تتشكل تجربة الشاعرة هناء البواب من تكوينات معرفية شديدة الخصوصية انطلقت من نشأة في ظلال أسرة ثقافية تجمع بين الأصالة والمعاصرة، أثّرت في تكوينها ووجهت موهبتها الشعرية الفطرية وعشقها للغة العربية وتجلياتها الجمالية. قدمت العديد من المجموعات الشعرية التي وضعتها على خارطة المشهد الشعري في العالم العربي عامة والأردني خاصة..
وتتميز تجربتها الشعرية بخصوصية نسيجها على مستوى رؤاها ولغتها وتشكلات صورها وعمق قضاياها الإنسانية سواء ما خص الذات أو المحيط العام.
هذا التشكيل الجمالي والفني لها دفعها إلى تأسيس دار نشر "خطوط وظلال" لتقدم أبرز التجارب الشعرية والروائية العالمية والعربية على اختلاف تنوعاتها جنبًا إلى جنب الكتب الثقافية والفنية والفكرية المؤلفة والمترجمة.. التقتها "دار الهلال" فجاء الحوار التالي:
-في البداية نود التعرف عن تكوينك المعرفي والثقافي الذي أحاط بتجربتك الإبداعية ومدى تأثيره عليك؟
والدي دكتور لغة عربية ومحقق كبير من مؤسسي مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات في المملكة العربية السعودية، لديه أكثر من مائتي كتاب في التحقيق خاصة في تحقيق التراث، وقد تأثرتُ به وبالأسرة، فمنذ نعومة أظافرنا تُحيطنا المكتبة، ويجب أن نقرأ، يجب أن نتقن اللغة العربية، يجب أن نتقن -حتى في قراءة الصحيفة- القراءة نحوًا وصرفًا، بعد ذلك كانت دراستي للغة العربية، وقراءتي للشعر التي ساعدت في تنمية موهبتي كشاعرة، فلديّ دكتوراه في اللغة العربية، حصلت على الليسانس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وعلى الماجيستير في الجامعة الهاشمية بعمان في الأردن، والدكتوراه في جامعة العلوم الإسلامية، وتعينت بها أستاذ مساعد فترة من الزمن، كانت ذلك البداية، ثم جاءت الخبرة حيث ينتقل الإنسان للخبرة في الحياة، وتتغير وتتحدد خبراته بها من خلال تأثيرات المجتمع من حوله وكتاباته وقراءاته المختلفة واطلاعه.
-ماذا عن تجربتك الشعرية والمراحل التي قطعتها منذ انطلاقتها بديوان "جدار الأعين" الخرساء وانتهاء بديوان "طحين الماس"؟
الشاعر يُولد شاعرًا ويُخلق شاعرًا، وما من أحد يتعلم الشعر، ولكن يتعلم العروض، فالعروض يُدرّس لمعرفة هل هذا البيت مستقيم شعريًا أم لا، وتُدرس نصوص الشعر من أجل فهم فكرة الشعر، لكن أن تعلم شخصًا كيف يصبح شاعرًا لا يمكن ذلك، فالشعر بالفطرة، بدليل العرب بدون علم كان أغلبهم شعراء بسليقتهم أو سماعهم أو بتناقلهم وهكذا.. وتختلف تجربتي من ديوان إلى آخر، فعلى الرغم من محبتي لديوان "جدار الأعين الخرساء" الذي استغرق وقتًا طويلًا إلى أن أصدرته، لكنني أعتبره الأكثر هشاشة في تجربتي، حيث خرجتُ من مجتمع منغلق جدًا، كنت أعيش في السعودية في زمن ما قبل الانفتاح، ومنها عام 2000 إلى مجتمع منفتح تمامًا في الأردن، فصار لديّ صدمة بين المجتمعين فكريًا وحياتيًا واجتماعيًا، الأمر الذي أثّر عليّ، وجعلني أصدر الديوان بطريقة مختلفة وبشكل مختلف، ومع ذلك لا تزال ثقتي في فكرة أن ديواني الأول بعيدًا عن تجربتي الأصلية، فكان بين التقليد، والتأثر بقيود المجتمع، لكنني من بعد الديوان الثاني، وبداية من ديواني "لعنة الشعراء" استطعت التحرر من كل قيود المجتمع، حتى أنني كتبتُ في كل ما أريد وتخاف المرأة أحيانًا أن تكتب فيه.
