يعدّ الشاعر أحمد رامي، واحدًا من أبرز شعراء مصر في القرن العشرين، شاعر مغرم، مرهف المشاعر، كما وصفته أم كلثوم، فهو مزيج روحي من المشاعر الملهمة، والثورة المكبوتة بعمق، والهدوء والتفاني، وكان لها النصيب الأكبر من أشعاره حيث غنّت له أكثر من "110 قصيدة".
«يعجبني فى كل ما ينظمه رامي، ترجمته الدقيقة عن مكنونات العواطف وخلجات القلوب، وسبقه دائمًا إلى التجديد والابتكار».. بهذه الكلمات وصفت السيدة أم كلثوم الشاعر أحمد رامي في مقالة كتبتها بنفسها ونشرتها مجلة الهلال، بعددها الصادر في 1 يناير عام 1948م.
من خلال مقالتها عن عبقرية أحمد رامي الشعرية الفذة، ألقت أم كلثوم الضوء على كيفية تأثير شخصيتها في تشكيل أعمال رامي الشعرية، التي تتميز بالحس المرهف، والجمال الفائق في اللغة والمعنى.
مجموعة روحانية
قالت أم كلثوم عن أحمد رامي: هو "مجموعة روحانية من الإحساس الملهم، والثورة العميقة المكبوتة، والهدوء الرزين، مع ظرف نادر وخيال محلق، وخاطر سريع، وإخلاص لذات الإخلاص ذلك هو «رامي» شاعر الشباب، والفنان الذي جدد شباب الأغاني المصرية، وخرج بها من الأفق الضيق المحدود الذي كانت تضطرب حائرة فيه، إلى آفاق فسيحة عديدة تسرح فيها وتمرح وتحلق، وتغوص إلى أعماق النفوس، وتثير شتي الأحاسيس".
عرفته قبل أن أره
أوضحت أم كلثوم: عرفته قبل أن أراه، من قصيدته الرقيقة، التي يقول في مطلعها: «الصب تفضحه عيونه وتنم عن وجد شجونه.. انا تَكتـــــــَّمنا الهوى والداء أقــــــــتله دَفـينه» وكان يومئذ في باريس، مقيما بها منذ عامين، فلما أطلعني عليها أستاذي الكبير المرحوم الشيخ أبو العلا محمد، أعجبت بخفة وزنها، ورقة ألفاظها ومعانيها، فطلبت إليه أن يلحنها، وأخذت أغنيها في الحفلات العامة والخاصة، وكلما رأيت شدة الإقبال على سماعها ازداد إعجابي بها وبناظمها الموفق المجيد.
إلى أن رايته لأول مرة.. وكان قد حضر ليسمعنى في حفلة بحديقة الأزبكية عقب عودته من باريس، وجلس في الصف الأول متتبعا غنائي بعناية ملحوظة وإصغاء تام. فلما انتهت الوصلة كان في أوائل من تقدموا لتهنئتي وعرفني بنفسه فكان سروري عظيما بلقياه، وأجبت طلبه فغنيت في الوصلة التالية قصيدته المذكورة، ووفقت في أدائها توفيقا لم أظفر بمثله قبل ذاك.
وكانت تلك الحفلة كانت خاتمة الموسم بالقاهرة، وسافرت بعدها الى رأس البر، حيث بقيت هناك طوال مدة الصيف، ثم عدت لأبدأ غنائي في «تياترو البوسفور »..
غنيت قصيدته دون أن يطلبها
وهناك في الحفلة الأولى، رأيت رامي قد أخذ مكانه في الصف الأول، فسررت لرؤيته وغنيت قصيدته دون أن يطلبها»، فلما جاء أحمد رامي لتحيتي في فترة الاستراحة، بصحبة بعض اخوانه، فقالوا إنه نظم لي قصيدة جديدة مطلعها : «صوتك: هاج الشجو في مسمعي.. وأرسل المكنون من أدمعي».
وأسمعني هو أبياتا أخرى منها، ووعد بأن يزورني بعد أيام في منزلي بحي عابدين، ليقدمها لي بعد أن يتمها، وقد كان.. ومنذ ذلك الحين والود والتقدير بيننا متصلان، على إني لم أغن هذه القصيدة الجديدة، وغنت قطعة أخرى، هي أول ما نظمه باللغة الدارجة، وهي أغنية: «خايف يكون حبك ليّ شفقة عليّ.. وإنتي اللي في الدنيا ديّة ضي عينيّ».
وتوالت بعد ذلك أغنياته التي نظمها لي، وكلها حافلة بروائع الصور، وبدائع المعاني والخواطر، ودقائق الاحساس، ومناجاة الأفئدة، والتغني بالجمال.. الجمال في كل ما هو جميل، حتى ذل الهوى وتباريح الذكريات!.
يعجبني كل ما ينظمه رامي
ويعجبني في كل ما ينظمه رامي ترجمته الدقيقة الصادقة عن مكنونات العواطف وخلجات القلوب وسبقه دائما إلى التجديد والابتكار والتلوين، والافتنان في انتقاء الألفاظ والأوزان، فهو يجمل فلسفة الحب فيقول:
كيف مرت على هواك القلوب.. فتحيرت من يكون الحبيب؟
وهوى الغانيات مثل هوى الدنيا.. تلقاه تارة، وتخيب!
ومن بدائع صوره في خواطره الجديدة قوله:
من كتر شوقي سبقت عمري.. وشفت بكرة والوقت بدري
أم كلثوم تثني شخص أحمد رامي
و"رامي" بعد ذلك.. يدين في حياته بالجمال الحنون والحنان الجميل، ومن أخص صفاته: الوداعة، والابتسام على الدوام، والوفاء لذات الوفاء، ثم هو محدث ظريف، لا يخلو مجلسه من نكتة طريفة يبتدعها أو فكاهة لطيفة يرويها.
فكاهات رامي
كان مع بعض إخوانه في وليمة، فطاب له أن يأكل من "المحشي" المطبوخ بالزيت من غير لحم، تاركا ما عذاه من ألوان الطعام، فقال له أحد إخوانه: كل فراخ أحسن، وسيبك من الضولمة "الكدابة" دي..
فأجاب رامي على الفور قائلا: يا سيدي وإنت مالك، كدابة كدابة.. أنا مصدقها!..
ولا أزال أضحك كلما ذكرت الفكاهة التالية التي رواها لي منذ حين: مر رجل بباب المنزل، فناداه صبي كان يقف هناك، ورجاه أن يدق له جرس الباب لأنه لا يطوله، وسارع الرجل إلى إجابة الرجاء، وما كاد يدق له الجرس، حتى جذبه الصبي وهو يجري قائلًا: يلا نجري بقى.. قبل ما يمسكونا!.
كم لرامي من نوادر وفكاهات اهتزت لها مجالس الأُنس والسمر، وكم له من لفتات جميلة وطرائف عمرت بها الليالي الملاح