بعد العملية الإرهابية التي حدثت في إحدى ضواحي موسكو بقاعة "كروكوس سيتي" بدأ المحللون والخبراء في الإرهاب الدولي في تحليل دوافع العملية والهدف من ورائها، لكن معظم من تحدث عن العملية أكدوا أن الهدف منها كان قتل أكبر عدد من المواطنين الروس الأبرياء وبالحرق بالنار، والذين كان كل ذنبهم أنهم بعد أسبوع عمل قرروا أن يستمتعوا بالموسيقى، كان من المفترض، لسخرية القدر، أن تقوم بعزف مقطوعات من ألحان عزفت في مسلسلات تركية. يقول الخبراء إن العملية تم التخطيط لها بدقة متناهية من حيث التنفيذ والمكان الذي تمت فيه، فقد اختار الإرهابيون مخطط بسيط للغاية، وأهم ما فيه وجود مكان أو قاعة مزدحمة، أداة تنفيذ الجريمة أيضاً اتسمت بالبساطة وهي عبارة عن البندقية الآلية كلاشينكوف وعدد من زجاجات البنزين، لا أكثر من ذلك.
استخدم الإرهابيون البندقية الآلية في إطلاق النار لإثارة الرعب بين المواطنين الذين من الطبيعي أن يهرعوا بحثاً عن مخرج لتفادي إطلاق الرصاص، أي أن البنادق استخدمت فقد لإثارة الرعب والفزع ودفع المواطنين للبحث عن أبواب الخروج التي كانت موصدة، مما أدى لاختناق واحتراق العشرات بسبب دخان الحريق التي أشعلها الإرهابيون، والأهم هنا أن من خطط درس سلوك الحشد من الناس في مثل هكذا ظروف، وكما ذكر بعض الخبراء أنه لحسن الحظ أن النار لم تنتشر بسرعة كما حدث في حوداث حريق مشابهة من قبل، وفيما يبدو أن التصميم الجيد للمبنى أنقذ عشرات الأرواح، عدد الضحايا 144 حتى الآن.
المسافة بين وسط العاصمة موسكو، حيث تتمركز الأجهزة الأمنية والمخابرات، ومكان الحادث لم يكن بعيداً بدرجة كبيرة، لكن لعب دوراً في عدم وصول الأمن والسلطات المختصة وقوات مكافحة الإرهاب لمكان العملية الإرهابية بالسرعة المطلوبة أن اليوم 22 مارس كان يوافق الجمعة مارس والطرق مزدحمة، نهاية الأسبوع، وربما كان من الأفضل استخدام المروحيات، أو كما توقع الجميع وكما هي العادة أن يكون للإرهابيين مطالب وقد يحدث تفاوض وفق ما هو معروف في مثل حالات كهذه، لكن هذا لم يحدث فقد دخل الإرهابيون وأشعلوا النيران وبدأوا في أطلاق الرصاص ليجري المواطنون ويحترقون أو يختنقون من الدخان، فقد استغرقت العملية الإرهابية 18 دقيقة فقط، حيث وصل الإرهابيون إلى موقف السيارات الخاص بالقاعة الساعة 7 و55 دقيقة مساءً وهربوا الساعة الثامنة و13 دقيقة، بعد ذلك هرب الإرهابيون بالسيارة التي أتوا بها، إلى أن تم القبض عليهم في مدينة بريانسك عند المفارق التي تؤدي إلى بيلاروسيا وأوكرانيا، هذا في الوقت الذى تأخرت فيه وحدات مكافحة الإرهاب ما بين الاستعداد لاقتحام القاعة وبين البحث عن الإرهابيين وسط النار حيث كان الحريق قد انتشر في كل مكان.
وحول من يقف خلف هذا الإرهاب تراوحت أراء الخبراء بين أوكرانيا أو تنظيم الدولة ولاية خورسان ، الذى أعلن عن مسئوليته عن العملية كما جاء ذلك من خلال وكالة "أماق"، من المعروف أنه في العام الأخير عدد الحوادث المشابهة بلغ كما تقول صحيفة روسية حوالى 410 معظمها مرتبط بالعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا ومنها ما قامت به المخابرات العسكرية الأوكرانية من عمليات مثل اغتيال إبنة الكسندر ديوجين المفكر الروسي المعروف وأيديلوجي العملية العسكرية في أوكرانيا أو اغتيال المدون تتارينكو المتحمس أيضاً للعملية، ومن هنا فإن خط العملية الإرهابية لا يتماشى مع أسلوب المخابرات العسكرية الأوكرانية أو حتى الجيش الأوكراني وعلى الأرجح هو خط تنظيم الدولة الذى يهدف إلى القتل من أجل القتل فقط وكلنا شاهدنا "استعراضات" القتل التي قام بها التنظيم سواء في سوريا أو في ليبيا وعملية حرق الطيار لأردني في سوريا، من جانبه قال الرئيس بوتين إن العملية الإرهابية قام بها إسلاميون متطرفون يكافحهم العالم الإسلامي لاستئصالهم، لكنه (الرئيس بوتين) عاد وقال لكننا لا يجب إغفال احتمال "تورط كييف"، واعتبر محاولات واشنطن تبرئة نظام كييف تأتي، رغم أن لجنة التحقيق الروسية تحدثت عن علاقات للإرهابيين مع القوميين الأوكران وأنهم من مولهم بالأموال. أما لماذا قام التنظيم بعمليته في روسيا فهذا قد يكون له فرضيتين الأولى أن روسيا شاركت في القضاء على التنظيم في سوريا، كما أنها أقامت علاقات طيبة (موسكو) مع حركة طالبان التي يناصبها تنظيم الدولة العداء ومازال يقوم بعمليات إرهابية ضدها في الوقت الراهن، وإن كانت أوكرانيا هي من دفع في هذا الاتجاه فالكل يعرف أنه ربما تكون في إطار النزاع الحالي بين موسكو وكييف.