- من الديوان الثاني وحتى الأخير هل اختلفت تجربتك الشعرية؟
لا.. هو خط واحد أكيد ولغة واحدة، ونمط واحد، هويّة شعرية واحدة للشاعر لكن في كل مرة تتصاعد عنده الوتيرة الشعرية، تتصاعد عنده التجربة، وتختلف عنده القدرة على الكتابة، وتختلف المواقف التي يتعرض لها، ومشاعره، فأحيانًا يصتدم بجدارٍ فيجد نفسه لا يستطيع الكتابة، وأحيانًا تكون كل الأبواب مفتوحة أمامه للكتابة.
-تجمعين بين الشعر والمسرح والفن التشكيلي.. كيف ترين تأثير كل منهم على الآخر؟
في كل ما أكتب أجد نفسي شاعرة أكثر مني أي شيء آخر، أكتب المسرح فأجد صفحات كاملة تأتي موزونة وزنًا شعريًا لا إراديًا، لأنني بالأصل شاعرة، فإذا كتبت شيئًا سيخرج معي شعرًا دون أن أشعر، أحاول أن أفككه ليتحول إلى نثر، فالشعر هو صاحب التأثير الأول عليّ في كل شيء، وكذا في الفن التشكيلي أنت شاعر عندما ترسم اللوحة وتضع الخطوط، أنت في المحصلة شاعر، الروائي إذا تحول إلى شاعر يجد نفسه دون أن يشعر لا يزال روائيًا، والشاعر إن تحول إلى روائي يجد أن الشعر هو الذي يغلب عليه، إذًا لك ميزة تميزك مهما حاولت الهروب منها.
-تميل قصيدتك إلى تشكيلات تتماس مع عوالم الروح في اشتباكتها مع الحياة.. ما التجربة الإنسانية الأبرز في حياتك والتى لها تأثير مباشر على تجربتك الشعرية؟
المرأة. فهي في مجتمع تظلم فيه دائمًا، المرأة المطلقة، والمرأة العانس، والمرأة التي أحبت شخصًا فغدر بها، والمرأة التي تربي أبناءً، فدائمًا الأنثى هي الضلع الأعوج في هذا المجتمع من وجهة نظرهم، ودائمًا هي الحلقة الأضعف من وجهة نظرهم، ويمكن القول أنها التجربة الإنسانية الأكبر تأثيرًا في كل ما أسمع، وما عانيت، وما عشت في حياتي، فدائمًا ما أجد نفسي أحب أن أكتب عن المرأة مدافعة عنها، عن حقوقها، عن تمثلاتها في هذه الحياة.
-لسنوات طويلة وحتى الآن أنت من أنشط المبدعات الأردنيات وأكثرهن حضورًا.. ما الدافع وراء ذلك؟ وماذا عن الحراك الثقافي الأردني؟
الأسرة التي تربيت فيها أعطتني حرية كبيرة جدًا لأن أسافر وأتحرر من كل قيود المجتمع وأمثّل نفسي وبلدي في المهرجانات، وأن أقرأ، وأكتب، وأفعل كل ما يحلو لي ضمن الحدود التي تربينا عليها، فالأسرة إما أن تمنحك الحرية الواسعة، أو تغلق عليك وتقيدك، والحمد لله أنا من أسرة تعطيني كل الحرية، وكم من شاعرة تخاف أن تكتب جملة بسبب أخ لها، أو بسبب والدها، أو بسبب زوجها.
والحراك الثقافي الأردني حراكًا مميزًا عن بقية الدول، فظهور الأسماء فيها سريع، والمشهد الأردني مشهدًا مؤثرًا جدًا في العالم العربي، والقارئ الأردني مثقف جدًا، والشاعر الأردني أو المبدع الأردني له حضوره في كل مكان، وصدقًا يحقق جوائز وإنجازات، ويحقق أسماء كبيرة، حتى أننا نجد ضمن الأسماء التي تتولى مناصب مهمة في أي دولة سواء ثقافيًا أو مجتمعيًا أردنيًا حاضرًا، وفي كل مكان بالعالم نجد أردنيًا مؤثرًا في هذا الحراك الثقافي.
- لديك بيت للثقافة والفنون في عمان حدثينا عنه..
هو مقهى له طابع الستينيات والسبعينيات، أيام كان الناس يتجمعون لقراءة الشعر وهذا ركن بالمقهى، بينما البعض يعزفون الموسيقى لحالهم بركن آخر، وآخرون يناقشون قضية ثقافية ما، وهذا البيت تأسس في جبل الحسين، عام 2013، وخلال 11عامًا أسس حراكًا ثقافيًا مهمًا في الأردن، فلدينا لقاء لثلاثة أيام بالأسبوع، ما بين الشعر، والقراءة في كتاب، وملتقيات ثقافية بالأردن تعقد ندواتها في بيت الثقافة، أما باقي الأسبوع فمفتوح من العاشرة صباحًا حتى الحادية عشرة مساءً للّقاءات والموسيقى والأغاني بشكل غير منظم، ومن يأتي من خارج الأردن يسعى لزيارة "بيت الثقافة والفنون"، أو يُستضاف في بيت الثقافة والفنون، الأمر الذي خلق اسمًا كبيرًا لدار "خطوط وظلال" صدقًا، لا لبيت الثقافة.
