تنشر بوابة دار الهلال، ضمن باب "إبداعات" قصيدة بعنوان " ذات وجع نحر الحبل السر " للكاتبة سحر الحسيني، وذلك إيمانا من المؤسسة بقيمة الأدب والثقافة ولدعم المواهب الأدبية الشابة وفتح نافذة حرة أمامهم لنشر إبداعاتهم.
نص القصة:
لعلها مصادفة عجيبة أن يحمل أقصر شهور السنة، أطول مساحات الحزن ووجع الذكريات، بين طيات أوراق نتيجته فقد ولدت غادة، وتوفيت أيضا منذ ثلاثة أعوام وتحديدا غرة الشهر ذاته، نظرت غادة إلى ابنتها منى هامسة بألم:
-حبيبتي أشعر بألم في أسفل ظهري يمتد لنهايات قدمي .
- لنذهب إلى طبيبك غاليتي ولنرى .
تأبطت غادة ذراع مني بطفولتها المعتادة وكل أمومة منى وحنوها، شديدة الجمال هي، محتفظة بروح طفلة، لا زالت تعبث وتلهو، في حجرة باردة جدا كقبو لم يفتح منذ سنوات جلست منى بجوار غادة بانتظار إجراء مسح ذري أشار به الطبيب قبل اللقاء، بتمتمات خافتة ورافضة تتمتم غادة بصوت بالكاد تسمعه منى "ماكان الأمر ليستدعي كل هذا! طبيب مضخم للأمر وابنة مريضة بالقلق على صحتي!"
بصمت ودود تحكم منى ضمة ذراعيها على كتف أمها مبتسمة، "منذ متي والبنات الحلوات لهن رأي؟" تخفي الأم ابتسامتها الطيبة مؤكدة لمنى إصرارها على اعتراضها على تضخيم الأمر وتصعيده والانتظار الممل في هذا المكان المقبض، بضحكتها الحلوة وطيب حديثها الذي يسبقها دوما تلج غرفة طبيبها الودود معلنة شجبها واعتراضها.
- لم يكن الأمر ليستدعي، فقط بعض الآلام الخفيفة وبمسكن ومضاد للالتهابات ستنتهي المسألة .
- الطبيب يداعبها مبتسما، الأمر لايخلو من حجة لنرى هذا الوجه الصبوح ونحظي بالدعوات الطيبة .
ممسكا بنتائج المسح الذري والتحاليل تبدلت ملامحه للحظات لا ينتبه إليها إلا قلب ابنة عاشقة .
- لا لا، أمورنا طيبة الحمد لله، وعند حضرتك كل الحق الأمر بسيط فعلا .
انتفض قلب منى سريعا واكتظ عقلها بأفكار مرعبة، استعاذت منى من وساوس صدرها ونفسها، والتقطت كف أمها الدافئ الحنون تقبله لتحثها على النهوض معها لخارج غرفة الكشف .
لم يلقبها أحد من أولادها أو أحفادها بأمي أو جدتي، اعتاد الجميع تدليلها، ومن يستحق الدلال سواها؟! وهي حقيقةً لم تدخر جهدا في منح منى لقب "أمها" منذ سنوات ليست بالقليلة، فكانت جملتها الشهيرة "منى ليست ابنتي فحسب، هي أمي بكل طاقات حنانها واهتمامها".. قبل أن يصلا إلي باب الخروج نادى الطبيب منى بصوت لا يخلو من الشفقة.
-لم تأخذي ورقة التعليمات للدواء والطعام بعد !حسنا فلتذهبي بالوالدة إلى حجرة الانتظار لتستريح ثم عودي مرة أخري.
سقطت الروح في كف منى وتهاوى قلبها بين الضلوع، تمنت لو توقف الزمن عند لحظة خروجها ولم تدخل لهذة الغرفة مرة ثانية .
-لا أصدق أن ما أطالعه أمامي من نتائج فحوصات هو لهذه السيدة التي كانت تجلس أمامي منذ برهة !في حالتها الآن المفترض أنها تعاني من آلام مبرحة تحملها للجوء إلى مسكنات قوية والإقامة بمشفى مختص !والله إنها لمعجزة أن تتحرك وتتكلم، يؤسفني أن أخبرك ابنتي أن الوضع أسوأ مما نظن، وأسأل الله تعالى أن يعينها ويلطف بها الشهر المتبقي لها على قيد الحياة! تقف منى فى مواجهته تماما، في محاولة يائسة لتلقي تلك الرصاصات القاتلة دون أن يتهاوى جسدها أمامه، لتصرخ بصوت مرتجف: ماذا تقول؟! شهر؟! مسكنات؟! مشفى؟! تتحدث عن أمي؟! أكيد هناك خطأ ما دكتورنا العزيز، هي من كانت هنا تجلس ضاحكة على هذا المقعد وتحركت لتسبقني إلى حجرة الإنتظار! من ستموت بعد شهر؟!
لم ينبس الطبيب ببنت شفة قام بهدوء من مكانه ليقف في مواجهتها مربتا على كتفها ومعطيا إياها ورقة خط عليها بعض أنواع المسكنات عند الحاجة، وترشيحه لطبيب علاج تلطيفي فقط، في ذعر شديد ترفع منى عينيها من الورقة ناظرة إليه: أنا لا أفهم شيء؟! تلطيفي ومسكنات؟! حضرتك تقصد أمي أنا؟!
