الأربعاء 22 مايو 2024

الثقافة مظهر نهضة وعنوان حضارة


أ.د غانم السعيد

مقالات1-5-2024 | 13:04

أ.د غانم السعيد

إن الثقافة تعني الإحاطة بكثير من أنواع المعارف الإنسانية على اختلاف أنواعها وصورها، فالمثقف لا تقتصر معارفه على نوع أو أنواع محددة من المعارف، بل يجب أن يكون موسوعيا محيطا بكل معارف عصره والعصور السابقة، لأنه يُنتَظر منه من خلال هذه الثقافة أن يصلح مجتمعه ويبعث فيه الهمة والعزيمة نحو التقدم والنهضة والرقي بعد أن استخلص- من خلال قراءاته- أسبابها عند الأمم الأخرى قديما وحديثا، ومن ثم يقوم بوضعها أمام أبناء الأمة، مع دعوته لهم  بالأخذ بها لينهضوا ويتقدموا.

ومفهوم الثقافة أوسع وأشمل من مفهوم العلم، وإن كان العلم ركيزة من ركائزها المهمة، لأن العالم مهموم ببحوثه التي يقدم نتائجها للبشرية لتفيد منها، أما المثقف فإن مهمته الاطلاع على هذا العلم ونشر معطياته على نطاق واسع محددا أسبابه مع استنفار العقول لتأخذ مسار هؤلاء العلماء حتى تنهض الأمة وتتقدم.

والثقافة ضرورة حياة كالهواء الذي نتنفسه، والماء الذي نشربه، والطعام الذي نأكله، وهي القاطرة التي تنجذب الأمة نحوها لتنطلق بها بقوة لتأخذ بأسباب التقدم والحضارة، ومن أهم الدلائل على ذلك النهضة الكبرى للأمة الإسلامية في عصرها الذهبي الزاهي، (العصرالأول للخلافة العباسية)، فقد أدرك الخلفاء العظماء لهذا العصر أن النهضة التي يريدونها لن تتحقق إلا من خلال ثقافة شاملة لكل المعارف والعلوم، وبخاصة معارف الأمم الأخرى، فاهتموا بذلك اهتماما شديدا جعل من الأمة الإسلامية في عصرهم هي حاكمة العالم، والقوة العظمى الوحيدة فيه، كما كانت المصدر الأوحد للإشعاع الثقافي في كل الدنيا، وكان من أهم ما اتجهوا إليه في إثراء ثقافة المجتمع المسلم- بالإضافة إلى الثقافة الإسلامية النظرية الموجودة- ترجمة ثقافات وعلوم الأمم الأخرى، ففي هذا العصر اتجهت ميول الخلفاء العباسيين إلى معرفة علوم الفرس واليونان، فعني أبو جعفر المنصور بترجمة الكتب، ونقل له حنين بن إسحاق بعض كتب أبقراط وجالينوس في الطب، كما نقل ابن المقفع كتاب «كليلة ودمنة» من الفهلوية، وترجم كتاب «السند والهند» وكتاب إقليدس في الهندسة إلى العربية، كما ظهر آل نوبخت، والحسن بن سهل الذي استوزره المأمون، وأحمد بن يحيى جابر البلاذري صاحب كتاب «فتوح البلدان».

وزادت الثقافة بترجمة الكتب في عهد هارون الرشيد، بعد أن وقع في حوزته بعض المدن الرومية الكبرى فأمر بترجمة ما عثر عليه المسلمون من كتب اليونان، كما نشطت حركة الترجمة بفضل تشجيع البرامكة للمترجمين.

وفي عهد المأمون قويت حركة النقل والترجمة من اللغات الأجنبية، وخصوصاً اليونانية والفارسية إلى العربية، فأرسل البعوث إلى القسطنطينية لإحضار المصنفات الفريدة في الفلسفة والهندسة والموسيقى والطب.