-ماذا عن تأسيس دار "خطوط وظلال" والظروف التي صاحبتها، وأبرز أهدافها؟
"خطوط وظلال" ظهرت فى أصعب ظروف مرت على الكرة الأرضية، وهي كورونا، حيث افتُتحت الدار 27 مايو 2020 في ظل حظر التجوال والظروف الاقتصادية العالمية، لكن لدينا رؤية وهدف ثقافي، ولدينا تصوّر أن هذه الدار ستأخذ مكانة مهمة في الوسط الثقافي، وبالفعل استطعنا خلال عامين ونصف أن نحقق هذا.
وأهم أهدافها أن الكتاب ليس سلعة تجارية فقط، وإنما مادة ثقافية، والتسويق للثقافة قبل التسويق للكتاب، فنحن نعرّف العالم على كاتب جديد اليوم أصبح لا يظهر في ظل أسماء كبيرة ومكرسة الكل يبحث عنها ويعرفها، فظهور كثير من الأسماء الجديدة المهمة هدفنا، وكم هي موجودة وللأسف لم تجد من يدفعها إلى الأمام، نحن طبعنا لهم الكثير من الكتب، أيضًا هناك مترجمون جدد أهم من مترجمين كبار، ولم يجدوا الفرصة، لذا نوائم بين المادة المكتوبة أو المترجمة الحقيقية وبين الاسم، فالاسم مهم لكن بالمقابل النص المكتوب أيضًا مهم ويحتاج إلى من يطرح أو يسوّق هذا الكاتب.
-كيف تساهمون في تبني أو ظهور المواهب الشابة؟
أجرينا مسابقة في القصة القصيرة وفي الرواية البوليسية وفي الشعر في 2020 -2021 وكانت جائزتها طباعة ثلاثة كتب للفائز الأول والثاني والثالث بشرط أن يكون الكتاب الأول مخطوطًا لنطبعه، وتقدم لها أسماء عربية وكان اسم الجائزة "الأديب إلياس فركوح" وهو أديب وقاص أردني لقصة قصيرة في دورتها الأولى، وفاز بها كتاب "ثلاثة فخاخ لذئب أعور" لمحمد سرور، هذا الكتاب حصل على المركز الأول بجائزة ساويرس 2022، ما يؤكد مصداقية الجائزة، وأن هذا الشاب الموهوب فاز بالمخطوط فطبعناه، ففاز بالمطبوع في جائزة ساويريس.
-ماذا عن المسرح في تجربة هناء البواب؟
- أكتب مسرح مونودراما وأخرجه، ولديّ 12 عملًا مسرحيًا في المونودراما، منهم 6 أعمال مطبوعة، وأحيانًا تأتي لي الأعمال المسرحية مكتوبة وأخرجها، ومن التجارب الناجحة لي في المسرح "زوايا النسيان"، وهي فكرة امرأة أحبت شخصًا بدلالة أو أخرى، تأتي في صورة امرأة كفيفة البصر، كانت تعمل في مختبر للمراقبة على العدسات، أحبها شخص لأجل أن يبرع في مبتكراته وعلومه، ففتحت له كل أبواب المعمل دون أن يعلم أصاحبه، وبعد أن حقق نجاحًا وحصد الجوائز غدر بها، ومن هنا تبدأ القصة، حيث تدور فكرة المسرحية حول كيفية استطاعة الرجل التسلق على ظهر امرأة.
-إذًا كم شخصية للشاعرة هناء البواب؟
4 شخصيات.. الدكتورة الأكاديمية صاحبة "البريستيج" المحافظة، والتاجرة صاحبة دار نشر "خطوط وظلال"، وراعية مشهد ثقافي كبير ومهم في الأردن بالمقهى الثقافي ومن خلاله يتعاملون معي من ناحية الجانب الإداري الذي ينظم الأمسيات والملتقيات، والشخصية الرابعة هي شخصية الشاعرة، ثم كاتبة ومخرجة مسرح، وفي كل شخصية يختلف التعامل من ناحيتي ومن ناحية الأخرين معي، لكنني أحب أن أكون شاعرة.