اتسمت التجربة الإبداعية للدكتور نبيل بهجت أستاذ علوم المسرح في جامعة حلوان بكونها ارتكزت إلى كنوز التراث الشعبي المصري الأصيل، حيث استطاع من خلال تتبعه لتجليات هذا التراث استعادة فن الأراجوز وخيال الظل ونقله من الهامش إلى المركز، ووضعه على قوائم التراث الإنساني العالمي للتراث اللامادي، والتوثيق لأعماله ولاعبيه ورواياته، هذا فضلًا عن كونه كتب وأخرج لمسرح هذا الفن 36 عرضًا مسرحيًا تم عرضها في 30 دولة حول العالم عبر فرقة ومضة التي أسسها منذ عشرين عامًا. وامتدادًا لذلك جاء مشروعه الأكاديمي ليوثّق ويحقق ويدرّس التراث المسرحي المصري لرواده في العصر الحديث، وشعراء العامية المصرية في القرنين التاسع عشر والعشرين، فقدم 13 كتابًا أهمها كتاب "الأراجوز المصري" الصادر باللغتين العربية والإنجليزية عن المجلس الأعلى للثقافة، وكتاب "خيال الظل المصري من جعفر الراقص حتى الآن". حاورته بوابة "دار الهلال" فجاء ما يلي..
ـ هل لك أن تضيء لنا تجربتك مع الأراجوز وخيال الظل باعتبارك أحد أبرز من اشتغل على هذا الفن الشعبي؟
هي تجربة بدأت منذ وقت مبكر، تُقارب 25 عامًا، لي فيها أكثر من كتاب، أهمهم كتاب "الأراجوز المصري" مُلحقا به 19 ساعة توثيق بالفيديو عن الأراجوز من شأنها إحياء الصور المرئية عنه، وكتاب "خيال الظل المصري من جعفر الراقص حتى الآن" الصادر عن الهيئة العامة للكتاب في 2021، بالإضافة إلى صدور أبحاث كاستلهامات الأراجوز في الواقع، وكتابة وإخراج قرابة 36 عرضًا معتمدة على الأراجوز وخيال الظل والراوي، قُدموا في 30 دولة مختلفة، والآن أستعد لإصدار كتاب جديد.
والبداية كانت إجابة على سؤال بسيط من أن بعض دارسي المسرح العربي يحددون تجربته بأول عرض مسرحي قدّمه مارون النقاش، بينما حقيقة الأمر أن العرب لديهم مسرحًا منذ زمن بعيد جدًا، لأن المسرح عرف الفنون الحوارية منذ القرن الخامس الهجري، ولدينا أول إشارة لأول مخيّل في الخامس الهجري، أيضًا لدينا نصوص "الدانياليات" الثلاثة "عجيب وغريب"، و"المتيم والضائع"، و"اليتيم وطيف الخيال"، وجميعها نصوص مسرحية متكاملة الأركان، لكن مفاجأتي كانت عندما قيل لي أننا ليس لدينا مسرح، وصاحب هذه المقولة فترة بداية حركة العولمة، وخروج هيمنة وسطوة المنتج العالمي على الثقافات المحلية لمحوها، وتحوّل الكثير في شكل القاهرة، على سبيل المثال المقاهي تتحول إلى "كافيهات"، والمطاعم الشعبية إلى مطاعم "فاست فود"، الأمر الذي أوقفني لأستعيد مع نفسي أن يكون هناك دور حقيقي، وقررت استعادة مسرح الأراجوز وخيال الظل مرة أخرى، فبدأت بأرشفتهما، وقبل محاولتي هذه لم تكن هناك وثائق أرشيفية إلا الطفيف منها في ما يخص الأراجوز، أما خيال الظل فكانت لديه وثائق عظيمة سبقتني، لكن آخر عروض شعبية له لم تكن وثّقت فوثّقتها، ووثقت نمر أراجوز من سبعة لاعبين شعبيين وهي العروض المختلفة بالفيديو، وأثبتها في كتابي، ثم بعد ذلك جاءت مرحلة الاستعادة بعمل عروض تلقائية في الشوارع، ثم مرحلة التوظيف حيث وظفناه داخل عروضنا، ثم مرحلة الاستلهام وهذا على المستوى الفني.