- ابنتي الغالية هي فقط لاتحتاج سوى اللطف والإبتسامة والتخفيف .
بخطوات من تحمل ثقل الكون بقلبها سارت منى إلى حبيبة القلب وصاحبة العمر كل العمر، وبابتسامة لا يمكن الجزم بتصنيفها كابتسامة أم دمعة ملتهبة، بالقرب من غادة لاح صوت منى ابنتها وكأنه قادم سرادق عزاء مدعيا المرح...
- ليتني استمعت إليكٖ ولم نأت.. حقا لم نكن بحاجة إلى كل هذا العناء، حمدً لله على سلامتك يا غالية .
كانت دائما تفهم وتعي الأشياء بتفاصيلها ولكنها طالما ادعت العكس لتبقي الحياة بمباهجها مرددة كلما اقتربنا احترقنا، كان الجميع يرتب للاحتفال بعيد ميلادها في منتصف فبراير الحزين الذي بدأ بانتهاء.
لم تتدهور صحة غادة، بل بقي الحال كما هو عليه لدرجة ألقت الشك في قلب من حولها أن ماحدث لم يكن سوى أضغاث أحلام، كانت جميلة وكان يوما لا ينسى اكتظ منزلها العامر الذي لم يغادره زواره يوما إلا معها لتشييع جثمانها الطاهر الطيب إلى مثواها الأخير .
ما بين ضحكات مريرة مرارة الصبر، ومداعبات للحبيبة، وفتح هدايا، وقلوب تحترق، مضى اليوم! أحقا بعد أيام لن أراها ؟! همست منى محدثة نفسها، كيف لملاك الرحمة أن يحمل ميراث القسوة؟ كيف استطاع أن يخبرني أنه ليس أمامي سوى أيام ولن أراها للأبد؟ لم أكن لأسكن في غير ذلك الكهف الآمن مابين كتفيها، أين سأذهب أذن؟ أخبرني أنها سترحل ولم يخبرني أين سأضع رحالي وسنوات عمري الباقية !يراني الجميع قوية متماسكة دوما، قادرة علي اتخاذ القرارات وتخطي كل المصاعب، ولم يدرك أحد من أين كانت لي كل هذه القوة، ومن أي مصدر طاقة كنت أشحذ عزيمتي! فلم يعلم أحد أنه لازال متصلا !نعم لازال متصلا، ذلك الحبل السري الذي جمع بيننا منذ كنت غيبا في عالم الغيب، لم تستطيع طبيبة النساء فصله، نعم لم أفصل عنها يوما.. فقط خرج جسدي الضئيل من رحمها إلى الحياة ولكنه ظل بيننا دوما، ذلك الحبل السري أستمد منه ما يعينني على خضوب الحياة وما يجعلني بكل ما أوتيت من ضعف قوية .
مسرعة هي الأيام كمشاهد متتالية في عمل سينمائي مرعب، ومع آخر ورقة من أوراق شهر فبراير بتلك النتيجة المهترئة ألما، يوم الثامن والعشرين، كانت النهاية، كان فبراير بسيط وكانت سنة بسيطة سهلة كخروج روحها الطيبة بعدما نطقت مرارا بالشهادتين، ومع آذان المغرب.. ذبح الحبل السري.. وأغلق مابين كتفيها في وجه منى وتم فطامي .
يقولون في الموروثات الشعبية: أول أحزان الإنسان الفطام، الليلة تجمعت مرارات العالم بأكمله وأتراحه في قلب منى.
نحر الحبل السري.. ثم انتزعت من قلب أمها، من بيتها الذي لم تعرف سواه طيلة عمرها لتصير بلا مأوى، فطمت منى ورحلت فقيدة الروح والقلب ! ساعات بسيطة من توديع منى لأمها ورجوعها إلى منزلها، وانفض الجمع الزائف فبعد قبلتك وقلب أمك لا تراهن، أطفات منى أنوار منزلها لتتجه إلى غرفتها وحيدة متعبة لا تجد من يسمعها سواها، سوى أمها غادة التي طالما استمعت واستمعت لها بلا ضجر ولا تأفف، فقررت منى أن تكتب أولى رسائلها إلى من تستحق رثاء الكون، وكل عبراته، كيف أخبرك يا أمي أنني عندما صليت عليك، لم أشعر حينها بالوقت، كنتُ أريد أن يتوقف بي الزمن، كانت صلاة أشبه بالعناق، كنت أود لو أنني أسمع صوتك لآخر مرة، وأن أقبل يدك طويلا طويلا.
وأن أضمك لصدري فلا أتركك تذهبي وحيدة، كيف أخبرك أنني ما زلت أسمع صوتك كل يوم، وأراك كل يوم، وأفتقدك الآن أكثر من أي يوم، سيظل كل يوم هو حزن يشبه حزن تلك الأمسية.. أمسية الفقد.. لقد كنت أكبر من أن تنسى أكبر من أن تُطوى عليك الصحف ..في مراسم الوداع كانت هديتك ملح القلب وصمته.. والكثير الكثير من فراغ الروح .