دعت المسيرة الفنية الحافلة لموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب والتي امتدت نحو 74 عامًا لكتابة مذكراته سبع مرات منذ 1938 حتى 1986 عبر وسائط إعلامية مختلفة كانت الأولى والثانية منها هي الأهم وفق ما أكده الكاتب الصحفي والباحث الفني محمد دياب وما تناوله بالجمع والتحقيق والتقديم عبر كتابه "مذكرات محمد عبد الوهاب" الصادر حديثًا عن دار "المرايا للثقافة والفنون"، لينفض الغبار عن هذه المذكرات المنسيّة والمجهولة، ويضيء الكثير على تفاصيل جديدة، شديدة الدقة والأهمية في حياة الموسيقار.
يقول دياب في حديثه لبوابة "دار الهلال": "مذكرات محمد عبد الوهاب في مجلة "الاثنين" تحديدًا لم تنشر من قبل، فهي منسية ومجهولة لدى الكثيرين الأمر الذي دعاني لتوثيقها وتقديمها في كتاب".
ويضيف: "أوردتُ في الكتاب كل ما جاء من مذكرات لمحمد عبد الوهاب بمجلتيّ "الاثنين"، و"الكواكب" لأنها الوحيدة التي أسماها عبد الوهاب مذكرات، وتناولتْ سيرة حياته الفنية وليست الشخصية، وعلى الرغم من تطرق الموسيقار لنشأته وحياة والده وحي باب الشعرية ومسجد "الشعراني" في الفصل الأول بمجلة "الكواكب" لكنه تجنب ذكر زيجاته وحياته وأولاده".
لكن دياب لم يقتصر في كتابه على عرض هذه المذكرات فحسب، واستطاع عبر بحثه الذي استغرق عدة أشهر لم يترك خلالها مصدرًا ذكر عبد الوهاب أو ذكر معلومة نادرة عنه يجهلها الناس إلا وأضاء عليها، أن يعرض دراسة كاملة عنوانها "ما لا تعرفه عن حياة عبد الوهاب" حقق من خلالها في ميلاده ونشأته وزيجاته ونشاطه المسرحي في بداية حياته ممثلًا وملحنًا ومغنيًا بين فصول المسرحيات، التي نسيها عبد الوهاب نفسه ولم يتطرق لها أو يستفيض في الحديث عنها من خلال مذكراته، ويجهلها الكثيرون حتى دارسي موسيقاه.
وينوّه الباحث الفني ضمن مقدمة كتابه إلى أن الملكة نازلي كانت السبب وراء عدم استكمال عبد الوهاب لنشر مذكراته فيقول: (بعد أربعة أسابيع من التوقف عن نشر المذكرات نشرت مجلة "الاثنين" تنويهًا في عددها رقم 217، الصادر بتاريخ الثامن من أغسطس 1938 تقول فيه: "سبق أن ذكرنا أن مطرب الملوك الأستاذ محمد عبد الوهاب، أبحر إلى أوروبا على ظهر الباخرة "النيل" التي أقلت صاحبة الجلالة الملكة نازلي، وصاحبات السمو الملكي الأميرات، وقد أقيمت في الباخرة قبل الوصول إلى "جنوي" حفلة كبيرة تجلى فيها عبد الوهاب وارتفع صوته العذب، بما نال من أجله تقدير الملكة وسمو الأميرات، وحاشيتهن من كرائم العقائل، وعقب الحفلة تقدمت شركة "مصر للملاحة"- وكان يمثلها على ظهر الباخرة صاحبا السعادة والعزة: مدحت يكن باشا، وفؤاد سلطان بك – إلى الأستاذ محمد عبد الوهاب بمبلغ مئة جنيه كهدية، بعد إحيائه الحفلة، لكنه رفض قبول المبلغ بتاتًا، وذكر أنه يعتبر ما أداه هو موضع فخر له وتشريف، وأنه لن يتقاضى على تأدية الواجب أجرًا مهما كان، وقد أكبرت الشركة في عبد الوهاب هذه العاطفة كما قدرها المسافرون جميعًا").
