الأحد 24 نوفمبر 2024

كلنا لها .. ارتجال نسوي لا يدعي أكثر مما يعرف ونعرف!

  • 25-2-2017 | 19:14

طباعة

يسرى حسان - شاعر مصري

تظل فكرة الارتجال أو ورش الكتابة الجماعية تخص شباب المسرحيين أكثر من غيرهم، فهم وحدهم، دون الراسخين أو المخضرمين، من يسعى إلى الانحراف عن الخط السائد – الاعتماد على نص مكتوب – ويبحث عما يخصه ويعبر عن قضاياه بعيدا عن النصوص المحفوظة والمكررة، أو المكتوبة بعناية، والتى ينظر إليها باعتبارها لا تمثله بشكل دقيق حيث لا يرى فيها نفسه.

   الأمر ليس على إطلاقه بالطبع، فثمة شباب ما زالوا ينظرون إلى النص المكتوب، كلاسيكيا كان أم حديثا باعتباره عصب العرض المسرحى الذى لا يستطيع أن "يصلب طوله" بدونه.

   فى مصر فرق عدة مستقلة اتخذت لها مسارا مختلفا واعتمدت فكرة الارتجال فى عروضها، راغبة فى التعبير، بطريقتها الخاصة، عن نفسها وعن مشكلاتها التى تعانيها والتى هى، فى الوقت نفسه، مشكلات الآخر/ المشاهد الذى تتوجه إليه. وفى الحياة اليومية مادة خصبة لهؤلاء، خاصة ما يتعلق بما هو إنسانى من علاقات حب وزواج وطلاق ومشاكل العيش وتدبير الاحتياجات اليومية الضرورية، وهو ما يعانيه أغلبنا ويعيشه بشكل يومى، لذلك تمس مثل هذه العروض "عصبنا العاري" ونجد فيها أنفسنا، أو على الأقل جانبا من حياتنا اليومية وما نعانيه خلالها.

    أنت فى مثل هذه العروض لا تبحث عن جملة عميقة أو متعددة الدلالة أو حوار يتسم بالشاعرية، أو مونولوج يعيدك إلى أجواء شكسبير مثلا، لا تطلب ذلك ولا تمنى النفس به وإلا خرجت خائبا محسورا، أما البديل الذى يمكنك أن تبحث عنه وتشترط وجوده فهو الأداء التمثيلى والرؤية الإخراجية والأدوات التى تشير إلى أن ما تشاهده هو المسرح بشحمه ولحمه وليس مجرد "افتكاسة" طرأت على أذهان مجموعة من الشباب "اللاسع" فقالوا هيا بنا نذهب إلى المسرح.

   مثل هذه العروض أشبه – فى ظنى – بقصيدة النثر التى تقف عارية تماما من الأدوات القديمة، منحية البلاغة والصورة التقليدية وكل المحسنات جانبا، وباحثة عن الشعرى فى أماكن أخرى مهملة أو غير ملتفت إليها، وبطرائق أخرى، وتظل موهبة الشاعر وثقافته وخبراته هى الفيصل. وتظل موهبة وخبرة الناقد/ القارئ هى الفيصل أيضا فى التلقى، خاصة أن هناك "خدعا" يلجأ إليها غير الموهوبين وتنطلى أحيانا، بل غالبا، على الناقد أو القارئ قليل الخبرة والموهبة أو المرتعش أمام نص لا يعرف من أين يأتيه، وخوفا من اتهامه بأنه "دقّة قديمة" يذهب إلى الاحتفاء بالنص والإشادة به، وهو يدرك فى قرارة نفسه أنه يدلس ويرتكب أكبر عملية نصب أدبية.

   وفى حالة الفرقة التى أنشأتها المخرجة هايدي عبد الخالق يبرز الحس النسوى الذى يهتم بمناقشة قضايا المرأة من منظور المرأة نفسها، وإن لم يكن ذلك الحس مهيمنا تماما على عرضها "كلنا لها" الذى قدمته خلال مهرجان نقابة المهن التمثيلية في ديسمبر 2016 وحصلت عنه على جائزة لجنة التحكيم الخاصة كأفضل عرض.

   العرض تقدمه خمس فتيات مع شاب وحيد، و"كلنا لها" عبارة نقولها أحيانا فى مواساة شخص حدث له مكروه باعتبار أن ما أصابه لا بد أصاب غيره من قبل ولا بد مصيب غيره من بعد.

