الأحد 28 ابريل 2024

أغاني رمضان بين التاريخ والفولكلور


د. عمرو عبد العزيز منير

مقالات19-3-2024 | 18:59

د. عمرو عبد العزيز منير

اتخذ شهر رمضان في التاريخ الاجتماعي المصري سمة خاصة جعلت شكل أيام هذا الشهر ولياليه تختلف في مصر عنها في أي بلد آخر من بلاد المسلمين، وتحول شهر الصوم من مناسبة دينية خالصة إلى مناسبة دينية / اجتماعية مصرية تشكلت ملامحها عبر عصور تاريخ مصر ولسنا نعرف على وجه اليقين متى، كيف، تحولت مناسبة شهر رمضان إلى مناسبة دينية / اجتماعية، لكن الذي نعرفه بدرجة معقولة من اليقين هو أن شهر رمضان كان مخصصا للصوم والعبادة، وأن أمسياته ولياليه ـ بعد الإفطار وحتى انتهاء السحور ـ كانت للعبادة والمرح والسرور والولائم التي ميزها البذخ على الدوام، ولا تمدنا المصادر التاريخية المتاحة بصورة كاملة عن تطور احتفالات شهر رمضان على امتداد التاريخ الاجتماعي المصري ، وإنما نجد أمامنا لقطات وصورا تاريخية سجلها الموروث الشعبي المصري من خلال طبقات العامة من الشعب الذين لا يزالون إلى الآن يعتقدون أن رمضان ملك من الملائكة وأنه إذا حل قيد العفاريت والجن في قماقم من النحاس تشبه الفوانيس فلن يظهر الجن طوال هذا الشهر فيستطيع الناس إذن أن يعيشوا في سلام وطمأنينة بل يستطيعون أن يرتادوا مسارح الجن في الأماكن المهجورة دون خوف أو وجل لأن الجن قد سجنها رمضان . حتى إذا جاء آخر يوم في رمضان أخذ المصريون عدتهم لاستقبال عيد الفطر المبارك ولكنهم في الوقت نفسه يعملون ألف حساب لما توارثوه من الرأي القائل بالإفراج عن العفاريت عقب صلاة المغرب مباشرة حتى تبلغ ببعض أفراد الشعب إلى الخوف من أن عفريتًا من العفاريت التي تخرج منطلقة من القماقم النحاسية قد تضل الطريق فتدخل الدور والمنازل وتستقر فيها ، فكان لا بد أن يقوم الشعب بعمل لدرء خطر اقتحام الجن والعفاريت منازلهم ومنع هذه العفاريت من الاقتراب من المنازل ، ولذلك نرى العامة في مصر يرشون الملح في كل حجرة من حجرات المنزل ، وخاصة في أركان الحجرة ، ويجلس الأطفال والصبية أمام أبواب المنزل وهم يضربون آنية نحاسية بها قليل من الملح حتى إذا اقترب العفريت من المنزل وسمع هذه الأصوات النحاسية توهم أنها القماقم التي سجن فيها فيهرب عن هذا المنزل خوفًا من أن يسجن مرة أخرى ومن بين العقائد المرتبطة بالحديد والنحاس أيضاً اقترانهما منذ القدم بعقائد كانت تتخذ منها وسيلة لطرد الشياطين , كدقات الأجراس والآلات الموسيقية المختلفة , مثل المثلث والجنك الذي نرى إيزيس الممثلة في كثير من تماثيل دولة البطالسة في مصر ممسكة به ومتخذة منه سلاحاً لطرد الأرواح والشياطين الضارة .

وفي فنوننا الشعبية نجد الأجراس النحاسية والحديدية مستخدمة كثيراً في لجام وسرج بعض الدواب ولا سيما ما يجر منها العربات , حيث يمكن أن نستشف منها الغرض السحري الذي يهدف إلى طرد الأرواح أو الشياطين التي قد تؤثر على الدابة فتجعلها تتعثر في سيرها . وكانت بمصر عادة شعبية حتى بداية القرن العشرين.