ويتابع: (يبدو أن رسائل القراء انهالت على المجلة تسأل عن سبب توقف نشر المذكرات، فنشرت المجلة هذا الرد على تساؤلهم في العدد التالي الذي حمل رقم 218، وصدر في الخامس عشر من أغسطس 1938: "حول مذكرات عبد الوهاب وردت إلينا رسائل عدة، يسأل أصحابها عن سبب توقفنا عن نشر مذكرات مطرب الملوك الأستاذ محمد عبد الوهاب، وجوابًا عن ذلك نقول بأن وجود الأستاذ في أوروبا حال دون هذا الاستمرار، ولذلك أرجئ الأمر لحين عودته". غير أن المجلة ظلت تصدر أسبوعًا تلو الأخر من دون أن تستكمل المذكرات، وحل فصل الشتاء وانتهى عام 1938، وفي يناير من العام التالي 1939 شرعت المجلة في نشر مذكرات جديدة للفنانة بديعة مصباني على حلقات مسلسلة، وتبدد الأمل في معاودتها لنشر باقي مذكرات عبد الوهاب!).
ويحقق دياب في ميلاد عبد الوهاب فيذكر: (يقول جواز سفر عبد الوهاب أنه من مواليد الثالث عشر من يناير عام 1910، والشائع أن تاريخ ميلاد عبد الوهاب باليوم والشهر هو أمر مجهول، وأن من اختار له هذا التاريخ هو أمير الشعراء كما ذكر عبد الوهاب غير مرة، وذلك عندما قرر عبد الوهاب استخراج جواز سفر حتى يتمكن من السفر مع شوقي إلى فرنسا عام 1927، وأن شوقي اختار له رقم 13 ليحطم به الاعتقاد السائد بأنه رقم نحس، واختار شهر مارس لكونه شهر الربيع وتفتح الأزهار. في حين تقول صورة متداولة عن بطاقة عبد الوهاب الشخصية، المعروضة حاليًا بمتحفه في معهد الموسيقى العربية إنه من مواليد الرابع من سبتمبر عام 1910، وربما كان عبد الوهاب حقيقة من مواليد سبتمبر، غير أنه كان يحتفل ويترك الأخرين يحتفلون بيوم مولده في الثالث عشر من مارس من كل عام، أما تاريخ سنة مولده فتلك معضلة أخرى قتلت بحثًا حتى استقر الأمر على عام 1902، لأنه العام الذي يتسق مع ما حدث من وقائع تاريخية للأحداث، يؤكد الدكتور فكتور سحاب على هذا في كتابه "محمد عبد الوهاب سيرة موسيقية"، يذكر فيه أن شقيقه المايسترو سليم سحاب سأل الدكتورة السوفييتية إيزابيلا روبينوفا عن سبب إثباتها أن عبد الوهاب ولد عام 1902 في كتابها "دراسات في الموسيقى العربية"، فأكدت له أن عبد الوهاب هو الذي أبلغها بذلك حين سألته عن سنة مولده لإثباتها في كتاب علمي. من جهة أخرى يؤكد الكاتب محمد السيد شوشة، على أن الناقد المخضرم محمد علي حماد صديق سيد درويش، ذكر له أن عبد الوهاب حينما عمل فرقة سيد درويش عام 1921 كان عمره وقتئذ لا يقل عن الثامنة أو التاسعة عشرة، وتشاركه في ذلك منيرة المهدية التي ذكرت عبد الوهاب حينما شاركها بطولة رواية "كيلوباترا ومارك أنطوان" عام 1927 كان عمره لا يقل عن خمس وعشرين سنة).
وفي حواره لبوابة "دار الهلال": عبّر الكاتب الصحفي والباحث الفني محمد دياب عن سعادته كونه أسقط الضوء في كتابه على محمد يوسف شمعون الذي اكتشف عبد الوهاب، ومرّنه على الغناء، وحفّظه أغاني سلامة حجازي، وكان سببًا لعمله في المسرح، ولحّن له أول خمس أغاني في حياته نسيهم عبد الوهاب نفسه عدا أغنية "أنا باكل منجة وصوتي كمنجة" الأغنية الوحيدة التي ذكرها عبد الوهاب، ولم يتطرق لأن شمعون هو الذي لحّنها له خصيصًا الأمر الذي لا يعرفه الكثير عن عبد الوهاب.
