تتميز الأعمال الأدبية العظيمة بقدرتها على تجاوز حدود الزمان والمكان، وتترك بصمة خالدة في وجدان القراء عبر الأجيال، ومن بين هذه الأعمال الخالدة، كتاب "المجنون" للأديب اللبناني الشهير جبران خليل جبران، الذي صدرت أول ترجمة عربية له قبل مئة عام، ليصبح منذ ذلك الحين علامة فارقة في تاريخ الأدب العربي الحديث.
مرت مئة عام على إصدار أول طبعة عربية من كتاب «المجنون» لمؤلفه نابغة المهجر جبران خليل جبران، وقام بتعريبها الأرشمندريت أنطونيوس بشير بموافقة المؤلف، وهي الترجمة الوحيدة التي أقرها جبران بنفسه، وأصدرتها دار الهلال في مصر عام 1924.
يُعد كتاب "المجنون" أحد أشهر الأعمال الأدبية لجبران خليل جبران، وهو أول إصدارات جبران التي كتبها باللغة الإنجليزية، ويضم الكتاب أكثر من 30 حكاية رمزية وقصيدة نثرية، وهي: "كيف صرت مجنونا"، "الله"، "يا صاحبي"، "اللعين"، "بين هجعة ويقظة"، "الناسكان"، "الكلب الحكيم"، "اطلبوا تجدوا"، "الذوات السبع"، "العدالة،" "الثعلب"، "الملك الحكيم"، "الطموح"، "اللذة الجديدة"، "اللغة الأخرى"، "الرمانة" "القفصان"، "النملات الثلاث"، "حفار القبور"، "على درجات الهيكل"، "المدينة المباركة"، "الإله الصالح والإله الشرير"، "في خيبتي غلبتي"، "الليل والمجنون"، "الوجوه"، "البحر الأعظم"، "وريقة عشب وورقة خريف"، "المصلوب"، "الفلكي"، "العين"، "العالمان"، "عندما ولدت كآبتي"، "عندما ولدت مسرتي"، "العالم الكامل".
يتناول الكتاب موضوعًا واحدًا وهو مشكلة الذات في علاقتها مع نفسها ومع الآخرين، ومع الكون والله، ويمزج بين الجانبين الاجتماعي والفلسفي، ويُعتبر رحلة لاكتشاف الذات والانفتاح على آفاق جديدة، ويقدم مجموعة من القصص والأمثال التي تعكس رغبة الإنسان في التحرر من القيود وتحقيق التوازن الروحي، وذلك بلغة بسيطة تعتمد على الدراما والمقارنات الفكاهية، حيث جسّد جبران البطل في كتابه مجنونًا، لأنه كما أشار، أن المجنون في رأيه هو أول خطوة نحو التجرد، وهو يساعد في عِرفه كما في عُرف المدرسة السريالية، على إدراك ما وراء نقاب العقل من أسرار.
واستهل جبران حكايته الأولى في كتابه بعنوان "كيف صرت مجنونًا": "هذه قصتي إلى كل من يودّ أن يعرف كيف صرتُ مجنونًا: في قديم الأيام قبل ميلاد كثيرين من الآلهة نهضت من نوم عميق فوجدت أن جميع براقعي قد سُرقت ـ البراقع السبعة التي حكتها وتقنعت بها في حيواتي السبع على الأرض ـ فركضت سافر الوجه في الشوارع المزدحمة صارخًا بالناس: "اللصوص! اللصوص! اللصوص الملاعين" فضحك الرجال والنساء مني وهرب بعضهم إلى بيوتهم خائفين ومذعورين، وعندما بلغت ساحة المدينة إذا بفتى قد انتصب على أحد السطوح وصرخ قائلًا: "إن هذا الرجل مجنون أيها الناس!"
يَعتبر جبران شخصية "المجنون" رمزًا لروح التمرد التي تسيطر على الكاتب، مدفوعة برغبته في التحرر من التقاليد والموروثات التي يراها مُهترئة ومُقيدة، وتتجسد في شخصية "المجنون" رغبة الكاتب في الثورة على القيم والعادات الاجتماعية، والانطلاق في مسار من التحدي والتغيير، كما يعبِّر الكاتب عن تصوير الواقع القاسي الذي يعيشه المجتمع، والتناقضات التي يعاني منها، والظلم والتخلف والمشاكل الاجتماعية الخطيرة التي تحيط به، وتجسد هذه الشخصية مرارة الخيبة والألم التي تخيم على نفسية الكاتب.