الثلاثاء 18 يونيو 2024

التكنولوجيا والهوية.. صراع أم وفاق؟


زياد عبدالتواب

مقالات5-6-2024 | 20:04

زياد عبدالتواب

● الهوية الثقافية هي ما يستقر في وجدان البشر وتشمل كل ما يتعلق بثقافة المنطقة أو البلد من إبداعات ثقافية متعددة، وتضم الآداب والفنون والموسيقى والعادات والتقاليد والتراث الشعبي
● خوارزميات الذكاء الاصطناعي وخاصة في منصات التواصل الاجتماعي متهمة بالانحياز، وذلك بكتم بعض الأصوات أو الآراء وإعلاء أصوات أو آراء أخرى 
● التصدي لمحاولات طمس الهويات يحتاج إلى تضافر حقيقي للجهود ليس على المستوى الرسمي فقط بل على مستوى مؤسسات المجتمع المدني والأسر أيضا

أتاحت التكنولوجيا الحديثة وسائل للتواصل بين البشر كما لم تتح أي وسيلة سابقة بداية من نشأة أساليب الإشارة واللغة والرسم ثم الكتابة والطباعة وانتقال الرسائل عبر الحمام الزاجل وظهور الدواب وصولا إلى الصحافة والإذاعة والتلفاز، فحتى بدايات العقد الأخير من القرن الماضي وبالرغم من التطور الحادث آنذاك وما صاحبه من الحديث عن صراع الحضارات والهويات والثقافات إلا أن هذا لا يمكن مقارنته بما حدث بعد ذلك وتحديدا بانتهاء العقد الأول من القرن الحالي.

وقبل أن نتعمق في الحديث عن تأثير التكنولوجيا على الهوية والتي ربما سنستعين ببعض من الأمثلة المرتبطة بالحالة المصرية، تجدر الإشارة إلى التعرف على مكونات الهوية الخمسة تلك التي تتداخل وتتضافر وتنصهر في بوتقة البشر لتعطيهم صبغة خاصة وخصائص مميزة وهذه المكونات هي:

 هوية الميلاد والوجود: يتم اكتساب هذا القسم من خلال الأبوين بحكم أنهما أول من يتلقفان الطفل الصغير بالرعاية والتوجيه منذ أن تتفتح عيناه على الحياة، ومنها  في أغلب الأحيان الحصول على جنسية دولة الميلاد وهو ما لا يكون متاحا في بعض الحالات القليلة وتؤثر بالطبع على هذا المكون، كأن تكون الأسرة موجودة في بلد آخر سواء بحكم العمل أو لأسباب أخرى كالهجرة وخلافه ومن الأسباب الأخرى لاختلاف بلد الميلاد عن بلد الهوية الأصلية، محاولة الأهل اكتساب جنسية أخرى -غربية في الغالب- من أجل محاولة ضمان مستقبل أفضل -من وجهة نظرهم- للمولود الجديد وللحصول على امتيازات ربما لا تكون متاحة في البلد الأصلي، وهو الإجراء الذى في الغالب يؤثر كثيرا في تشكيل هويته خاصة إذا اقترن هذا التسجيل بالبقاء في تلك الدولة الأجنبية خاصة أو على الأقل بمعرفة المولود أنه يحمل جنسية مغايرة لبلده الأصلي. أما في الأحوال العادية فإن جنسية المولود وبيئة وجوده تفرض عليه وعلى أبويه من قبله الالتزام بأنماط محددة في السلوكيات والتصرفات والمعتقدات مرتبطة بالبيئة المحيطة من أهل وأصدقاء ونظام تعليمي واجتماعي وخلافه.

هوية الدين: وذلك بما تحمله من قيم وتشريعات وأفكار وعقائد وتفصيلات خاصة بالعبادات وخلافه، وعلى الرغم من أن جميع الأديان تأتى من مشكاة واحدة وكلها تحض على فعل الخير وحسن المعاملة ومعرفة الله، فإن بعض الاختلافات العقائدية تؤثر أيضا في تشكيل الهوية، كما تؤثر الاختلافات المذهبية بين أبناء الدين الواحد أيضا، يشمل الأمر أيضا الحالات التي تكون فيها المعتقدات غير مرتبطة بالأديان أحيانا وصولا إلى الجماعات اللادينية.