 وجرت العادة أن الأطفال وهم يضربون هذه الآنية النحاسية (الهون) يغنون أغنية مطلعها :

يا رمضان يا صحن نحاس ** يا داير في بلاد الناس

سقت عليك أبو العباس ** تبات عندنا الليلة

هذه الأغنية وما فيها من ذكر لأبي العباس ، والمقصود به الخليفة العباسي ، هى من آثار تفضيل العباسيين على الفاطميين في مصر الأيوبية ، وربما كانت هذه الأغنية معارضة بأغنية أخرى فاطمية لم تصل إلينا لما فيها تمجيد الفاطميين الذين اهتموا بهذا الشهر اهتمامًا خاصًا لأسباب سياسية وأخرى دينية ؛ فمن الأسباب السياسية دفع أقوال جمهور المسلمين المصريين أن الفاطميين ليسوا منهم وأنهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر والإلحاد ولذلك كان الفاطميون حريصين أشد الحرص على المبالغة في كل شئ يمت بصلة إلى الدين وفرائضه ، ومن ثم بالغ الفاطيمون في الاحتفال بشهر رمضان احتفالا لم نسمع به في أي دولة من الدول الإسلامية ، ومن يقرأ ما كان يقون به الفاطميون طوال هذا الشهر يظن أن هذا الشهر بأكمله هو سلسلة أعياد يتلو بعضها بعضًا ، وذلك كله دعاية ضد من اتهمهم بالخروج عن الإسلام .

أما الناحية الدينية فكان للفاطميين تأويل باطن لهذا الشهر المعظم أنه ملك كريم هو أعلى الملائكة مكانة عند الله وأقربهم إليه تعالى ، وكذلك من تأويلهم الباطني أن رمضان عند الفاطميين ممثول والإمام الفاطمي مثل ، بمعنى أن رمضان أعلى الملائكة رتبة في العالم الروحاني كما أن الإمام الفاطمي على الأرض هو أعلى درجات البشر ، ومن أجل ذلك كان شعراء الحضرة الفاطمية يشيرون دائمًا إلى أن شهر رمضان هو شهر الإمام .

