها في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، وفي داخل عالم الرواية نفسه سنجد أيضًا تصنيفات تسود فترة وتختفي، مثل الكتابات البوليسية وأدب الرعب، ومثل الروايات المبنية على وقائع تاريخية، ومثل تلك المهتمة بالجوانب العاطفية، فكل عدة أعوام يسود شكل وينتشر ويحقق أعلى المبيعات في دور النشر والمكتبات، ثم سرعان ما يخبو ليظهر شكل آخر يطلبه القارئ ويتفاعل معه، وظهر مع ذلك أيضًا طوابير حفلات التوقيع التي لم تكن معروفة من قبل، وبداية الاهتمام المباشر من الكُتَّاب مع فئات أكبر من القراء.

ومن الملاحظ في الأعوام القليلة السابقة ومع الارتفاع الجنوني في أسعار الورق وأدوات الطباعة، وقد صاحب ذلك ارتفاع مماثل في أسعار الكُتب بالطبع، أن الارتفاع في الأسعار  وإن أثر في القدرة الشرائية لزوار المعرض، إلا أنه لم يؤثر أبدًا في رغبة زيارة المعرض والتجول بين صالاته المتعددة، لأن متعة القارئ مع الكتاب مُتعة ثلاثية، وأولها التجول بين الكتب واستنشاق رائحة الورق المحببة لقلب كل قارئ، وهي متعة منفصلة تمامًا عن باقي المُتع، ثم بعد ذلك تأتي متعة الشراء والاقتناء، والتي من أجلها قد يُكدس القارئ الكثير من الكتب الراغب في قراءتها كل عام، دون أن يتمكن من ذلك، وثالث هذه المتع هي عملية القراءة ذاتها، والتي هي ذروة سنام المُتع، وزائر المعرض قد يكتفي بمتعة التجول ويكتفي بأن (يعيش الحالة) ولا مانع من أن يقتني بعضًا مناسبًا من الكُتب المعروضة، حيث يبحث عن الكتب الاقتصادية وخصوصًا تلك التي توفرها مؤسسات الدولة كهيئة الكتاب وهيئة قصور الثقافة والمركز القومي للترجمة ودار المعارف والمؤسسات الصحفية الأخرى كأخبار اليوم والجمهورية والأهرام، فنجد الزحام كبيرًا في أجنحة تلك المؤسسات، أو يبحث عن تلك الدور التي تقدم خصومات وعروض حقيقية على إصدارتها، والمهم هو أن ارتفاع أسعار الكتب قد يؤثر في قدرة الشراء، ولكنه لم يؤثر أبدًا على عدد الزوار والزحام الكبير داخل وخارج المعرض.

وفي كل مرة يُقام فيها معرض الكتاب نسمع أُمنيات على هيئة أسئلة، مثل.. لماذا لا يمتد المعرض ليكون طوال العام، أو لماذا لا يتسع المعرض أكثر من ذلك ليتضاعف المعروض، بل إن بعض الناس يقترح أن يتحول المعرض إلى (مدينة الكتاب) و يكون لها مقر دائم يذهب إليه القراء بغرض الشراء وحضور الأنشطة المختلفة والفعاليات؛ إنها أمنيات يرى الناس إمكانية تحققها، وأنا بدوري أطرحها كأفكار نافعة لخدمة الثقافة.. فماذا لو  أصبح لدينا بالفعل مدينة للكتاب، تمتد فعالياتها على مدار العام، ولا يقتصر الأمر على عرض الكتب فقط، ولكنه يتجاوز ذلك إلى كل الأشكال المرتبطة بالكتاب، مثل الأنشطة والفعاليات وحفلات توقيع الكتب وغير ذلك من المظاهر الثقافية المرتبطة بالقراءة.