   انطلاقا من العنوان يمكنك تلقى العرض الذى لم يطمح إلى ما هو أكثر من طرح هذه الفكرة،  المشكلات التى تتعرض لها المرأة منذ أن كانت طفلة، فصبية، فزوجة، فأم، هى مشكلات معروفة بالتأكيد وشاهدنا تجسيدات لها فى المسرح وغيره، لكن الفيصل هنا – كما ذكرت- فى كيفية تقديمها على خشبة المسرح بدون ادعاء أو تزيّد، كما يحدث فى أغلب العروض النسوية والتى تكون فى أغلبها مغازلة للغرب الذى يمول ويحتفى لتقدم له صورتك المطبوعة فى ذهنه مسبقا.

   هنا لا توجد دراما بالمعنى المعروف، فأنت أمام مشاهد منفصلة، وأمام حالات شتى لا يجمعها سياق واحد سوى أن بطلتها امرأة أو فتاة، لكن قدرة المخرجة، التى شاركت بالتمثيل أيضا، على تضفير ذلك وإحداث نقلات مبررة فنيا، هو ما أعطى العرض قواما وجاذبية جنبته إصابة الجمهور بالملل أو النفور وجعلته مشدودا طوال ثمانين دقيقة، هى مدة العرض، إلى التلقى، خاصة أن مواهب وقدرات الممثلين كانت حافزا له ليستمتع بفواصل من الأداء الجيد، لا أقول المتقن ولكن أقول الأقرب إلى التلقائى الذى يتفق وطبيعة الارتجال وروح العرض نفسها.

   لا يعنى الارتجال هنا الحديث كيفما اتفق، فثمة موضوع وسياق وتوجيهات إخراجية وأدوات يتم توظيفها كالديكور الذى مثل ما يشبه البيت المهمل مع بعض الموتيفات فضلا عن وجود يد خشبية فى أعلى مقدمة الخشبة كدلالة على القمع أو البطش، وستارة شفافة فى الخلفية يقوم الممثلون بتغيير ملابسهم خلفها، والإضاءة التى لعبت دورا مهما فى الانتقال من مشهد إلى آخر، وفى تقديم مشهدين متوازيين فى التوقيت نفسه لإيصال فكرة بعينها كفكرة التناقض التى صورتها المخرجة بين وضع الفتاة أيام الخطوبة ووضعها بعد الزواج، ففى الأولى ومن كثرة الكلام المعسول عبر الهاتف والإلحاح على كلمة "أحبك" التى يقولها الفتى، ترد الفتاة بدلال "كفاية عايزة أنام"، وفى الثانية تقول نفس الكلمة ولكن بأسى وحزن من كثرة ضغطه عليها وتأنيبه لها، مفارقة عمدت إليها المخرجة لتشحن بها طاقة العرض سواء من خلال الفكرة أو من خلال الأداء التمثيلى الذى انتقل ببراعة بين الحالتين المتناقضتين.

   على أن العرض لم يكن بغرض الانتصار للمرأة وحدها، أو تبيان مشاكلها مع المجتمع، فثمة مشاهد أيضا فيها نوع من الإدانة أو على الأقل الانتقاد للمرأة، يعرض فيها لاختلاف طرق التربية ما بين إهمال شديد من جانب الأم لابنتها وتلبية كل احتياجاتها "تكبيرا للدماغ" وما بين رقابة صارمة وحرمان من كل شيء، وكذلك مشاهد تعرض فيها لغلظة الزوجة فى تعاملها مع زوجها.

   وهكذا حاول العرض المراوحة بين هذا وذاك دون انحياز مطلق للمرأة، وإن كان الانحياز مبررا فى بعض الأحيان خاصة أن وضع المرأة حتى الآن ليس فى أفضل أحواله، وربما تكون مثل هذه العروض حتى لو "تكلمت فى المتكلم" بمثابة تذكير لنا جميعا أن "خلوا بالكم".

   ميزة عرض "كلنا لها" أنه لا يدعى أكثر مما يعرف، ولا يقدم شيئا غير مألوف، لا جديد يدعي تقديمه. جديده فقط هو صناعة مسرح من ركام الحياة اليومية بحلوها ومرها وذلك عبر أداء تمثيلى ورؤية إخراجية ناسبا الحالة، ولم تغامر المخرجة بالدخول إلى مناطق ملتبسة أو تدفع إلى الادعاء والتزييف.

    الاكثر قراءة