الأربعاء 22 مايو 2024

قصص دار الهلال النادرة| «إنها امرأة».. قصة قصيرة لـ نفيسة عبد الفتاح

إنها إمرأة

كنوزنا1-5-2024 | 11:44

بيمن خليل

يزخر أرشيف «الهلال» منذ تأسيسها عام 1892م، بالعديد من القصص النادرة، والكنوز الأدبية، المكتوبة على أيدي كتاب بارزين، وبعد مرور عقود، قررت بوابة دار الهلال، إعادة نشر هذه التحف القصصية النادرة من جديد، والتجول في عوالم سردية مختلفة ومتنوعة، من خلال رحلة استكشافية في أرشيف دار الهلال العريق.

في عددها الصادر عام 2002، نشرت مجلة الهلال قصة قصيرة بعنوان «إنها امرأة» للكاتبة نفيسة عبد الفتاح، تدور القصة في إطار اجتماعي، حول شخصية مهندسة تضطر إلى ركوب سيارة أجرة، في طريق ذهابها إلى مشوار هام، وتتعرض هذه المهندسة لمضايقات كثيرة في ظل أجواء مشحونة بالتوتر وتواجه العديد من المشكلات التي تسعى لحلها، مع تصاعد الصراع الداخلي حول قوتها وتفوقها.

نص القصة:

هزتها السيارة بعنف.. يا له من سائق أجبرها الخبر على الركوب معه.

تنفست بعمق وضيق فالحقيقة أنها لم تكن لتستطيع الانتظار لمدة ساعة أخرى موعد انطلاق أول أوتوبيس إلى السويس، كيف طاوعه قلبه في أن يخفى عنها مثل هذا الأمر؟ أليست هي زوجته وحبيبته التي ستزف إليه بعد أقل من شهر؟!!

هزتها السيارة ثانية.. تأففت مفتقدة سيارتها.. ماذا لو أن والدها مهندس الميكانيكا قد علمها السمكرة والدوكو في أي ورشة مثلما علمها كل شيء عن السيارة حتى تصلح سيارتها بنفسها؟ شعرت أنها ربما كانت نعمة من الله أن لا تقود السيارة لهذا السبب وهي في مثل تلك العصبية السيئة.

كانت الفرد الأخير المتمم لركاب السيارة اضطرت إلى أن تركب على مقعد غير مريح بالمرة فوق الإطار الخلفي تماما.. هكذا المضطر يركب الصعب الرجل إلى جوارها يحرك ساقه بطريقة تجعلها تحتك بساقها، حاولت أن تتحرك مبتعدة بقدر ما يتيحه ضيق المكان ثم نظرت إليه كي تنبهه، ابتسم وأومأ بخبث وأسكن ساقه استشعرت نواياه، ذكرت كيف كانت في بداية المرحلة الثانوية مع أول تعامل لها مع المواصلات العامة تلتمس أعذار إرغام الزحام أو لمصادفة أو ... أو ... لكل من يتعدى خط الاقتراب الأحمر مثيرا هواجسها فكانت رحلتها من المدرسة إلى البيت وبالعكس - في معظم الأوقات - سلسلة من التحركات المراوغة لتفادي تلك الملامسات حتى كانت تلك المرة التي تركت فيها أثرا لا يمحى تركت لديها رادارا خاصا تستطيع أن تمیز به بين المقصود وغير المقصود.

يومها ألجمها الخجل وأعجزها الزحام عن المراوغة لكنها لم تصمد طويلا فقد صرخت فيه وانهارت باكية، ألهبتها التساؤلات الصامتة عما حدث.. انفجارات.. السباب المساندة.. كلمات الشفقة المتألقة وحتى محاولات الفاسق في الدفاع عن نفسه باتهامها بإلقاء التهم جزافا على الناس.. "وعشان ما أنت حلوة شوية فاكرة كل الناس تبص لك" كل هذه الأشياء مجتمعة جعلتها تتمنى لو لم تبك، كل قطع الحجارة التي تمر عليها السيارة تجعلها تقفز خفيفا في جلساتها فتتشبث بظهر المقعد المواجه محافظة على أقصى درجات الثبات الممكن، الرجل إلى جوارها يحاول الاقتراب ولكنها تنكمش بجسدها حتى تلتصق بجانب السيارة، تذكرت كيف كرهت ضعفها يوم بكت وبدأت علامات الغضب في الارتسام على ملامحها فمن المؤكد أن حالة القلق الشديد على زوجها لا تحتاج إلى مثل هذا الرجل المستفز..

