الأحد 29 سبتمبر 2024

قصص دار الهلال النادرة.. «الحزن يميل للممازحة» قصة قصيرة لـ محمد مستجاب

الحزن يميل للممازحة قصة قصيرة لـ محمد مستجاب

كنوزنا26-6-2024 | 14:58

بيمن خليل

يذخر أرشيف مؤسسة دار الهلال منذ تأسيسها عام 1892م، بالعديد من القصص النادرة، والكنوز الأدبية، المكتوبة على أيدي كتّابًا بارزين، وبعد مرور عقود، قررت بوابة دار الهلال، إعادة نشر هذه التحف القصصية النادرة من جديد، والتجول في عوالم سردية مختلفة ومتنوعة، من خلال رحلة استكشافية في أرشيف دار الهلال العريق.

نشرت دار الهلال في عددها الصادر في 1  فبراير 1998، قصة قصيرة بعنوان "الحزن يميل للممازحة"، للكاتب والقاص محمد مستجاب، والذي توفى في 26 يونيو عام 2005، والقصة ضمن مجموعة قصصية تحمل نفس الاسم، وتدور في إطار من الإثارة والمغامرة حول شخص يعاني من تعقيدات عائلية ونفسية بعد وفاة أمه، ولكنه يتلقى خطابا يحدثه عن سر خطير يسعى لاكتشافه.

نص القصة

يا أيها الحزن البدين تحية، بدين ؟؟ نعم: بدين مقابل الحزن الثقيل، أسوأ مدخل لقصة قصيرة في العالم والغيوم تتقافز في حلق الصباح مبتسمة كأنها تود أن توزع الظلام على الجميع، وهناك - في الأفق البعيد - إشارة واضحة لأفراح مبكرة أناس يعلقون الأعلام كي ترفرف تحريكا للتفاؤل، فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب ودعك من العمل اليوم اقرأ ما أنا بقارئ، اخرج إلى الآفاق الممتدة تناوشك الرغبة في الصياعة أو الصعلكة، ثم يكون الغداء لحمة الرأس مع قليل من البراندي، ماذا لو داهمتني الآن الملعونة التي يطاردني جسدها البدين، حاربت وانهزمت، ثم حاربت وحوصرت، ثم حاربت وانتصرت بعدها أصبح الجسد البدين حلما ضاغطا، كارثة الكوارث أن تستحضر بدنا لأنثى لا تدري بك، وأكبر من كارثة الكوارث هروب النجوم تحت مطاردة الجراد، ثم ينبعج الأفق عن كف ثقيلة تدق الباب وقبل أن أفتح الباب مضطربا غاضبا، انزلقت الرسالة على البلاط وأمعنت في الرسالة عاجزا عن الانحناء لالتقطها، تراجعت للخلف ثم - آخر الأمر - انحنيت..