أما على مستوى إدارة التجربة على الأرض فبدأت بانتزاع اعتراف محليّ من خلال إقناع وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني بعمل عرض مجاني كل يوم جمعة في بيت السحيمي للجمهور، ثم اعتراف عربي بمشاركتنا في مهرجانات عربية كثيرة، حتى أن مهرجان مسرح الطفل العربي في دورته الثالثة كانت الشخصية الأساسية في عرض الافتتاح أراجوز، ما يعني أننا استطعنا التأثير، ثم جاء الاعتراف الإقليمي في دول حوض البحر المتوسط، فسافرنا إلى إسبانيا واليونان وفرنسا وإيطاليا، وقدمنا عروضنا فيها، ثم جاء الاعتراف الأُممي بوضع الأراجوز على قوائم اليونسكو، ليصبح واحدًا من العناصر الشعبية الإنسانية الكبرى، فاستطعنا نقل فن مصري من الهامش إلى المركز، حيث أخذ الأراجوز مساحة كبيرة من التهميش.
-ماذا يحمل كتابك الجديد الذي تستعد لإصداره؟ وما عنوانه؟
"عشرون عامًا من الإبداع.. فرقة ومضة" هو عنوان ومحور كتابي الجديد الذي يتناول تجارب فرقة ومضة المختلفة لعشرين عامًا، ومنهجها وطريقتها في التعامل مع التراث طوال الفترة السابقة، وسيضم بعض النصوص التي عملنا عليها، في صورة "ببجرافيا" كبيرة تجسد ذلك، بداية من عروض الشوارع التي قدمتها واستعادة فنون الأراجوز وخيال الظل مرة أخرى للجمهور، ثم إلقاء الضوء على التجارب المسرحية المختلفة التي تم تنفيذها في مختبر الفرقة، كتجربة مسرح الجمهور في 2008 والتي كانت في الأساس برغبة من الفرقة، واعتمد العرض فيها على مشاركة الجمهور، وغيرها من التجارب المسرحية، سواء في طريقة بناء العرض أو مدرسة الارتجال الخاصة بالفرقة، وانطلاقًا لكيفية تكوين الكنوز البشرية، وتجارب الفرقة وتعاونتها مع الصينيين والإيطاليين والميكسيكان والأمريكان وعروضها المختلفة خارج مصر، انتهاء بتجربتها في التدريب وعمل الورش، التصنيعية منها أو المسرحية المختلفة.
- ما أشهر العروض التي قدمَتها فرقة ومضة؟
هذا هو العام العشرون على تأسيس فرقة "ومضة"، الفرقة التي قدمت عددًا كبيرًا من العروض قارب 36 عملًا طوال رحلتها في أكثر من 30 دولة، ضمت عروضًا بلغات مزدوجة عبر الاشتراك مع فنانين يتحدثون لغات مختلفة، كعرض "علي الزيبق" الذي قدمناه في أمريكا، وعرض "جحا المصري" الذي قدمناه في إيطاليا، وغيرها من العروض في تعاونتنا الدولية، ولا تزال الفرقة تقدم للجمهور عرَضًا بالمجان كل جمعة في بيت السحيمي تحت رعاية وزارة الثقافة وإشراف صندوق التنمية الثقافية ورعايته أيضًا، وهم مشكورون على هذه الإضافة التي أفادت الفن بشكل كبير، وأفادت الكنوز البشرية ممن وجدوا نافذة يقدمون خلالها عروضهم لعقدين من الزمان تقريبًا، فهذا العرض الذي يقدم أسبوعيًا طوال الوقت مهمًا ومؤكدًا وأحد أليات استعادة هذه الفنون.
