الثلاثاء 18 يونيو 2024

«30 يونيو» العظيمة.. استعادة العقد الفريد للهُوية المصرية

طه فرغلى

مقال رئيس التحرير 3-6-2024 | 12:22

طه فرغلى

 يمر التاريخ بأحداثه وشخوصه، وتبقى شواهده دليلاً على عظمة مصر وتفردها، لا يؤثر فيها الزمان، بل تؤثر فيه، وتظل أقوى منه، قادرة على التغيير دوماً، من هنا مر الأعداء والأصدقاء، الكارهون والمحبون، من جاء بالحرب، ومن جاء بالسلام، رحلوا جميعًا وبقيت المحروسة.

يأتى الغزاة والطامعون بمخططاتهم وجيوشهم، وعلى أبواب القاهرة تسقط مؤامراتهم، تدفن فى مقابر تبقى عليها الشواهد عبرة لمن يأتى بعدهم.. "هنا مقبرة الغزاة" مصر جاءت ومن بعدها التاريخ، فجر الضمير-كما قال جيمس هنرى بريستد- شعاع النور الذى أضاء جنبات العالم، ومن على ضفاف نيلها انطلقت أقدم حضارة عرفتها البشرية لتؤسس أقدم دولة حديثة لها قواعد ونظم وقيم.

إذا سألت عن الهوية المصرية فابحث عن الإجابة على جدران المعابد، وإذا أردت أن تعرف أصول الحضارة فاقرأ قانون ماعت، وإذا بحثت عن التأثير فاسأل الإسكندر المقدوني، أو صلاح الدين الأيوبي.. مصر الهوية، المبتدأ والخبر، أصل الحكاية وفصل الخطاب، هنا الدنيا والدين، الفن والمعرفة والثقافة، حضارة راسخة لا تهزها ريح عابرة.

مجنون من ظن أن بإمكانه تغيير هوية مصر، أو اللعب فى ثوابتها، كل من مر هنا تمصر، وأصبح مصري الهوى والهوية، التاريخ يقول ذلك، وأحداثه شاهدة عبر الأزمنة والعصور.

تندثر دول وتضمحل حضارات، لا يبقى منها أثر، وتبقى مصر وحدها تنسج خيوط هويتها عبر الزمان، وتمزج بين مختلف الثقافات التى جاءت إليها، نسيج واحد تتداخل فيه الخيوط، كل خيط يضيف مزيدا من الجمال تصبغه روح مصر.

الهوية المصرية مزيج فريد انصهر فى بوتقة واحدة، كل ثقافة تدخل هنا تصطبغ بالصبغة المصرية الخالصة، هويتنا أساسها التعايش وقبول الآخر لم نعرف يوما التطرف أو التشدد أو العنف، وسطيون فى كل أمورنا نقبل الاختلاف ونكره الخلاف ودائماً الود موصول لا ينقطع.

عبقرية المكان فرضت نفسها وأثرت فى شخصية مصر أبلغ تأثير، كما قال العبقرى جمال حمدان، وامتد التأثير لكل من اقترب من المحروسة. وأعمدة شخصيتنا تُشكل سيمفونية واحدة متناغمة  كما وصفها المفكر الكبير ميلاد حنا فى كتابه الرائع "الأعمدة السبعة للشخصية المصرية"، رقائق من الحضارات تراكمت عبر الأزمنة والعقود، تشكل منها العقد الفريد للهوية المصرية العظيمة.

ديدن المصريين الحفاظ على هويتهم، يهبون للدفاع عنها إذا ما استشعروا الخطر، يظن المعتدى أنه آمن وأن الأمر قد استتب له إلى أن يقترب من الهوية المصرية حينها يجد طوفانَ هادرًا، وماردًا جبارًا يدافع عن مصريته وهويته، يسقط عدوه أمامه مهما كانت قوته، ويصهره صهراً حتى يتبخر. المصريون قادرون دائماً على الدفاع عن هُويتهم، وسؤال الهوية إجابته على وجوههم، الأمر بسيط، المصرى صنع هويته عبر السنين بفلسفته الخاصة وتوارثها جيلاً وراء حيل.

والإجابة تبدو أكثر وضوحًا فى ثورة المصريين العظيمة فى الثلاثين من يونيو ٢٠١٣ على جماعة الإخوان الإرهابية الفاشية، التى ظنت أن بمقدروها تغيير هوية المصريين الوسطية التى نسجت عبر الزمان، وسرقة الوطن وأرضه وتاريخه والمتاجرة به وبيعه على المشاع.

استغلت الجماعة الإرهابية التخبط الذى حدث فى أعقاب يناير 2011، وظنت وظنها دائما إثم أن الأمر استتب لها، وأن مصر العظيمة وقعت فى حجرها، وفى غفلة من المصريين استولت الجماعة الآثمة على الحكم بالترهيب والتخويف والتهديد بحرق مصر، وبدأ مخططهم اللعين فى تغيير الهوية المصرية وصبغها بصبغة العنف والتشدد والتكفير والتخوين، حيث يسود مبدأ من ليس معنا فهو ضدنا، والوطن ملك لفصيل واحد يرتع فيه ويتصرف كما يشاء، يفرض ثقافته وهويته المشؤومة على جميع المصريين ومن يعترض يذهب للجحيم!.

لا تعرف الجماعة الإرهابية شيئا عن التاريخ، فهم لا يقرأون وإذا قرأوا لا يفقهون، بينهم وبين الفهم عداوة متوارثة فمبدؤهم السمع والطاعة، وصاحب هذا المبدأ لا يفهم ولا يحاول أن يتعلم، لذلك لم تُدرك الجماعة الإرهابية أن اللعب فى الهوية المصرية ومحاولة تغييرها لعب بالنار، وأن المصريين لا يصمتون أبدا أمام أى محاولة للعبث بثوابتهم ولا هويتهم. استمرأت "الإرهابية" اللعب بنار الهوية، فاشتعلت نيران المصريين غضبًا، وكانت ثورة الثلاثين من يونيو العظيمة الرد البليغ على الجماعة الفاشية، ويبقى الهتاف الأشهر "يسقط يسقط حكم المرشد" تعبيراً عن إدراك المصريين ووعيهم لطبيعة الحكم فى هذه المرحلة، وكيف كان يحاول تغيير هوية مصر إلى دولة دينية ظلامية يحكمها شخص المرشد.

طوفان بشرى هادر، ومارد جبار، خرج فى ميادين مصر مدافعاً عن هويته وشخصيته التى تشكلت عبر القرون والعصور فى ثورة عظيمة، واجهها المتطرفون بالتهديد بالقتل والحرق والسحق، ولكن إرادة المصريين كانت أقوى من ذلك وعزمهم على الدفاع عن وطنهم كان صلباً وقوياً، وزاد من قوته انحياز القائد العظيم الرئيس عبد الفتاح السيسى لمطالب الشعب وإرادته، حينها أدرك المصريون أن المؤسسة العسكرية مدرسة الوطنية العريقة ستدافع جنبًا إلى جنب معهم عن مصر وهويتها وحضارتها، ضد جماعة الظلام التى حاولت اختطاف الهوية المصرية.

ثورة 30 يونيو هى بامتياز ثورة الدفاع عن الهوية، واستعادة الوطن من بين مخالب غربان جماعات التطرف والإرهاب، ودليل راسخ ودامغ على أن المصريين لا يقبلون أبدا اختطاف وطنهم ولا تغيير هويتهم.