"الشمس لا تُحجب بغربال"، ومهما كتبنا من مقدمات ستظل قاصرة أمام عظيم إسهاماته، لقد كان وما زال سراجًا يهتدي به الدارسون في دروب الأدب العربي والإصلاح الفكري، فشمسه تنير العقول وتقصي ظلام الجهل، أنه أيقونة الثقافة المصرية والعربية عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين.
وبعيدًا عن تهافت المتهافتين فالجبال الشامخة لا تهزها الرياح، فاللغة العربية في يده كأنها لوحة نادرة أبدع في رسمها وأتقن تفاصيلها فخُلِّد اسمه بين عظماء الأدب، وعبقريته لا تُقاس بأقلام أو أقوال النقاد لأن إنجازاته مُعلِّمًا يسترشد به الدراسون وعشاق الأدب، فالعميد يبقى العميد.
قدم طه حسين مجموعة ثمينة من الكتب والمقالات والنصوص النقدية، التي تعتبر جذور أساسية في صرح الأدب العربي، نذكر من بينها سيرته الذاتية "الأيام" التي أصبحت إحدى كنوز الأدب بفضل أسلوبها السردي العميق والمؤثر، لم يكن غرضه من هذا الكتاب تأريخ سيرته الذاتية بقدر ما كانت غايته أن يصدر صوتًا صارخًا وناقمًا هدفه نقد المجتمع، وكذلك كتابه الذي أثار الجدل "في الشعر الجاهلي" الذي أحدث ضجة في الأوساط الأدبية والثقافية والفكرية بنقده الجريء للشعر الجاهلي.
أما في كتابه "الشيخان" فقد عرض بإنصاف وموضوعية ملحوظة جوانب من شخصية كلٍّ من "أبي بكر الصديق" و"عمر بن الخطاب" الخليفتين الراشدين اللذين اتسم حكمهما بالعدل والحكمة، واستعرض العميد شخصيتهما مستقرئًا من السير الصحيحة وما نُقل عنهما في النهج والأساليب التي كان يتّبعانها في: الحكم والسياسة، وإعلاء شأن الإسلام، وتوحيد كلمة المسلمين، وصدِّ سهام المعتدين ومريدي الفتنة.
وعن تحفته "حديث الأربعاء" إحدى الدراسات النقدية، التي فاقت في أصالتها وشمولها كثيرًا من الدراسات التي تطرَّقت لهذه الزاوية من زوايا الأدب العربي، ناقشت هذه الدراسات الجوانب الفنية لعدد من أكبر الشعراء، وتناولت قصائدهم بالشرح والتحليل البياني واللغوي، كما خصصت جلّ اهتمامها بقضية القدماء والمحدثين، وفي خاتمتها الثرية تجدها كـبانوراما نادرة استعرض العميد من خلالها مراسلاتٍ دارت بينه وبين عدد من أدباء عصره حول قضايا وشؤون أدبية ونقدية مختلفة.
وإذا أردنا التحدث عن الثقافة في مصر ومستقبلها، فلا نستطيع إلا أن نبدأ بكتاب "مستقبل الثقافة في مصر" والذي عبر فيه طه حسين عن تصوراته وعن رؤيته للثقافة المصرية، وعلى الرغم من صغر حجمه على أنه من أهم مؤلفاته التي أثارت قضايا فكرية شغلت الرأي العام، ولا تزال موضع دراسات ومناقشات مستمرة إلى اليوم.
ولا نغفل عن كتاب "تقليد وتجديد"، الذي يتبع فيه طه حسين تطور الأدب العربي عبر العصور المختلفة، ويستعرض التجديدات الرئيسية في كل مرحلة، وصولا إلى العصر الحديث، ويناقش أعمال وتجارب شعراء مثل شوقي وحافظ والبارودي والمازني ومطران، ويقيّم تجاربهم في إطار التجديد.
وفي كتاب "من أدب التمثيل الغربي"، يقدم طه حسين تقييمًا نقديًا شاملًا لعدد من الأعمال التمثيلية لكُتَّاب غربيين، حيث يتعمق في فهم دوافع الكاتب قبيل وأثناء كتابته، ويغوص في أعماقه، ويناقش وجهات نظر النقاد الغربيين حيال الأعمال الأدبية، وتأثيرها على المجتمع ومدى توافقها مع زمانها، كما يلقي الضوء على جمالية الموضوع ووضوح العبارة، ويستكشفه بمنهجية نقدية فريدة، وبينما يرافقك في رحلة مع الشخصيات والأحداث، يقف عند كل تفصيلة ليجسد الحقيقة أمامك بكل وضوح وبلا شكوك.
وفي رحلة استكشافية يأخذنا طه حسين في كتابه "في لغو الصيف" حول شخصية الفاروق عمر بن الخطاب، ونتعرف من خلالها على جوانب صلبة ولينة في طبيعته، ونقف على أطلال طروادة، ونستكشف أسرار الخيال والحب والفن، كما ننظر إلى واقعنا الاجتماعي ونبتكر الحلول لتطويره، ونتأمل في تاريخنا لنكتشف هويتنا الحقيقية.
ولا يمكن إغفال الدور الكبير الذي قام به طه حسين في إقرار مجانية التعليم، في وقت كان التعليم مقتصرًا على أبناء الأعيان، حارمًا بذلك فئات واسعة من الناس حق التعليم، طه حسين اعتبر التعليم حقًا للجميع، وقد عبَّر عن ذلك في قوله الشهير "التعليم كالماء والهواء"، كما اتبع سياسة فعَّالة لبناء نظام تعليمي قوي يتنافس مع الأنظمة الأوروبية، كما قام بتوفير تغذية كاملة وتوفير الكتب والمعدات اللازمة للتلاميذ.
طه حسين ليس مجرد اسمًا ضمن قائمة الأدباء الطويلة، بل هو منارة فكرية وثقافية كبيرة، تناولنا جزء بسيط من أعماله النقدية والفكرية، التي أثرت الفكر العربي وساهمت في تطوير الثقافة نحو أفاق جديدة، إن أعماله خير شاهد على عبقريته وريادته، وتظهر عمق فكره وجرأة قلمه، فمنجزات عميد الأدب العربي طه حسين جزءًا لا يتجزأ من هويتنا العربية ووجداننا الأدبي، وسيبقي العميد حيا بأعماله الخالدة في وجدان الأمة العربية.