يذكر شمعون في شهادته التي جاءت في حوار أجرته معه مجلة الكواكب في أول عدد تذكاري تصدره الكواكب عن الموسيقار، وأوردها دياب بكتابه: "كنت أعمل ترزيًا في الصباح، وفنانًا في المساء، فقد كان على كل مشتغل بالفن أن يبحث له عن عمل آخر، وكنت أعمل في محل أخي محمود يوسف، في حارة "قواديس" رقم 8 بعابدين، وذات يوم جاء شخص اسمه علي عبد السلام ومعه صبي صغير اسمه محمد عبد الوهاب، ليلحقه بالعمل بالمحل، وقال: إن هذا الصبي هو شقيق زوج أختي، وكانت أخته زوجة الشيخ حسن شقيق محمد عبد الوهاب، وانضم الصبي الصغير إلى العمل في المحل، وبدأ يلفت أنظار الجميع بحلاوة صوته وهو يرتل آيات القرآن، كان شقيقي محمود صاحب المحل يخص الصبي بعنايته ويمنحه كل يوم خمسة مليمات لأنه يقرأ، دخلتُ عليه فسمعته يغني أغنية كانت أيامها تجري على كل لسان وهي أغنية "البحر بيضحك ليه وأنا نازلة اتدلع أملا القلل"، وأعجبت بصوته وقررت أن أصحبه معي إلى فرقة فوزي الجزايرلي في المساء، حيث كنت أعمل رئيسًا للملحنين وقدمته لفوزي الذي أعجب بصوته وقرر أن يقدمه ليغني بين الفصول، وبدأت أدربه على أغنية من تأليف يونس القاضي مطلعها "أنا عندي مانجة، وصوتي كمنجة، أبيع وأدندن، وآكل مانجة"، وما كاد محمد عبد الوهاب يظهر بهذه الأغنية حتى أعجب بها الجمهور منذ الليلة الأولى إعجابًا كبيرًا، واستعاده عدة مرات، مما شجعني على أن أحفّظه أغنية أخرى مطلعها "عشنا وشفنا شيطان ببريزة، وبنص بريزة، والفكة عزيزة، يا أبو عبده"، وكان سبب تأليف هذه الأغنية عام 1917 أن السلطات البريطانية طبعت نقودًا من الورق لتشتري بها ما تحتاجه، وحدث تضخم مالي بسبب هذه الشيكات المطبوعة بفئات مختلفة. ولم تكن أسرة عبد الوهاب تعلم بأنه يشتغل مع فرقة فوزي الجزايرلي، واكتشف ذلك شقيقه الشيخ حسن عبد الوهاب وكان وقت عمله مقرئًا للقرآن، فثار وغضب وجاء إلى فرقة الجزايرلي وطلب أن يتركوا شقيقه فورًا وأخذه، وعلمت أنا بالأمر فخرجت أجري وراءهما من حي الحسين إلى باب الشعرية، وأحاول إقناعه بأن يترك محمد يغني، لكن الشيخ حسن رفض وكان يهوي على وجه أخيه بالضرب حتى وصلنا إلى مسجد "سيدي الشعراني"، حيث كان يعمل والد عبد الوهاب مشرفًا على صندوق النذور بالمسجد، وما كاد الأب يعلم حتى ثار هو الأخر وانضم إلى صف الشيخ حسن وغضب، وظللت أكثر من ساعتين أحاول إقناعهما بعد أن شرحت لهما مزايا العمل بالفن، وأخيرًا وافق الشيخ عبد الوهاب بشرط أن أكون أنا مشرفًا عليه، ومندوبًا عنهما لرعايته".
ويواصل شمعون: "عاد محمد عبد الوهاب إلى فرقة الجزايرلي، وبدأت أدربه على الألحان المشهورة في ذلك الوقت، وفي تلك الأيام مات الشيخ سلامة حجازي في أربعة أكتوبر 1917، واتفق بعض العاملين في الوسط الفني على إقامة حفل تأبين له بمناسبة الأربعين، وغنى محمد عبد الوهاب في تلك الحفلة قصيدة من تأليف ممثل مشهور في ذلك الوقت اسمه حسن الفلاح، ومن تلحين محمد يوسف شمعون، مطلعها "سلامة انحجبت اليوم عنا، فشخصك في الفؤاد بلا حجاب، وإن عز اللقاء فمن قريب يجمعنا شملنا يوم الحساب"، وفي هذه الحفلة سمعه المرحومان عبد الرحمن رشدي، وعلي الكسار، وأعجب به عبد الرحمن رشدي وعرض أن يعمل محمد بفرقته كما عرض الكسار أيضًا، لكنه التحق بفرقة عبد الرحمن رشدي".
في ذات السياق يتابع الباحث عبر سطور كتابه: "للأسف لم يعامل عبد الوهاب محمد شمعون بالشكل الذي يليق بمعروفه وجميله عليه، ربما لأن عبد الوهاب كان يخجل من أن يذكر أنه كان يعمل صبي ترزي في محل متواضع لقاء خمسة مليمات يوميًا ليساعد أسرته في معاشها، وهذا أمر يشرف عبد الوهاب ولا ينتقص من أجره، فلم تكن أم كلثوم الفنانة العصامية مثلًا تخجل من ذكر أنها كانت تعمل طفلة في جمع القطن في الحقول لقاء مليمات معدودة لمساعدة أسرتها".