-1-

إذا كنتم عاجزين عن التصرف فاسمحوا لنا بالتصرف، الله يخرب بيوتكم ويدمر رسائلكم، كانت الرسالة الأولى منذ وقت طويل، أمك مالها؟؟، أمك تفعل ما لا يصح، ذهبت - يومها - إلى السينما، أمك تفعل.. شاركت في جنازة لا أعرف لها صاحبا، ثم انهمكت في حلقة لهو حول قرد نشط وذكي، لم أكن راغبا في العودة إلى البيت، كل الأصدقاء المتناثرين في العاصمة هربوا من مجال رغبتي في اللجوء إليهم، تقافزت في أوتوبيسات وولجت شوارع، بعدها فوجئت بنفسي أمام البيت الذي أسكن فيه هل أعود إلى كهفي؟؟. لا أعرف - حتى اليوم - عدد الرسائل التي حاصرتني ولا أعرف - حتى اليوم - لماذا أنا بالذات الذي توجهوا إليه برسائلهم: أمك تفعل ما لا يصح، الأخوة موزعون على جسد الوطن البدين قادرون على الفعل والبراءة من الفعل الأكبر لايزال ضابط شرطة وأولاده موزعون في عواصم العالم الثاني مدير عدة مدارس تنتشي على أرض واسعة في الضاحية القريبة، أختي الكبرى أرملة لقاضٍ افترسه ذئب وحصلت على تعويض ساعدها على اللحاق بزوج آخر، الأكبر مني مباشرة تاجر أوراق الصحف الراكدة، يعرف الطريق إلى تحقيق مآربه دون ضجيج، كانت الرسالة الثالثة تفحّ بالتأنيب: هل يصح أن تتركوا أمكم تفضحنا مع كلب أه: لماذا أنا بالذات؟؟ وأخي الأصغر يدير مكتب شيخ الإسلام الكائن في العاصمة القديمة، هناك أخ آخر يعمل مديرا ومستشارا وتاجرا ومهندسا وخبيرا في الصباح، لماذا أنا بالذات؟؟ لماذا يا أمي لماذا ؟؟ لو أني عرفته - هذا الذي استدرجها - لأكلته بأسناني، وهناك ابن لأخي الأوسط يكتب الأناشيد والأغنيات للإذاعة والتليفزيون، كيف يتسنى لي أن أجمع كل هذا الحشد حول مائدة حيث أضع أمامهم تلك الخطابات؟؟ وأمي التي في خاطري وفي فمي؟؟ ماذا يمكنني أن أفعل؟ صفيحة بنزين؟؟ عدة طلقات من الرصاص؟؟ أخنقها بالكوفية؟؟ أسحبها من شعرها حتى عنان الغيوم وأتركها تسقط وسط دائرة أخوتي؟؟ ماذا أقول لأدمع سفحتها أشواقي إليك؟ لاحظ أن قصورا يشوب هذا البيت في: سفحتها إليك، امتداد ألف الضمير مبتور، ولو كان الضمير يقظا ومشبعا لما كان هذا الذي أنا فيه الآن، السم أفضل في أول لقمة أقدمها لها، وعزمت مرارا أن أسافر من العاصمة متوجها إليها، إلى قريتنا إلى أمي، سبع أو ثماني رسائل وأنا ألف وأدور حول نفسي، أقرأ الجرائد وأسمع محطة لندن، ثم انغمس في مسلسلات التليفزيون، وأنحني تقديرا لرئيسي الذي يحبني ويسبغ عليّ من فضله المنتشى في استمارات صرف مقابل المأموريات الوهمية، لماذا لا تتزوج، ياعم اتركني في حالي الله يسترك اكتب لهم أن يتصرفوا معها، كيف؟؟ هو الحل الوحيد بالفعل هل أترك الآخرين يقتلونها؟ أعوذ بالله؟؟ يقتلونه ويقتلونها أفضل، وذهبت إلى أخي ثم عدت دون أن أفصح وذهبت إلى أختي، ثم عدت وريقي ناشف ثم ذهبت إلى أخي، فلم أجده، تركت له رسالة أنني في حاجة قصوى إليه، لكنه لم يهتم التقيت بأخي في الطريق واندفع كلانا يحتضن الآخر، لقد بكيت، وافترقنا على موعد لقاء، أمي العزيزة لي وطن وهي التي هناك بعيدا، بعيدا، تتثائب في ظلال سحب قديمة، وهي الحما وهي السكن، وذهبت إلى أخي ففتح موضوع عدم زواجي، قلت له أن موضوعا آخر أخطر من زواجي، لكنه أشاح بوجهه غاضبًا، لو أني أفكر بشكل منظم لقتلت هذا العدد الوفير من الإخوة قبل أن أسافرإلى أمي.

-2-

البقاء لله، في انتظارك لتشييع جنازتها، وانهمرت في النحيب والبرقية في يدي قلت في نفسي - بعد أن أفقت - تصرف بمفردك، وبالتالي فسوف يتصرف جميع أخوتك بمفردهم أيضا، وتقافزت الغيوم من النافذة رافعة عن كاهلي الأثقال، قبل ذلك أو بعد ذلك فإنها أمي، التي في خاطري وفي فمي، ولم يكن مزدحما، ولا القطار ذاته كان مزدحما، جهزت النقود لأدفع قيمة التذكرة لكن المحصل لم يحضر، ظللت مقطوع الصلة بمن يثرثرون حولي، تجولت في بطن أمي حتى ولدتني، ظللت فترة على  صدرها - بكيت فعرف الذين حولي أنني في محنة، ظللت خلال المائة كيلو متر الأولى استحلب ثدي أمي، وكلما ترجرج الثدي مع اهتزاز القطار بكيت، وكلما توقف القطار - بغتة أو بهدوء - انخلعت حلمة الثدي من فمي، وفي المائة كيلو متر التالية ظللت ألهو حول أمي، أتقافز بين الدقيق والسحب والفرن والعجين والأرانب ونيران الاشتعال، ومن كيلو متر وأخر تشكوني أمي لواحد من اخوتي، جهزت النقود كي أدفع قيمة التذكرة لكن المحصل لم يحضر، كنت غاليا على أمي مما أتاح لي فرصا عديدة لأضرب اخوتي واخترقت الحقول والقنوات والمدارس وعيادات البلهارسيا ودود البطن وبطون المقابر، وها أنذا أعيش مستورا دون ضجيج، ذات مرة اقتنيت قطة لكنها لم تلبث أن هربت فور حلول موسم التواصل، تصور؟؟ بكيت عليها، دخلت أمرأة على الخليفة هارون الرشيد لتشكو إليه عامله في الكوفة - فما وجدت الخليفة فاضطرت أن تتزوج من عامله، وهناك قصة المرأة التي أكلت ذراع زوجها، وعندما كان الغضب يشتد بأمي: لا يمكن لك أن تجد رجلا أو امرأة قادرة على المواجهة، أبي وجدي وأخوتي وأعمامي وخالاتي في كفة وأمي في كفة، المصيبة أن الخطاب الأول حين جاء يستصرخني اعتقدت أن أمي داهمت القرية كلها غضبا واعتدادا واحتدادا، فمن هذا الذي فعلها معها وضغط بحذائه على رءوس كل القبيلة في الطين؟؟ أعوذ بالله، الرحمة يا رحمن.