هوية اللغة: هذا القسم من الهوية يرتبط إلى حد كبير بالمعارف والأفكار والمعتقدات التي يتلقاها الفرد من خلال الأعمال المختلفة المكتوبة بلغته الأصلية ومن أناس ينتمون إليها في الغالب وإلى ما يتلاقاه من تعليم ومن احتكاك بالأقران الذين يتحدثون نفس اللغة، يتشكل هذا القسم من الهوية أيضا بما تتم ترجمته إلى تلك اللغة من أعمال أخرى، وهو ما يخضع لاعتبارات كثيرة في اختيار تلك الأعمال ربما يكون منها اعتبارات مرتبطة بالأقسام السابق الإشارة إليها من الهوية أيضا أو ما يرغب المترجمون إلى نشره من خلال اختياراتهم.

هوية التاريخ: ويقصد بالتاريخ هنا الأحداث التاريخية التي مرت على البلد أو المنطقة التي يعيش فيها الإنسان، وتشمل الأحداث التاريخية المهمة والمصيرية التي تشكل جزءا كبيرا من الشعور بالعزة والفخر أو الانكسار والخزي، وتؤثر أيضا في خلفية علاقته بالأفراد من جنسيات أخرى قد تكون تداخلت بلدانهم بصورة أو بأخرى في بعض من تلك الأحداث التاريخية سواء بالسلب أم بالإيجاب. وهنا لا يمكن أيضا أن نغفل تأثير المكان وجغرافيته في الأحداث التاريخية وفى تشكيل الهوية الإنسانية أيضا، ومن الأمثلة الواضحة لذلك على دولة بحجم مصر ما جسَّده الدكتور ميلاد حنا في كتابه الرائع "الأعمدة السبعة للشخصية المصرية" والذى يشير فيه إلى التأثيرات المكونة للشخصية ارتباطا بالأحداث التاريخية وتعاقب الأمم بداية من الحقبة الفرعونية، واليونانية، والرومانية، والعصر القبطي والإسلامي العربي، بالإضافة إلى البعد المرتبط بالمكان المشاطئ للبحر الأبيض المتوسط أو البعد الإفريقي.

 الهوية الثقافية: وتشمل كل ما هو متعلق بثقافة المنطقة أو البلد من إبداعات ثقافية متعددة، وتضم الآداب والفنون والموسيقى والعادات والتقاليد والتراث الشعبي، وهي التي يمكن أن نعدَّها انعكاسا للعناصر السابقة بصورة أو بأخرى تأثرا بها وتأثيرا في متلقيها، وهنا نجد أن المتلقي قد يكون منتميا إلى نفس الهوية أو مطلعا عليها فقط وفي الحقيقة أن الهوية الثقافية هي ما يستقر في وجدان البشر ولذلك فإن بعض القراءات ينظر إلى الهوية على أنها الهوية الثقافية فقط دون أن يضع في الاعتبارات العناصر الأخرى سواء جهلا بها أو على اعتبار انعكاسها في ثقافة الفرد كما سبق الإشارة.

الهوية عبر العصور...نظرة سريعة

استمرت المعارف في الانتقال ببطء شديد بين مناطق العالم المختلفة وحتى داخل المنطقة الواحدة نتيجة صعوبة الإنتاج والتوزي، فكم كان من الوقت يتم استغراقه في نسخ كتاب ثم نقله من منطقة لأخرى وحتى بعد اختراع آلة الطباعة بواسطة يوهان جوتنبرج استمر انتقال المعارف والانفتاح على الثقافات الأخرى محدودا نتيجة محدودية وسائل الاتصال وهو ما استمر حتى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين حينما استطاع الإنسان تطوير وسائل النقل وظهور العربات والطائرات العادية ثم النفاثة وما بعد ذلك من وسائل تعتمد على الكهرباء كالبرق والأثير.

