الجمعة 21 يونيو 2024

هوية مصر.. السبيكة التي لا تخدش


أحمد الجمال

مقالات4-6-2024 | 13:56

أحمد الجمال

ـ أقول للذين يريدون تفريق شملنا إلى مسيحيين ومسلمين، وسنة وشيعة وصوفيين: لن تستطيعوا مهما فعلتم أن تفكوا هذا المركب الحضاري العظيم
ـ لسنا بحاجة للتذكير "العلمي" بأن الارتداد بالدولة والمجتمع إلى عناصر أولية أي إلى ما قبل الدولة الوطنية؛ هو من صميم ضرب هوية الوطن في مقتل

يستمر الكلام حول هوية مصر، وهو قديم يعاد إنتاجه بين حين وآخر، وربما هي الصدفة التاريخية التي جعلت مسألة الهوية واحدة من القضايا التي يعاد طرحها بين حين وآخر.

وفي البداية من الوارد أن نعرف أن مصر تعشيقة حضارية ثقافية من نوع السهل الممتنع، حيث تداخل القديم مع الوسيط مع الحديث، وبلغة أخرى تداخل عصر الأسرات الذي درجت تسميته "الفرعوني"، وهي تسمية لا أفضلها، خاصة بعد إطلاق هتاف "الفراعنة اهمه" في مباريات الكرة، مع العصر اليوناني الروماني والحقب المسيحية ثم العصر الإسلامي بحقبِه المتعددة، منذ فتح مصر قبيل منتصف القرن السابع الميلادي وإلى وقتنا هذا.

إنها تعشيقة كالأرابيسك الذي تتوسطه "المفروكة" ولا يوجد به مسمار حديد واحد، وتمتد فيه الزخارف اللانهائية بالأغصان والورود والطيور والحيوانات، كما تسطع فيه الحروف العربية بالكوفي والديواني والنسخ والرقعة، تقع العين على هذه التشكيلة فترتاح، ناقلةً الإحساس بالبساطة والعمق والعراقة إلى الذهن والوجدان، فإذا دققت العين النظر فإنها كثيرًا ما تحتاج إلى بصيرة تتجاوز وظيفة البصر، وليتجلى قول الإمام العظيم محمد عبده: "اعقل لتؤمن" و"آمن لتعقل"!.

ومن تلك التعشيقة ما يتداوله اللسان المصري من حكمة تسري على ألسنة الناس، عوامهم أكثر من خواصهم، وتنتشر الأمثلة الشعبية، وتتوزع الدعوات والتمائم، وفي هذا أزعم أنني التقطت أمورًا لم أقرأ لها تفسيرًا من قبل!

وإذا كانت الكف التي تطبع على الأبواب والأعتاب مغمسة بدم الذبائح تعود إلى الأسطورة التوراتية التي تضمنت استنزال موسى -عليه السلام- للعنات على الشعب، ومنها لعنة موت البكور -أي الابن البكر للبشر والحيوانات- وعندها سأل اليهود المصريون النبي موسى: كيف سيعرف ملاك الرب الذي سينزل بتلك اللعنة أننا مستثنون من هذه اللعنة؟ فأجابهم النبي بأن يذبحوا ذبيحة ويغمسوا أكفهم في دمائها ويطبعوا أكفهم على الأبواب والعتبات، وعندها سيميز الملاك بيوتهم!

غير أن المصريين من غير اليهود استخدموا الأصابع الخمسة في شأنٍ آخر، وهو مقاومة الحسد، فتراهم يقولون إلى الآن: "خمسة وخميسة"، ويتحدثون عن العين الحارسة "عين حورس"، وعن "العين الحاسدة" التي هي "العين المدورة"! عين إله الشر "ست".

اكتشفت -عبر استنتاجات- أوحتها لي تلك التعشيقة المصرية -أن "الخمسة" هي الأسر المقدسة التي زارت مصر، وهي: أسرة إبراهيم الخليل عليه السلام عندما جاء لمصر بصحبة زوجته سارة، ثم أسرة النبي يعقوب الذي جاء لزيارة ابنه يوسف، ثم أسرة موسى عليه السلام التي سكنت مصر، ثم أسرة السيد المسيح خلال الزيارة التاريخية المعروفة، ثم أسرة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- التي لجأت لمصر طلبًا للأمان والاطمئنان عقب المجزرة الدموية التي قتل فيها سيدنا الحسين وأصحابه وبعض أبنائه!

ثم إن هناك خمسة أخرى كاملة، وهم: النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- والإمام علي، والسيدة فاطمة الزهراء، والحسن، والحسين. أما "الخميسة"، وهي خمسة غير كاملة أو مصغر خمسة، فهي الأسرة المقدسة، السيدة مريم العذراء، والسيد المسيح له المجد، ويوسف النجار، وسالومي.

