تمثل الثقافة والفنون أهم أدوات القوة الناعمة لأى دولة، حيث لعبت هذه القوة الناعمة فى مصر دوراً كبيراً امتد تأثيره لأكثر من قرن من الزمان، وقد ظهر ذلك جلياً خلال القرن العشرين فقد كانت مصر مركز الإشعاع الثقافي والفني والفكري فى العالم العربي، كما احتلت الموسيقى والغناء والسينما المصرية مكانة خاصة فى قلوب الوطن العربي، فهذه الفنون والثقافة ليست مجرد فنانين ومبدعين ومفكرين فقط، ولكن كل ذلك في حاجة إلى مؤسسات لترعاها ونوافذ ومسارح يتم من خلالها طرح هذا الإبداع وهذا المنتج الثقافي والفني، فالبنية التحتية للثقافة والفنون هى الوسيلة الوحيدة لكي تحقق تلك القوة الناعمة تأثيرها وأهدافها ومردودها.
لذلك كان اهتمام محمد على باشا بالفنون بأن قام بإنشاء خمس مدارس لتعليم الموسيقى وذلك لتدريس والتعلم العزف على الآلات الموسيقية من أجل أن يكون هناك موسيقى عسكرية للجيش المصري كواجهة مشرفة لاستقبال الزعماء والرؤساء والملوك.
وكانت النقلة الحقيقة والتي امتد أثرها إلى مائة عام بعد ذلك هى إنشاء دار الأوبرا الخديوية فمنذ أن تولى إسماعيل باشا الحكم فى يناير من عام 1863، حيث كان مولعاً بالفنون والثقافة، فقد قام بتجديد حديقة الأزبكية، وأنشأ بها المسرح الكوميدي، كما قام ببناء دار التمثيل لأول مرة فى مصر، ولكن كان أهم إنجازات الخديوي إسماعيل هو افتتاح دار الأوبرا الخديوية عام 1869، والتي احترقت بالكامل عام 1971م أى استمرت كمركز للإشعاع الثقافي والفني لأكثر من مائة عام، فلم يكن إنشاء الأوبرا المصرية مجرد حدث ارتبط بافتتاح قناة السويس فقط، بل يعد ذلك من أهم الأحداث الفنية فى تاريخ الفن العربي، لما كان له من أثر كبير فيما بعد فى إحداث تغيرات وتطورات بشكل غير مباشر فى تطور فنون المسرح والموسيقى العربية.
لم يقتصر دور الأوبرا الخديوية على إثراء الثقافة الفنية العربية سواء فى المسرح أو الموسيقى فقط بل امتد ذلك الى الارتقاء بشكل المسرح كمبنى خاص للعرض المسرحي والعروض الفنية عموما، فقد كانت الفرق المسرحية والموسيقية قبل وجود دار الأوبرا الخديوية تقدم عروضها فى مسرح لم يكن مسرحاً حقيقياً بالشكل الذى نعرفه، ولكنه قد يكون قطعة أرض فضاء مسقوفة بالقماش، مفروشة بالرمال، وقد رصت الكراسي، والدكك وفى آخرها "خشبة" مسرح أقيم على براميل فارغة ويوضع عليها ألواح خشبية.
وفى أماكن أخرى تكون مكشوفة لا يوجد بها كراسي، هذا كان حال الفن المصري وقتها رغم وجود عظماء من الفنانين مثل عبده الحامولي ومحمد عثمان وسلامة حجازي، لتأتى دار الأوبرا الخديوية ليست مجرد مسرح فقط بل تحفة معمارية مبهرة، لتوفر دار الأوبرا كافة الامكانات اللازمة لخروج أعمال فنية احترافية على أعلى مستوى من الإبداع بكافة عناصر المسرح من الإضاءة والديكور والموسيقى، ولا تقل جمالا من الأعمال التى كانت تقدم فى أوروبا، كل ذلك كان له دور كبير فى الارتقاء بالفن المصري، لتظهر بعد ذلك الكثير من المسارح وأماكن العروض الفنية الشهيرة فى بدايات القرن العشرين على غرار مسرح الأوبرا الخديوية مثل ( زيزينيا – مسرح تياترو عباس – الاجبسيانا – الدنيسانس – برينتانيا – البوسفور – الشانزليزية..).
ولذلك نجد أن جود كيان مثل دار الأوبر الخديوية كمبنى وكذلك المسارح التى جاءت على نفس نمطها ومحاكاة لها قد لعبت دورا كبيرا وواضحا فى تطور الفن المصري والارتقاء به وجعل لمصر مكانة عالمية كبيرة وقتها، حيث كانت معظم الأوبرات العالمية الشهيرة التى تُعرض فى أوروبا كانت تأتى لتقديم العرض الثاني لها فى القاهرة والإسكندرية وذلك لوجود دار أوبرا لا تقل عن تلك الأوبرات الأوروبية.
وكان ذلك سببا رئيسيا فى أن تتوافد آلاف الفرق الأوربية إلى مصر كما جاء إلى مصر في تلك الفترة العديد من المؤلفين الموسيقيين الكبار، فنجد مثالا على ذلك أن قاد المؤلف الموسيقى الفرنسي " سان صانز " حفلاً موسيقياً بالأوبرا الخديوية فى 27 فبراير عام 1903 وتكررت زياراته لمصر، والتي قام خلالها بزيارة إلى الصعيد واستمع هناك إلى بعض الألحان التى تأثر بها فى الكونشيرتو رقم 5 للبيانو والأوركسترا والمعروف بالمصري.