والبداية كانت بعروض تجريبية لثلاثة وأربعين عرضًا تقريبًا قدمناها في شوارع القاهرة ضمن مرحلة استعادة تستهدف مدى الإقبال والجماهرية على العروض، فكان الجمهور يتحلّق حولنا بمجرد أن نضع الأراجوز وخيال الظل، ثم انتقلنا بعد ذلك لتقديم عروض مسرحية تعتمد على الأرجوز وخيال الظل والراوي وأحيانًا عناصر شعبية أخرى، كأن ندخل التنورة بالإضافة إلى الموسيقى الشعبية أو الرقص الشعبي على اختلافه، أو التحطيب مثلًا، ومن بواكير العروض التي قدمناها عرض "على الأبواب"، و"أراجوز دوت كوم"، و"علي الزيبق"، وفي 2022 قدمنا عرض "المخايل والخليفة" الذي عرض في الأمم المتحدة بجينيف.
ـ أقمت مهرجان الأراجوز دوليًا لثلاث دورات.. كيف كانت أثاره؟ وما موضوع دورته الجديدة؟
في 2006 نظمنا أول مهرجان بالتعاون مع اليونسكو للأراجوز وخيال الظل، وكان في الهناجر، وفي آخر 2006 بدأنا ملتقى العروسة الشعبية وخيال الظل والأراجوز، ونظمنا خلاله خمس دورات استمرت من 2006 حتى 2013 ، وبداية من 2019 أسسنا مهرجان الأراجوز المصري، واحتفت دوراته برموز أدبية وفنية، ففي الدورة الأولى احتفينا بلاعبي الأراجوز الشعبيين والكنوز البشرية من حملة الموروث الشعبي، وبعضٍ ممن استلهموا الأراجوز في عملهم أيضًا، ولديهم خبرة كبيرة فكانت دورة عم صابر المصري، وفي الدورة الثانية احتفينا بمن استلهموا الأراجوز في إبداعاتهم الشعبية، فكرّمنا الشاعر سيد حجاب، والشاعر سمير عبد الباقي، والكاتب الكبير أبو السعود الإبياري، وكل من أسهموا بإبداعاتهم في الإضاءة حول الأراجوز، فسيد حجاب الذي كتب أغاني فيلم "الأراجوز"، وسمير عبد الباقي الذي كتب "شمروخ الأراجوز"، وفؤاد حداد لديه ديوانان للأراجواز، وأبو السعود الإبياري لديه مسرحية عن الأراجوز، وألقينا قصائد الأدباء الكبار بأصواتهم، وكان ذلك من منطلق إلقاء الضوء على أثار الأراجوز في الفنون الأخرى، مع تقديم عروض مختلفة في هذه الدورات، لا سيما في الدورة الثانية التي قدمنا فيها عرضًا بالتعاون مع المركز الثقافي الإسباني بعنوان "لوركا والأراجوز"، وفي الدورة الثالثة تحدثنا عن استراتيجيات وفلسفة فنون الأراجوز وخيال الظل، ثم عن أثر الأراجوز في الفنون التشكيلية، وعن الكنوز البشرية الجديدة والحية، وتم استقبال الثلاث دورات بنجاح كبير جدًا من الجمهور والإعلام أيضًا عبر تغطية فعالياتها بشكل كبير جدًا، وإن شاء الله نستعد لدورة جديدة من المهرجان هذا العام موضوعها "عشرون عامًا من الإبداع.. فرقة ومضة" وهو مرتكز المهرجان الذي سينطلق منه أيضًا.
ـ كيف أسهمتم في صناعة كنز بشري جديد وحي لاستمرار هذه الفنون؟
طريقة استمرار هذه الفنون وانتقالها تتم بالمعايشة وبنظام "الأسطى والصبي"، وكان هدفنا في فرقة ومضة على مدار سنواتها أن نأتي بالكنوز البشرية الحية أمثال عم صابر، ومسرح حسن خنوفة، وصابر شيكو، ونضعهم إلى جانب فنانين شباب يستمرون لسنوات، كالفنان مصطفى الصبّاغ، والفنان محمود سيد حنفي، والفنان علي أبو زيد سليمان، والفنان صلاح بهجت، واستمر هذا المزج للخبرات عشرين عامًا إلى أن تحولوا لكنوز بشرية، لأن نقل هذه الفنون يتم عن طريق المعنى والمعايشة لا عن طريق الورش القصيرة، وبالتالي أسهمنا في صناعة كنز بشري عن طريق المعايشة، وللأسف الشديد في الفترة الأخيرة الأراجوز يعاني بعد ما تم توثيقه على قائمة اليونسكو، من ظاهرة الرواة المزيفين على مستوى النمرة التراثية، وعلى مستوى الشكل كالعروسة البلاستيكية بدون شارب، لذا كانت فكرة التأكيد على الكنوز البشرية مهمة.