ارتسمت صورته أمام عينيها باسما مشجعا - هو كذلك دائما - رنت في أذنيها ضحكته الصافية وهو يقول أمي تخاف عليّ منك تقول لي دائما أنك امرأة شديدة فأقول لها ابنك أسد كان ورائها دائما.. لم يثبط عزيمتها يوما وهي تتصدى للصوص وتتسبب في إيقاف المشروع الهندسي الضخم المليء بالسلب والنهب وإحالة القائمين عليه إلى النيابة ابتسمت بمرارة وهي تتذكر كل الإغراءات التي عرضت عليها وكل التهديدات التي تعرضت لها بوصفها مهندسة الحكومة المسئولة عن متابعة تنفيذ العملية، أين هم الآن بإغراءاتهم وتهديداتهم؟ لعل الوحشة والبرودة وضياع العمر خلف جدران السجن هم العقاب الأمثل لكل من هم على شاكلتهم.

استغل الرجل شرودها وأعاد تحريك ساقه بنفس الطريقة، بغضب التفتت إليه ثم تراجعت وابتلعت بعضا من غضبها وضغطت على أسنانها.. يا أستاذ!!!.. ابتسم وأسكن ساقه مرة ثانية، أطلقت زفرة نفثت فيها غضبها، بالتأكيد كان يعلم أنها ستتوتر لهفا عليه ولهذا أخفى عنها الأمر..

وعكة صحية؟ ما حدود تلك الوعكة؟ ولماذا لم يعد إلى القاهرة؟ ربما كان الأمر أكبر بكثير مما قالته أخته وإلا ما احتاج إلى دخول المستشفى.. سترك يارب.. من الواضح أن الأخت العزيزة قد هونت عليها الأمر بعد أن فوجئت بها لا تعرف شيئا على الإطلاق عن الموضوع.

يا الله.. السيارة تزمجر وتتلكأ منتفضة بين الحين والحين ثم تتوقف هذا التوقف هو ما كان ينقصها، ارتفع صوت السائق يسب ويلعن فيمن أصلحها له من قبل وخرج ليعمل في بعض أجزاء المحرك علها تسير. الدقائق طويلة طويلة والقلق لا يسمح لها بمزيد من الصبر.

تحركت من مقعدها وخرجت إليه ووسط دهشته ودهشة الركاب طلبت منه أن يترك الأمر لها، أقل من خمس دقائق وكانت السيارة تعمل، عادت إلى مقعدها محاصرة بنظرات الإعجاب والتعجب ودعوات السائق بعمار بيتها وسلامة يمينها دقائق وعاد الرجل المجاور إلى محاولاته نفرت عروقها واندفعت الدماء إلى وجنتيها استدارت إليه وفي صمت رفعت قبضتها غاضبة مردعة وهوت بها فوق أنفه ثم اعتدلت في مكانها، ألجمته المفاجأة.. انحشرت أه مكتومة في حلقة، ارجل الثالث على نفس المقعد شاهد على الموقف متسع الحدقتين فاغر الفاه.. لم ينبس بكلمة.

كانت صدمة، سال خيط رفيع من الدم القاني تحت أنف الرجل أخرج منديلا ووضعه على أنفه في صمت ووجوم ظهرت سنتيمرات فاصلة بينهما جمد الرجل عن تقليصها، تنفست محاولة الاسترخاء بترقب الطريق السويس أخيرا.. قفزت درجات سلم المستشفى قفزا بعد أن سألت عن غرفته، كل شيء فيها يرتعد، هذه هي الغرفة.. إحدى الممرضات في الممر الخارجي لاحظت وقفتها المرتبكة سألتها إن كانت تريد تريد شيئا.

- مهندس محمود من شركة البترول .

- نعم هنا

فتحت لها الباب ما أن رأته بأربطته وضماداته حتى أطلقت صرخة فزع مكتومة طمأنتها الممرضة كسر في الذراع وبعض الرضوض البسيطة.. أعصابها لا تحتمل، كان نائما.. اقتربت منه ومدت يدها المحملة بلهفتها من خصلات شعره تتحسسه، اصطدمت أصابعها بضمادات رأسه الرطبة، أخرجت أصابعها المرتعشة مخضبة بالحمرة.. حملقت في يدها مذعورة غابت عن الوعي، فتحت عينيها على محاولات الممرضة لإفاقتها.. التفتت إليه فأطلق زفرة ارتياح، ابتسم لها في تودد.. أفزعتني.. أهكذا تفعل بك الضمادات.. يا لها من صلابة يا أعظم مهندسة.