ولم تكد تلك الذخائر النفيسة تصل إلى بغداد حتى عهد إليهم المأمون بترجمتها، وكان (قسطا بن لوقا) يشرف على الترجمة من الفارسية القديمة.

ولم تكن العناية بالترجمة مقصورة على المأمون، بل عُهد بها إلى جماعة من ذوي اليسار في عهده لنقل كثير من الكتب إلى العربية، ومن هؤلاء محمد وأحمد والحسن أبناء موسى بن شاكر المنجم، الذين أنفقوا الأموال الضخمة في الحصول على كتب الرياضيات وكانت لهم آثار قيمة في الهندسة والموسيقى والنجوم، وقد أنفذوا حنين بن إسحاق إلى بلاد الروم فجاءهم بطرائف الكتب وفرائد المصنفات.

وعكس اهتمام العباسيين في علم النجوم والرياضيات والكيمياء أهمية الثقافة والعلوم العقلية في تلك الفترة، فبرز عدد من العلماء والأعلام، كجابر بن حيان، الذي اشتهر في الكيمياء ويعرفه الأوروبيون باسم جابر،  كما اشتهر في الصيدلة كوهين، العطار اليهودي الذي وضع كثيرا من المؤلفات، منها «صناعة الصيدلة»، شرح فيه العقاقير شرحاً واضحاً، وطريقة علم المشروبات والجرعات والمساحيق والحبوب وغيرها. واشتهر في علم الحساب عمران بن الوضاح وشهاب بن كثير، ومهر في الهندسة الحجاج بن أرطأة، الذي خط الجامع ببغداد في عهد المنصور. واشتهر في التنجيم عبد الله بن نوبخت وجعفر بن عمر البلخي، ويعرف بابن معشر الفلكي، وله كتب كثيرة، منها «إثبات العلوم» و «هيئة الفلك».

أما في الطب، فبرز في عهد الرشيد من الأطباء ابن بختيشوع، الذي نبغ في علم النفس ومهر في تشخيص الأمراض العصبية وعلاجها، وعيّنه الخليفة رئيساً للأطباء في حاشيته. واشتهر في عهد المعتصم يحيى بن ماسويه وميخائيل وحنين بن إسحاق.

وعلى خطا الخلفاء العباسيين في بلاد الشرق سار خلفاء بني أمية في بلاد الغرب (الأندلس)، فقد عمل هؤلاء الخلفاء على أن تكون بلاد الأندلس لا تقل ثقافة ولا حضارة عن بلاد المشرق، وعملوا بكل جهدهم في سبيل ذلك حتى صار أهم ما يهتم به الأندلسي قراءة كل ما يأتيه من مؤلفات وترجمات علماء الشرق، وتوافد علماء الشرق وأدباؤه يقدمون إليهم أفضل ما لديهم من كتب حتى أصبح من أثاث البيت الأندلسي وجماله وجود مكتبة به، ومما يحكى في هذا الشأن أن كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ظهر أول ما ظهر في بلاد الأندلس، فقد اشتراه الخليفة بوزنه ذهبا، ووصل أمر الثقافة في بلاد الأندلس أنها امتلأت بصالونات الأدب والفكر، وشاركت المرأة الأندلسية بكل قوة في تلك الصالونات، وكان للأميرة الشاعرة ولادة بنت المستكفي صالونها الأدبي في قرطبة، وكان يقصده الأدباء والمثقفون من جميع بلاد الأندلس، فنهضت الأندلس وصارت منارة العلم والثقافة في قلب أوروبا التي كانت تعيش عصور الظلام.