-ما شروط الانضمام لفرقة ومضة؟
اهتمت الفرقة أن تضم بين جوانبها عددًا من الكنوز البشرية، وعددًا من الشباب لتكسبهم مهارات هذه الفنون، وعلى مدار عشرين عامًا كانت الفرقة أشبه بمدرسة تفتح أبوابها لراغبي التعرف وتعلم هذه الفنون، لكن لم يصبر ولم يصمد على التعلم غير من كان لديهم صفات شخصية في البداية، كالقدرة على العطاء، والرغبة في التعلم، وسمات فنية أساسية، بالإضافة لسمات شخصية مكّنتهم من الاستمرار حتى الآن في الفرقة، لأن حقيقةً تعلم هذه الفنون يحتاج شخصيات لها بُعد إنساني، والتعامل مع جمهور تلك الفنون يحتاج إلى قدر عالٍ من الوعي، وقدر عالٍ أيضًا من القدرة على التواصل لإيصال المعنى، والذي هو بالأساس انعكاس لكثير من وعي الشخص بذاته وبالمجتمع، فالسمات الشخصية في الأفراد تجعلهم يستمرون، وإيمانهم بالرسالة يجعلهم قادرين على الوصول للأهداف المرجوة من هذا الفن.
ـ عملت على مشاريع توثيقية للحرف اليدوية والموالد وغيرها.. هل لك أنت توضح ذلك؟
عملت على مشاريع توثيقية أخرى كمشروع الحرف اليدوية الذي استغرق وقتًا كبيرًا وكان بالتعاون مع اليونسكو، وأقيم له معرض كبير في 2005 وتكرر لأكثر من مرة في أكثر من مكان، ووثقت قرابة أكثر من 50 حرفة يدوية في وقت مبكر جدًا، أما الموالد فتم العمل على توثيق زفة المولد تحديدًا لمدة 10 سنوات متتابعة من 2004 حتى 2014 وأقيم عدد كبير جدًا من المعارض لها، لإيماني واعتقادي أنها شكل من العروض التلقائية التي يؤديها الناس والأن أطمح أن يصدر هذان العملان في كتاب أو كتالوج قريبًا إن شاء الله.
ـ كيف ترى الفنون الشعبية في رمضان؟
لرمضان مظاهره الشعبية الخاصة سواء في المأكل والمشرب أو الأغاني الشعبية للأطفال، أو أشكال الاحتفالات المتعلقة بالزينات والفوانيس وأشكالها المختلفة، وكذا ظاهرة المسحراتي التي تم رصدها على فترات طويلة جدًا منذ مطلع القرن. ويتمتع المأكل بخصوصية في الكنافة، والقطايف، والخصوصية في بعض المشروبات كالبوظة المحلاة بالسكر، لكن الاحتفالات الخاصة بالسرادقات والاحتفالات الشعبية فبدأت في العقود الأخيرة تزيد في رمضان، سواء على المستوى الخاص أو على مستوى فعاليات وزارة الثقافة، وفي السنوات الأخيرة كان الأراجوز دائمًا حاضرًا ومشاركًا فيها، مثلما يؤدي عروضه كل يوم جمعة من الأسبوع في بيت السحيمي والتي لا تزال مستمرة في رمضان أيضًا هذا العام ضمن مظاهر الاحتفالات الشعبية بهذا الشهر المبارك، وتقام تحت رعاية وزارة الثقافة بإشراف من صندوق التنمية الثقافية ورعايته أيضًا.