والغريب أن من قاموا بالعملية هم من مواطني طاجيكستان وهي دولة سوفيتية سابقة وهي الوحيدة التي يعتنق معظم مواطنيها المذهب الشيعي، ولغتها قريبة من الللغة الفارسية، وهي أقرب دول وسط آسيا السوفيتية السابقة من إيران ومن روسيا، والأدى من ذلك أن لموسكو قاعدة عسكرية في طاجيكستان والهدف منها هو حماية هذه الدولة الحليفة لروسيا من خطر التطرف الديني السني القادم من أفغانستان وكانت تدعم وربما مازالت نجل أحمد شاه مسعود الذى تتمركز قواته في شمال أفغانستان لهذا الغرض. لكن الأهم من ذلك أن معظم دخل طاجيكستان من العملة الصعبة يأتي من تحويلات مواطنيها العاملين في روسيا. ولهذا السبب الأخير فإن الضربة التي قام بها تنظيم الدولة في صالة "كروكوس سيتي" لها أثر مزدوج بالنسبة لروسيا خاصة في ظروف العملية العسكرية في أوكرانيا وحيث يقوم المواطنون الطاجيك بسد فراغ كبير في نقص العمالة في روسيا، بعد أن اتجهت روسيا للاقتصاد العسكري والذي لا يصالح فيه سوى مواطنين مؤهلين من الروس، بينما كان الطاجيك يقومون ببقية الأعمال مثل تشغيل حافلات النقل العام أو العمل في المحلات التجارية الضخمة في روسيا.
الإرهاب ربما أيقظ كذلك الغفلة التي كانت فيها طاجيكستان نفسها، وكما تشير الأنباء أن تحقيقات العملية تمتد إلى دوشنبيه عاصمة هذه الدولة الوسط آسيوية، وتشير الأنباء إلى أنه تم القبض على 9 مواطنين لاحتمال ضلوعهم في هذه العملية الإرهابية، تجدر الإشارة إلى أن رئيس هذه الدولة إمام علي رحمون هو الوحيد الباق من رؤساء دول وسط آسيا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي والباقون إما تغيروا أو ماتوا، أي أنه يحكم منذ أكثر من 30 عاماً، وتشير الأنباء إلى أنه يحاول توريث السلطة لنجله، كما حدث في تركمنستان التي هي أيضاً دولة سوفيتية سابقة من وسط آسيا.
ونظراً لشيعية معظم مواطني طاجيكستان من حيث المذهب، فإن علاقة هذه الأخيرة بإيران جيدة جداً، حيث تطمح طهران لإيجاد موطئ قدم لها في وسط آسيا خاصة بعد أن قامت تركيا بوضع قدمها في جنوب القوقاز من خلال أذربيجان (شيعية) عبر مساعدتها في استعادة ناجورونوكاراباخ التى كانت تحتلها أرمينيا، ولهذا وقعت إيران مع طاجيكستان اتفاقيات عدة من الاقتصادي ومنها الدبلوماسي بل ومنها العسكري، وهناك حرية تنقل بين البلدين دون تأشيرة، لكن هذه العملية الإرهابية ستلقي بظلالها على ما حققته العلاقات بين البلديين من تقدم خاصة وأن إيران تعادي تنظيم الدولة ولاية خوراسان لأنه يسعى لاقتطاع جزء من إيران لحساب التنظيم.
الغريب في الأمر أن من قاموا بهذه العملية الإرهابية البشعة لا يدرون الفرق بين الشيعة والسنة حيث من المعروف أن تنظيم الدولة في الأساس من السنة، وكما يقول أحد منفذي العملية الذين تم القبض عليهم (تم القبض على 8) ويدعى شمس الدين فاريدوني أتصل به أحد "رجال الدين" عبر تطبيق تيليجرام واقترح عليه 500 ألف روبل (الدولار = 92 روبل) مقابل قتل المواطنين الروس دون تمييز، أحد خبراء الإرهاب لم يستبعد أن يكون إرهابيون أخرون كانوا موجودين في القاعة ربما شاركوا في العملية من وسط آسيا أو شمال القوقاز.
روسيا وفي ظل العملية العسكرية في أوكرانيا وصراعها مع الغرب ستتخذ بلا شك من الإجراءات ما يمنع حدوث مثل هذه العمليات في المستقبل، وعلى رأس الإجراءات أنها قد تلغي الحظر المفروض على عقوبة الإعدام كنوع من الردع للعناصر الإرهابية، كما تحدث البعض عن بعض التدابير الخاصة التي تقيد من حريات المواطنين، لكن والأهم أن السلطات الروسية قد تقوم بالتعبئة العامة بهدف الإسراع بإنهاء النزاع الأوكراني ـ الروسي، لكن تبقى المشكلة الأهم وهي الأيدي العاملة حيث كان العاملون من دول وسط آسيا يسدون العجز في هذا المجال، لكن العملية الإرهابية الأخيرة أحدثت شرخ في العلاقة بين شعوب وسط آسيا وروسيا بل مع أقرب الدول لروسيا من هذه المنطقة من حيث العلاقات السياسية والعسكرية والتنسيق الأمني. وفي تقدير الخبراء من الصعب اندمال الجرح الذي أصيبت به العلاقات في الوقت القريب، خاصة بعد أن بدأت روسيا في اتخاذ إجراءات مشددة ضد المهاجرين من دول وسط آسيا أدت لترحيل أعداد كبيرة منهم.