والمتتبع لجذور الموروث الشعبي المصري سيجد أن هذه التأويلات تسربت إلى الأغاني الرمضانية التي كان يتغنى بها أبنائنا في نشوة من الفرح والسرور - قبل الهجمة الشرسة لفوانيس الصين – خاصة الأغاني المحببة لقلوبهم :"وحوى يا وحوي " أو " هنا مقص وهنا مقص " ونحن نستمع إلى هذه الأغاني التي ينشدها أطفالنا دون أن نشعر أن هناك هدفًا من وراءها، أو معنى من المعاني سوى أنها أغاني أطفال أبرياء يظهرون شعورهم بهذا الشهر الكريم وهم يترنمون بهذه الألفاظ دون أن يعرفوا لها معنى أو نعرف نحن لها معنى .ولكن الحق أن بعض هذه الأغاني الرمضانية لها أصول قديمة وتأويلات صوفية تشبه التأويلات الفاطمية من ذلك ما رواه محمد البقلي نقلا عن الجبرتي أنه في القرن الثامن عشر الميلادي (الحادي عشر الهجري).استمع أحد الفقهاء المتصوفين إلى الأطفال وهم ينشدون : استمع أحد الفقهاء المتصوفين إلى الأطفال وهم ينشدون: أحدثك حدوتة بالزيت ملتوتة، حلفت ما أكلها حتى ييجي التاجر، والتاجر فوق السطوح، والسطوح عاوز سلم، والسلم عند النجار، والنجار عاوز مسمار، والمسمار عند الحداد، والحداد عاوز بيضة، والبيضة في بطن الفرخة، والفرخة عاوزة قمحة، والقمحة في الأجران والأجران عاوزة الدراس... الخ. ففكر هذا المتصوف طويلاً في هذه المتواليات المتعاقبة والتي تتحمل كل قضية منها الأخرى، وبدأ ينظر إلى معانيها بنفس النظرة الباطنية للتأويلات الصوفية ، فإذا به يخرج لنا معاني صوفية خالصة لهذه الأغنية الشعبية التي يغنيها الأطفال في رمضان، فقد ذهب مثلاً إلى أن معنى (أحدتك حدوتة بالزيت ملتوتة) يعني السر الإلهي والسلاف الأحمدي الممزوج براح القرب والتقريب المدار من يد الحبيب (وهذا عند الصوفية هو ما يعبرون به عن مذهبهم في الحب الإلهي عن وصول العلوم الباطنية إليهم وانتقال الأسرار الصوفية والمدد إلى كل من يستجيب إلى طريقتهم، ثم فسر الجملة الثانية (حلفت ما أكلها) بقوله: أي أتناولها فإن المقصد لا يتم بلا وسيلة، والسالك قبل شيء يحصل دليله، (حتى ييجي التاجر) أي المسلك العامر، والمراد به المرشد الكامل والمربي الواصل، والمراد به عند الصوفية الشيخ الذي يدل المستجيب إلى طريق الصوفية. ثم في قوله (والتاجر فوق السطوح) بمعنى أن هذا الشيخ الصوفي الذي سيرشد المستجيبين يتلقى معارج الروح لا يذهب ولا يروح بل إليه يراح وبه تنتعش الأرواح.
أما قول الأنشودة (والسطوح عاوز سلم) فقد فسرها شيخنا الصوفي بقوله: يتوصل به إليه حيث أن المدار عليه إذ لا يمكن صعود بلا معراج ولو أمكن لفعل بالأولى صاحب المعراج" ويستمر في الشرح فيقول عن (والسلم عند النجار) أي له صاحب مخصوص لإقامته مركب يركبه من آلة هو النجار وهو الأستاذ الكامل المسلك الواصل.( والنجار عاوز مسمار) يثبت به سلم القرب والوصول كي يوصل المنازل (والمسمار عن الحداد) صانعه المخصوص به، المقيم ببحبوح سربه، ( والحداد عاوز بيضة) إذ لا يكون شيء بلا شيء، والغالي لا يفرط فيه حي، ومن عمل عملاً وأتم أمره استحق عليه الأجرة، وهذا رمز إلى صواب الصالحين وما أعده الله لهم من جزاء نظير ما قدمت أيديهم في الحياة الدنيا. أما قولهم (والبيضة في بطن الفرخة) يعني "فمن أرادها فلينصب فخه فإنها مخبوءة في صدفها، ومنفردة عن صنفها". وهنا يشير ذلك الصوفي إلى ناحية دقيقة من نواحي الصوفية وهي التأويل الباطني الصوفي، وناحية أخرى هي ناحية الذوق الصوفي فليس كل واحد يستطيع أن يصل إلى التأويل أو إلى التذوق الصوفي إلا من مارس الصوفية وأجهد نفسه في الحياة الروحية حتى يتوصل إليهم، فعن طريق الرياضة الروحية التي عبر عنها هذا الصوفي بقوله" فلينصب فخه" يستطيع السالك أن يصل إلى غرضه وبذلك عبر الشاعر:

ورب معنى ضمه كلام **كمثل نور ضمه ظلام

باق بقاء الحب في السنابل ** في معقل من أحرز المعاقل

وإنما باب المعاني مقفل ** وأكثر الأنا عنها غفل

ويستمر الصوفي في الشرح فيقول (والفرخة عاوزة قمحة) كي تتنفس بها فتنتفخ نفخة لتلقي ما في جوفها، وذلك من ذعرتها وخوفها (والقمحة في الأجران) لأنها ظرفها والعنان (والأجران عاوزة الدراس) ودراسها ليس إلا الجد والاجتهاد لمن أراد أن يرتع في رياض الإسعاد، فكل هذه درجات للسالك يصعدها ومسافة لسيره يقطعها، وثم خواص طويت لهم السبل كلها نالوا كل ما راموا من مشتهى. هكذا أخذ هذا الشيخ الصوفي يؤول هذه الأغنية الشعبية، أغنية الأطفال وهم في بشرهم بليالي رمضان. فهل فكر أحد أدبائنا في استخراج مثل هذه التأويلات الصوفية أو هل فكر أحد المؤرخين في معرفة أصول هذه الأغنية ؟ ومتى ظهرت لأول مرة في تاريخنا المصري؟ ها نحن ندعو مؤرخينا وأدباءنا إلى البحث عن ذلك كله ولا سيما هذه الأغنية كانت معروفة في مصر في العصر العثماني بدليل أن المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي أوردها في كتابه ومعها هذا التفسير الصوفي كتقليد مصري متوارث يعبر عن مدى حيوية التراث الثقافي المصري ، أوليس رمضان في مصر مختلفًا عن شهر رمضان في أي مكان آخر ؟!!.

Dr.Randa
Dr.Radwa