وفى نفس العام بدأت عودة الجو الفرنسي للعروض من أوبرات عديدة.. ووفدت من اليونان فرقه " كريستومانوس" ثم الفرقة الملكية بأثينا في روائع المسرح اليونانية ومن بعدها " نوفيللي " من أعلام المسرح الإيطالي، وافتتح موسم الخريف من عام 1904 فنان المسرح الفرنسي "سيلفان" الذي درس علي يديه فيما بعد رائد المسرح المصري "جورج أبيض" ومن الأعمال التي قدمها: "الأب ليبونار - لويس الحادي عشر – هوراس- الملك يلهو .. التي قامت عليها أوبرا ريجوليتو وجريزيليتس".
كما تم تقديم أعمال إيطالية أخرى شملت على عشرين حفلة قُدم خلالها (عطيل – هاملت – تارتوف – أويب الملك – كين – أشباح) ليقدم أيضا "لومبير" موسما مسرحيا من الروائع الفرنسية تشمل المسرحيات (المغامر - السيد – أرناني – حياة بوهيمية – ابنة رولان – روي بلاس )، كل هذا الكم من العروض والفرق الأوروبية والأجنبية كان يحدث سنوياً، حيث أصبحت مصر في تلك الفترة لها مكانة ودور عالمي وقوة ناعمة مؤثرة على مستوى العالم، وهذا لم يكن قد يتحقق إلا بوجود كيان ومبنى مثل دار الأوبرا الخديوية.
ولكن عند احتراق دار الأوبرا الخديوية بالكامل عام 1971م ظلت مصر بدون دار أوبرا لمدة 17 عاما، حتى تم افتتاح دار الأوبرا المصرية المعروفه الآن عام 1988م بطراز ياباني، وكانت تلك السنوات بدون دار أوبرا ولكن كان البديل هو مسرح الجمهورية بجوار قصر عابدين والذي يعد ضمن المسارح التى تم إنشاؤها فى بدايات القرن العشرين حيث تم تشييده عام 1912 كمحاكاة لدار الأوبرا الخديوية.
ولو تأملنا ما تقوم عليه الجمهورية الجديدة الآن لنجد أننا نقف أمام نفس الأحداث وكأن التاريخ يعيد نفسه من جديد، فقد أيقنت الدولة المصرية فى السنوات الأخيرة أهمية القوة الناعمة والثقافة والفن وأهمية عودة مصر كرائدة للثقافة والفنون مثلما كانت عليه من قبل وسط العالم العربي، ليتم إنشاء مدينة فنون وهى تعد كأكبر مدينة للفنون والثقافة على مستوى العالم ..حي يقام هذا المشروع القومي الضخم بالعاصمة الإدارية الجديدة، على مساحة 127 فدانا، وهو قائم على جزئين، الأول دار الأوبرا والثاني مدينة الفنون والتى تتكون من جزئين وهما المكتبة والثاني المتحف، وتربطهما مسلتين فرعونيتين من صان حجر بمحافظة الشرقية، حيث التصميمات الداخلية لمدينة الفنون تحمل لمسات الحضارة المصرية القديمة تعبيراً عن الهوية المصرية وتاريخها العظيم.
بينما دار أوبرا العاصمة الإدارية هى أكبر دار أوبرا فى الشرق الأوسط حيث تتكون من بهو فخم يؤدي إلى المسرح الرئيسي والذي يحوى العروض الضخمة من الأوبرات العالمية وعروض البالية والسيرك العالمي ليتم تجهيزه على أحدث التكنولوجيا العالمية فى هذا المجال، كما يوجد مسرح آخر للدراما، ومسرح ثالث للموسيقى والغناء وأيضاً يوجد المسرح المكشوف ومسرح صغير للعروض التجريبية، ووجود استوديوهات للصوت على أعلى مستوى من التقنيات الصوتية، وايضا استوديو للبث التليفزيوني لنقل كل العروض بأحدث التكنولوجيا للبث على الهواء مباشرة.
كما توجد بالمكتبة الى الآن 70 ألف كتاب، ومن المخطط أن تحتوى على 5 ملايين كتاب.حيث تحوى النسخة الأصلية لكتاب وصف مصر، من ضمن 5 نسخ من هذا الكتاب فقط موجودة على مستوى العالم منذ عصر نابليون، وتم تجهيز المكتبة بطريقة البحث عن الكتب إلكترونيا مما يجعلها سهلة وسريعة، ويمكن للقارئ استعارة الكتاب ديجيتال، كما أن التجهيز بجعل الأجواء داخل المكتبة كاتمة للصوت حتى لا تؤثر على الرواد عند القراءة.
كل هذا الوصف لمدينة الثقافة والفنون المصرية الجديدة سوف يأتي بثماره فيما بعد وسوف يؤثر على الوضع الفني والثقافي والقوة الناعمة المصرية التى افتقدنا دورها خلال سنوات كثيره فمع مدينة الفنون والثقافة يجعلنا نتوقع ما هو مستقبل الثقافة والفنون المصرية، قياساً على ما أحدثته دار الأوبرا الخديوية من تأثير مباشر وواضح امتداد طوال قرن من الزمان، فالتاريخ يعيد نفسه ولكن بآليات جديدة.