وفي النهضة العربية الحديثة كانت الثقافة والمعرفة هي ركيزة هذه النهضة التي بدأها محمد على بإرسال البعثات التعليمية  إلى أوروبا، وكان للشيخ رفاعة الطهطاوي الدور البارز في إحداث نهضة ثقافية في مصر بمفهومها الدقيق من خلال ما ترجمه وما كتبه وأبدعه من مؤلفات، وهدأ موكب النهضة قليلا حتى قامت ثورة ١٩٥٢م، فسلكت في نهضة البلاد نفس الطريق الذي سلكته النهضة في العصور السابقة، فاهتمت بالثقافة اهتماما شديدا، وجعلتها على رأس أولوياتها؛ فأنشأت لها وزارة خاصة بها، وأنفقت بسخاء على تحقيق وطبع أمهات الكتب في مجالات الثقافة المتعددة، وشجعت التأليف وجعلت له جوائز قيمة لكبار المبدعين مثل جائزة الدولة التقديرية والتشجيعية وغيرهما، كما انتشرت في كل ربوع مصر النوادي الثقافية، ومراكز الشباب التي تعني بالثقافة كعنايتها بالرياضة البدنية، وقامت وسائل الإعلام المختلفة وبخاصة المسموعة والمشاهدة بتخصيص برامج ثقافية حوارية مع كبار المثقفين في ذلك العصر كطه حسين والعقاد وغيرهما، ولكن مع نكسة ١٩٦٧م، تراجع الاهتمام قليلا بالنشاط الثقافي نظرا لانشغال الوطن بقضية التحرير التي استنزِفت مصر اقتصاديا، فقد توجه معظم الدخل القومي إلى المجهود الحربي، وبعد انتصار أكتوبر ١٩٧٣م، ظلت الثقافة تراوح مكانها، ومع دخولنا في عهد مصر الجديدة وحرص القيادة السياسية على أن تعود مصر إلى ريادتها في كل المجالات، وبخاصة في مجال الثقافة الذي هو أساس أي تقدم ونهضة، وجدنا أن روحا جديدة بدأت تدب في أوصال المؤسسات الثقافية في مصر، وبدأ النشاط الثقافي يعود إليها، من خلال طبع كثير من الكتب التي تهتم بتجديد العقل العربي في كل مناحيه، ويظهر ذلك واضحا من تكريم العلماء وأصحاب الفكر المستنير من قبل الدولة، ومن خلال ما تنشره وزارة الثقافة عبر مؤسساتها المختلفة ومن أهمها الهيئة العامة المصرية للكتاب، وقصور الثقافة، كما نجد ذلك في الأزهر الشريف حيث يقوم مجمع البحوث الإسلامية بدور بارز في هذا الصدد، ويكفي أن نعرف أن مجلة الأزهر الشريف تنشر مع كل عدد مع مطلع كل شهر عربي كتابين بسعر زهيد لا يتجاوز خمسة جنيهات، وهي كلها كتب لعلماء الاستنارة الثقافية في مصر في القديم والحديث والمعاصر.

 وتشارك- أيضا- وزارة الأوقاف بدور مهم في نشر الثقافة، ففي عهد الوزير الأستاذ الدكتور محمد مختار جمعة طبعت الوزارة مئات الكتب التي تكشف عن حقيقة الإسلام المتمثلة في يسره وسماحته، وكان من أعظم ما قامت به الوزارة ما يمكن أن أسميه ب(الحقيبة الثقافية)، وهي تشتمل على عشرين مؤلفا ذات عناوين متنوعة كلها تأخذ مسارا واحدا أساسه تقديم حقائق الإسلام في يسر وسماحة بغرض تجديد الفكر الديني، وكانت توزع مجانا على كل مؤسسات الوطن وأفراده، حتى لا يكاد يخلو منها بيت الآن.

ومع كل هذا فإن حجم الآمال المعقودة على قيادتنا الرشيدة أكبر بكثير مما هو موجود في الواقع، ونأمل أن تصبح قضية الثقافة وتثقيف المواطن على رأس الأولويات في الجمهورية الجديدة، وأن تكون على نفس درجة الاهتمام- إن لم تزد عنه- لما نراه في مجالات البنية التحتية، لأن عقل الإنسان وصياغة ثقافته صياغة جديدة تتناسب مع ظروف المرحلة هي بداية الانطلاقة الحقيقية لدخول مصر الجديدة إلى عصر نهضة جديدة تتسابق فيها مع العالم.