تلك هي "الخمسة والخميسة" التي يرفعها المصريون في وجه الحاسد وفي مواجهة الشر، فإذا أضفنا لذلك بعض رسوم الوشم التي دأب المصريون في الصعيد وفي بحري على رسمها عند سوالفهم أو بالقرب من عيونهم على جانبي الرأس، وفيها ثلاثة خطوط (ااا)، ومنها الطائر الذي نتندر فنقول عندما يحاول أحدهم اللعب بأذهاننا وخبرتنا: "العصافير طارت خلاص"، فإن الخطوط الثلاثة ترمز لأوزوريس وإيزيس وحورس أو للثالوث المسيحي الأب والابن والروح القدس! أما الطائر فهو حورس الذي يصور على هيئة صقر، ومن ثم دائمًا ما يقال: "العين عليها حارس"!

ومن هذا الكثير حدث ولا حرج، ولذلك أقول للذين يريدون تفريق شملنا إلى مسيحيين ومسلمين، وسنة وشيعة وصوفيين، وداخل كل فئة هناك تقسيمات فرعية: لن تستطيعوا مهما فعلتم أن تفكوا هذا المركب الحضاري العظيم، ليس فقط لأنه بحكم تركيبته وتماسكه وعراقته صار عبر القرون سبيكة شديدة التجانس والتماسك والصلابة ولكن أيضًا لأنه كلما تهدد واقتربت منه معاول التفتيت والتفكيك خرج المصريون شعبًا وجيشًا للذود عنه، وهذا ما جرى في يونيو 2013 حيث كانت الأوضاع في المنطقة قد أوغلت في التردي باتجاه هدم الدول الوطنية باستخدام تكتيك التفتيت الديني والطائفي والمذهبي والفكري والثقافي ومعه التفكيك الاجتماعي والجهوي والعرقي، وهي كلها من عناصر ما قبل الدولة الوطنية، ومن يقرأ التطورات منذ اختراق الإخوان المسلمين لصفوف ثورة يناير واحتلالهم لبعض المواقع التحريضية في ميدان التحرير، ثم دخول السلفيين على الخط بكل فرقهم، وصولًا إلى احتلال الإخوان للقصر الجمهوري حيث صار الرئيس منهم وشكلوا البرلمان والوزارة، ومضت البلاد في طريق الانقسام الرأسي والأفقي على قاعدة من الفرز الديني والطائفي والفكري والسياسي، ولكن الوطن الذي قام أساسًا وصنع تاريخه بتمسكه بدولته الوطنية وسلطتها المركزية وبذوبان عناصر تكوينه مع بعضها البعض دفع بقواته المسلحة لتناشد الحكم آنذاك بالعمل وفق خطة محددة لمنع هذه التناقضات، ولم يستجيب الإخوان، الأمر الذي دفع بالحشود لتخرج مرة ثانية وبالملايين لتحول دون سقوط الوطن ودولته، ولتحول دون نجاح مخطط ومؤامرة التفتيت والتفكيك التي فعلت فعلها في دول أخرى بالمنطقة، وما زالت تلك الدول -إن بقيت دولًا- غارقة في تداعيات تنفيذ هذا المخطط.

ثم إننا لسنا بحاجة للتذكير "العلمي" بأن الارتداد بالدولة والمجتمع إلى عناصر أولية أي إلى ما قبل الدولة الوطنية؛ هو من صميم ضرب هوية الوطن في مقتل، لأنها في شكلها ومضمونها عبارة عن محصلة لذوبان واندماج وتجانس تلك العناصر من خلال تفاعل المعطيات الجغرافية والتراكمات التاريخية والوجدانية والفلكلورية، حتى أضحت كما أسلفت سبيكة شديدة التماسك والتجانس والصلابة، وكان دور القوات المسلحة ومعها الجموع الشعبية والقوى الوطنية والمؤسسات الرئيسية -كالأزهر والكنيسة- هو الحفاظ على السبيكة سليمة وحية.

ولذلك لم تتوقف المؤامرة بل استمرت بالإرهاب المتأسلم، الذي تفجرت بؤره الصديدية في أطراف مصر شرقًا وغربًا وجنوبًا، بل وصل إلى العمق واشتبكت القوات المسلحة والشرطة مع ذلك الإرهاب وسقط عشرات الشهداء من الجيش والشرطة وهيئات مدنية أخرى ومن المواطنين المسالمين، وكانت النتيجة أن الباطل قد تم محقه وانتصر الحق ومضت مصر بيد تقاتل وتحمل السلاح ويد تبني وتؤسس لدولة مدنية حديثة.. فتحية لمن صنعوا انتصار الأمة في يونيو.