الجمعة 3 مايو 2024

عوالم أستاذنا "بهاء طاهر"

مقالات15-2-2024 | 16:34

بالأمسِ..

 وجدتُ إحدى المَحَطَّاتِ الفضائيَّة تُعِيد إذاعة حلقات مسلسل «خالتي صفيَّة والدير»

وفجأةً.. وجدتني أعودُ بالذاكرة..

هناك..

حيثُ البُقْعة الأجمل من الذكريات..

وعوالم أستاذنا  «بهاء طاهر» رحمة الله عليه .

مريدُوه كُثُر، وروَّادُه أكثر

كتبوا، وكفوا ووفوا

من سيرةٍ ذاتيَّة وأعمالٍ أدبيَّة واقتباساتٍ وجوائزَ...

ولم أجِد ما أتحدَّث عنه سوى: «أنا وبهاء طاهر»

أدَّعِي أنَّني قارئةٌ أقفُ على أول الدَّرَج ولا زلِتُ أتهجَّى حروفَ الأدبِ الأولي..

ولكنَّني أمنحُ نفسي وسامَ متابعتِي للعِملاق «بهاء طاهر»، والذي يمنحني بدوره صكًّا غيرَ مُعلَنٍ أو مستوفيًّا الشروط للحديث عنه.

لم ألتقِهِ يومًا، ولكنَّه دونما قصدٍ حاك ذلك الحبلَ السري الذى ربط بيني وبين عوالمِه البهيَّة ليصنع لحياتي امتدادَ حياةٍ، وتتضاعفَ سنوات عمري سنواتٍ وسنوات.

مع «بهاء طاهر» تعلَّمْنَا..

تعلَّمْنا أنَّه من السهل أنْ نَنْظُمَ الكلمات ونملأَ الكونَ مثاليَّاتٍ نحن أبعدُ ما نكون عنها.

لكنَّ الجمالَ ما فعله هو..

عندما تبرَّع لأهل الأقصر (بلدته) بقطعةِ أرضٍ من باب الوفاء لمسقطِ الرأس وردِّ الجميل؛ ليُبنَى عليها قصرُ ثقافةٍ يليق بالثقافة والمثقفين وبشخصه.

مع «البهاء الطاهر» أدركنا..

أنَّ الحقَّ أحقُّ أن يُتَّبَع، وأنَّ التراجع عن حُكْمٍ خاطئٍ من شيمِ الكبار، وأنَّه يزيد الشأن رفعةً وعلوًّا.

وهذا ما فعله عندما عَمَدَ إلي ترجمة «الخميائي» للكاتب البرازيلي «باولو كويلهو» ليتمَّ نشرها في سلسلة روايات الهلال.

 ففي بداية قراءته لها أعلن رؤيته الأوليَّة لبعض المُقرَّبين له مُصرِّحًا أنَّه خُدِعَ في الرواية، وأنَّه وقع في شَرَكِ التهويل والدعاية، وأنَّ الكاتبَ لجأَ للإبهار لاستدراجِ القارئ للاسترسال.

وعندما أتَمَ القراءة وجَدَها تخالِفُ ما سبق وأعلنه وأنَّها كنزٌ لا يُستهانُ به

فلم يتخطَّ ذلك الموقف، لكنَّه اعتذر صراحةً لكلِّ مَن تسرَّع وأعلنَ رأيَه في الروايّة أمامه، مُحذِّرًا نفسه وغيره من ادِّعاء الفطنة والذكاء، والغفلة عن الانتباه لكنزٍ هامٍّ  برأي متسرع.

كان صادقًا مع نفسه؛ فصَدَّقَهُ مَن حوله؛ ليُعَلِّمَنِي أنَّ المكابرةَ ضَعْفٌ وقلة حيلة وطَمْس لحقائقَ ستنكشف يومًا ما ليُخزَى مَن طمسها .

معه أدركتُ...

أنَّه من الإنسانيَّة والصدق مع النفس ألَّا نقولَ إلا ما نفعل..

قالَ: لم أفهم معنى ذلك الموت، لا أفهم معنًى للموت... لكن ما دام مُحتَمًا فلْنفعلْ شيئًا يُبرِّر حياتنا.. فلْنتركْ بصمةً على هذه الأرض قبل أن نغادرها ..

وفعل...

فترَكَ طُرقًا مُمَّهدةً  تحمِل لافتات خُطَّ عليها: «نرحل ليبقى الأثر».

قالَ : لحظةٌ واحدةٌ من الخوف الحقيقي والحب الحقيقي بدلًا من هذه الحياة الكذب...

بدلًا من المشي بلا سبب، والكلام بلا معنى، وفتح الأبواب، وغلق الأدراج، وطلوع السُّلَّم، والردِّ على التليفون، وانتظار السيارات..

 وقناعٌ كاذبٌ للحزن وقناع أكذبُ للضحك لمقابلة أقنعة الآخرين ..

لحظةٌ واحدةٌ تُبعَث فيها الأرواح الميتة لتلتقي…

 وفَعَل..

أَهْدَانَا بفكْرهِ نبراسًا به فِيه يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ونستبين به الزيف من الصدق.

قالَ بعد فوزه بجائزة (ملتقى القاهرة الدولي السادس للروايّة العربيَّة): «كان يجب أن تُمنَح الجائزة للشباب، أو مناصفة بيني وبين الشباب».

وفَعَل ...

رسَّخَ قيمةَ صُنْع الكبار.. الإيثار.. الوعي..

فلم يكن هدفه (ها أنا ذا)، ولكنَّه كان يصنع صَوْلجانًا مِن أحجارٍ كريمةٍ يتوكَّأ عليه مَن يأتي بعدَهُ ليكونَ خيرَ خَلَفٍ لخيرِ سَلَفٍ.

فبِوسْعِ الكاتب الفنان أن يغرسَ في وجدان القارئِ قيمةً كبري بقَولِهِ الذي صَدَّقَهُ فِعْلُه.

الفنانُ الحقُّ قادرٌ علي أن يَهِبَ القارئَ حيواتٍ فوقَ حياتِه..

وأنْ يمنحه خلودًا سرمديًّا وكيانًا لا يفنى...

رحم الله الإنسان بهاء طاهر

مُعلِّمِي الذي لم ألتقه يومًا.

Dr.Randa
Dr.Radwa