ولذلك فإن أحد أهم الوسائل القديمة وأكثرها فاعلية لنقل الثقافات وطمس بعضها أيضا كان يتم من خلال الاحتلال العسكري والأمثلة على ذلك كثيرة منها ما حدث إبان الحقبة الفرعونية أو خلال اجتياح المغول للشرق أو الإمبراطورية الرومانية وصولا إلى الاحتلال في العصر الحديث مثل الاحتلال الفرنسي أو البريطاني، حيث كان المحتل يقوم بفرض ثقافته ولغته وعاداته وتقاليده وفى نفس الوقت كان يقوم بمحاولات لطمس الثقافات المحلية والتقليل من شأنها وقيمتها، واستطاع القيام بذلك من خلال مستشرقين قاموا بدراستها أو من خلال معاونين من البلدان ذاتها وهو ما رصدناه في فترات عدة منها اقتناع العرب بالقوة الهائلة للمغول أو ما تركه المحتل في نفسية الشعوب من عقدة الخواجة، تلك العقدة التي مازلنا نتعرض لبعض من آثارها حتى الآن، انظر على سبيل المثال لنظرة الشخص البسيط للمواطن الغربي وكيف يعتبره شخصا نبيلا وذكيا ومتفوقا وهو ما حاول بعض غلاة الغرب تأصيل الفكرة من خلال بعض الأبحاث العلمية التي تتحدث عن تفوق أجناس بعينها نتيجة تميز الجينات التي يحملونها وفي نفس الوقت يمكن النظر إلى استعمالنا ونظرتنا إلى تعبير "بلدى" وما تحمله الكلمة من رداءة وضعف وأحيانا عار.
عقدان فارقان
يمكن أن ننظر إلى العقد الأخير من القرن العشرين وإلى العقد الأول من الألفية الجديدة إلى أنهما حملا ثورة جديدة غيرت وجه العالم بصورة غير مسبوقة ألا وهى ثورة التكنولوجيا والتي وصلت إلى ذروتها بانتشار شبكة الإنترنت وزيادة سرعات شبكات المعلومات وشبكات الهواتف المحمولة والذكية وزيادة أعداد التطبيقات الإلكترونية وعلى رأسها منصات التواصل الاجتماعي والتي سمحت ولأول مرة للجميع لأن يكون مرسلا ومستقبلا في نفس الوقت خلافا للشكل التقليدي للاتصال فيما سبق حينما كان المستخدم مجرد متلقى لما تبثه عليه وسائل الإعلام المختلفة ولم يكن لديه أي اختيار سوى التنقل من وسيلة لأخرى.
وللتدليل على حجم هذا التحول يكفى أن نشير إلى أن إجمالي عدد مستخدمي شبكة الإنترنت وصل إلى 5.35 مليار مستخدم من أصل 8 مليار إنسان يعيشون على وجه الأرض يملكون حوالى نفس العدد من حسابات شبكات التواصل الاجتماعي ويستخدمون في المتوسط 6 تطبيقات ويستغرقون في المتوسط أيضا حوالى ساعتين ونصف يوميا في مطالعتها وذلك بحسب التقرير الأخير الصادر عن وكالة We Are Social الأمريكية بعنوان Digital 2024 الصادر هذا العام والذى يوضح أيضا أن مستخدمي شبكة الإنترنت في مصر وصلوا إلى 82 مليون مستخدم منهم 45.4 مليون مستخدم لمنصات التواصل الاجتماعي.
يشير التقرير أيضا إلى أن متوسط استخدام شبكة الإنترنت يقترب من الثمان ساعات -7:55- بزيادة 3% عن العام الماضى كما أن أهم الأنشطة التي يقومون بها يمكن تقسيمها كما يلى:
1-3 ساعات و20 دقيقة لمشاهدة المواد التليفزيونية سواء البث التقليدي أو الرقمي.
2- ساعتان و40 دقيقة لشبكات التواصل الاجتماعي.
3- ساعتان و12 دقيقة لمطالعة الأخبار بصورتها الورقية والرقمية.
4-ساعة و14 دقيقة للاستماع إلى الموسيقى عبر الإنترنت.
5-52 دقيقة للاستماع إلى الراديو التقليدي.
6- ساعة و10 دقائق للاستماع إلى البودكاست.
7-ساعة و32 دقيقة للألعاب الإلكترونية.
وأن أكثر ثلاثة مواقع في الاستخدام هي محرك البحث جوجل ثم منصة الفيسبوك يليها اليوتيوب.
الهوية المصرية إلى أين؟
التقرير السابق الإشارة إليه وغيره من التقارير تشير إلى أن استخدام الإنترنت وتطبيقاتها المختلفة لم تعد حكرا عن فئة دون الأخرى ولا مستوى تعليمي دون الآخر فالتقنيات الحديثة أتاحت استخدام تلك الأدوات من خلال الأوامر الصوتية Voice Commands دون الحاجة إلى معرفة القراءة والكتابة حيث تأتى نتائج البحث بصورة صوتية أيضا، هذا بالإضافة إلى وجود أدوات كثيرة لكسر حاجز اللغة منها الترجمة الفورية للمحتوى المكتوب أو المسموع وهى أدوات تطورت مؤخرا بصورة ممتازة خاصة بعد الاستعانة بتقنيات الذكاء الاصطناعي في تطويرها.
وعندما نتحدث عن الذكاء الاصطناعي فلا يمكن أن نغفل ما أحدثته الإصدارات الأخيرة من النماذج اللغوية الكبيرة Large Language Models (LLMs)  مثل تطبيق تشات جى بى تى ChatGPT الذى جعل البحث على شبكة الإنترنت والوصول إلى المعلومات وتنقيحها وتحليلها وإعادة إخراجها في سياق جديد من الأمور البسيطة ولكن ومع تلك السهولة نجد أن تلك التطبيقات لا تخلو من اتهامات ترتبط ببعض الانحيازيات الثقافية أو الأيديولوجية أو حتى العرقية نتيجة سيطرة أصحابها على البيانات المستخدمة وعلى خوارزميات التعلم وإصدار المحتوى.