ومن ناحية عمل محمد عبد الوهاب بالمسرح يواصل دياب: "عمل عبد الوهاب في فرقة الجزايرلي على الأرجح منذ يناير 1917 لقاء خمسة قروش كل ليلة مغنيًا بين فصول المسرحيات التي تقدمها الفرقة، ويبدو أن عبد الوهاب انتقل للعمل في فرقة عبد القادر حجازي نجل الفنان الكبير الشيخ سلامة حجازي، ويبدو أنه انضم إليها بعد سفر فرقة الجزايرلي لتقديم عروضها في مدينة الإسكندرية صيف ذلك العام بسبب مضايقات جنود الاحتلال البريطاني، ورفض والده لفكرة سفره مع الفرقة".
ويضيف: "في النصف الثاني من عام 1919 توقف محمد عبد الوهاب عن العمل في المسرح، بسبب شكوى أمير الشعراء أحمد شوقي لرسل باشا حكمدار القاهرة، دام التوقف طوال عامين وكان الأمر مهمًا للمحافظة على حنجرته وصوته في الانتقال من مرحلة الصبا إلى مرحلة الشباب، وقد انتهز هذه الفرصة للدراسة في "نادي الموسيقى الشرقي. تضطرب رواية عبد الوهاب حول واقعة شكوى أحمد شوقي لرسل باشا، فيذكر في مذكراته في مجلة "الاثنين" أنها حدثت عام 1919، ثم يعود ويذكر في مذكراته في "الكواكب" أنها وقعت عام 1921 وأنه أوقف نشاطه الفني حتى عام 1924، متناسيًا أنه عمل بطلًا لفرقة سيد درويش عام 1921 وكان وقتها شابًا في التاسعة عشرة من عمره".
ويلفت الباحث الفني لبوابة "دار الهلال" إلى أن التكرار الوحيد بين ما ذكره عبد الوهاب في مجلة "الاثنين" وما ذكره في مجلة "الكواكب" جاء حول علاقته بشوقي، وسفرياته للبنان والعراق وسوريا، غير أنه في مذكرات "الكواكب" تحدث عن علاقته بحزب الوفد وأقطابه وعلاقته بسعد باشا زغلول، والنحاس باشا، ومكرم عبيد باستفاضة، على الرغم من أنها نشرت بعد ثورة يوليو بسنتين، وكانت الثورة حينها قد ألغت الأحزاب ومن ضمنها حزب الوفد، لنجد من الحكايات في "الاثنين" ما لم يكن موجودًا في "الكواكب" والعكس".
ويؤكد: "تبقى الميزة في مذكرات "الاثنين" أن التواريخ التي ذكرها عبد الوهاب جميعًا صحيحة وحقيقية، لأن عبد الوهاب وقتها لم يكن متقدمًا في السن ومهوسًا بتصغير عمره، ففي العام 1938 الذي نشر فيه مذكراته بـ"الاثنين" كان يبلغ 36 عامًا، ويذكر تواريخًا حقيقية لتوثيق مذكراته، وعلى سبيل المثال سرد باستفاضة أكبر علاقته بسيد درويش في "الاثنين"، أما في الكواكب فجاءت روايته عنها مقتضبة وغير مفصّلة".
استعان دياب في التحقيق والتوثيق لكل ما جاء في كتابه "مذكرات محمد عبد الوهاب" بما يمتلكه من أرشيف عظيم للفنان محمد عبد الوهاب، وبمذكرات الموسيقار في "دار الهلال"، و"دار الوثائق القومية"، وبأصدقاء في بيروت لتوفير حلقات لم يجدها دياب من مذكرات "الاثنين" القديمة، وبمراجع وشهادات مهمة لمن عاصروه في بداياته.
ومحمد دياب كاتب صحفي وباحث فني عمل في جريدة الحياة اللندنية، ومجلة "المصور" ومجلة "الكواكب"، يشغل منصب مدير تحرير مجلة "الهلال" حاليًا، وشارك في إعداد الكثير من الأفلام الوثائقية، كما شارك في التحضير لعدد من المهرجانات السينمائية وحصل على جائزة التفوق الصحفي من نقابة الصحفيين فرع الصحافة الفنية لأربع سنوات متتالية، وله عدة إصدارات عن التاريخ الفني.