من الاتهامات الواضحة أيضا في موضوع الانحيازات والتوجيه ما تقوم به خوارزميات الذكاء الاصطناعي وخاصة في منصات التواصل الاجتماعي من كتم لبعض الأصوات أو الآراء وإعلاء من أصوات أو آراء أخرى ولا أدل على ذلك مما حدث بعد طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر الماضي.

يضاف إلى ما سبق وربما يسبقه في الترتيب الزمنى وفى الأهمية أيضا ما يحدث جراء هذا الانفتاح غير المنضبط على ثقافات أخرى وتحديدا الغرب وقدرتهم على تمرير الرسائل في صورة جذابة Sugar Coating أدت بالكثير من المستخدمين ليس في مصر فقط ولكن في عدد آخر من القوميات إلى التأثر بها والتخلي ولو جزئيا عن ما يتمتعون به ويتسمون به من هويات محلية وهو ما أثر كثيرا على قيم الولاء والانتماء وكذا أيضا على قدرة الأجيال الجديدة على تشرب ثقافاتهم الأصلية ومن ثم البناء عليها وتطويرها وهو ما نلمسه في عدد كبير من المجالات منها المجال الديني وانتشار الإلحاد أو على مستوى اجتماعي كالارتباط بالأعياد القومية والمحلية وإفساح المجال لمناسبات غربية كالفالانتين مثلا ليأخذ مساحة لم تكن موجودة قبل انتشار تلك التقنيات.

والحقيقة أن هذه التخوفات وهذه التغيرات ليست خاصة بالمجتمع المصري فقط بل هي تمس كل مجتمع ذو ثقافة خاصة في مواجهة ثقافة العولمة الجديدة والتي تسعى لتنميط البشر وصولا إلى المواطن العالمي أو الدولي International Citizen الذى يقل عنده الارتباط بهويته الأصلية ويصبح منتميا إلى الهوية العالمية الجديدة وهى قضية تحتاج إلى الانتباه والعمل على الوصول إلى صيغة توافقية بين ما يعرض وما هو موجود بالفعل لدى كل مجتمع فالمنع غير مقبول ولن يجدى كما أن الانفتاح غير المسؤول سيؤدى مع مرور الوقت إلى طمس تلك الهويات ولذلك فإن التصدي لهذا الأمر يحتاج إلى تضافر حقيقي للجهود ليس على المستوى الرسمي فقط كمؤسسات الدولة الثقافية والتعليمية والدينية والإعلامية فحسب بل على مستوى مؤسسات المجتمع المدني وبالطبع على مستوى الأسر أيضا من خلال تنمية الوعى والتواجد بصورة جذابة وفاعلة على نفس المنصات وبنفس الأساليب التي تجذب المستخدمين حاليا وهو أمر يحتاج إلى تفصيل.