وعدت أتحسس النقود لكن محصل القطار لم يحضر، وفي المائة كيلو متر الثالثة ران على القلب استسلام وهدوء، فلتذهب أمي إلى حيث يحاسبها الله، وستظل الكيلو مترات الثلاثمائة عازلا بيني وبين العمار، ارحمنا يارب كيف سيعيشون - أقصد بقية أهلي - في قرية يبدأ الشرف نموه فيها من داخل الأفكار المجردة، فما بالك والكارثة فعل، فعل، نعم فعل يتغلغل في حطب النار واشتعال الدهن وكحل العيون، لماذا لا يحاصر أهلي هذا الذي فعلها ويدقون رقبته ويعلقون جسده المدمم في سويقة القرية؟ هل أستطيع أن أقوم بذلك؟ أن أكون الرجل الذي يرفع رأس الجماعة من معاجن العار، التثاؤب رحمة من الله، ولابد من الإغفاء، فعدت من جديد أطمئن على نقود التذكرة، لكن المحصل لم يصل.

 -3-

كنت أعرف أن الحشود سوف تتجمع عزاء لنا، وجوه عديدة أعرفها وإن جفت أسماؤهم، لا إله إلا الله، كانت أميرة، وكانت عظيمة، وكانت خير أهل القرية جميعا، هل يقصدون بذلك النكاية والسخرية؟؟ كانت فاضلة، وكانت حكيمة، وكانت تعرف الله كدت أضحك أو أبكي، ظللت أتسأل بعيوني في عيون الحشود علِّي أعثر على ابن الكلب الواطي، أقوام قادمون من القرى المجاورة - التي كثيرا ما انتصرنا عليهم في معارك النساء والبنات والأسواق والانتخابات والامتحانات ومصادقة رجال الإدارة، بالتأكيد هم يضمرون لنا سخرية يكتمها أدب اللحظة، لكن الأمر بعد ذلك سوف يستشري، نظرت إلى السماء مباشرة وطلبت من الله أن يساعدني في معرفة هذا الوغد لن يريحني سوى أن أفرمه أو أحطم ضلوعه أو أهشم جمجمته بيد الهون، الرصاص يصلح لاصطياده فقط دون التشفي، الملعون ابن الملعون، وثار الغبار وانفجر الصراخ الملتاع وبدأ المشهد الباكي لجثمان أمي داخل الحسنية يتأرجح فوق الرقاب، واندفعت الجماهير الغفيرة تستصرخ الوداع النهائي من الواحد القهار، لم أكن أدرك - خلال هذا الغياب عن قريتي - أن يصرخوا ويلتاعوا مودعين جدتهم، فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا حدث ما حدث؟ كيف اخترق هذا الوغد كل الكوادر المحيطة بالبيت الكبير الذي تقيم فيه أمي، هل يمكن أن تكون أمي هي التي اخترقت هذه الكوادر من أبنائها وأحفادها وأهلنا كلهم، لتتواصل مع هذا الذي ألعنه دون أن أعرف من هو؟؟ العار لا يتجزأ ولا يخضع للتحليلات، وظلت الحشود تسعى حول المشهد النازف دعاء ودموعا، الرحمة يارب، وانفتح الغمام ليلتقط الدعاء ويزفه إلى أعلى، وانخفض الصراخ حينما وصلنا إلى المقبرة جلست بعيدا وحولي أفراد من قدماء الأصدقاء ظلوا بريقون فوق رأسي المواساة، كان واضحا - كما تعودنا - أن المقبرة فتحت ونظفت وتم إعدادها من وقت مبكر لاستقبال جدت أمي، فقد انتهى الدفن بسرعة، وشال طالبوا الغفران الشيالة - أو النقالة الحسنية - أو النقالة مع  الأغطية الخارجية - وهرعوا بها عائدين إلى القرية.. ظللت أبكي، يكون مؤلما أن تعرف أنني - حين عدت - نمت بعمق في حجرتي القديمة بالبيت الكبير، وأنني حاولت أن أبكي أو أسترحم - بشكل حار وحقیقي - ففشلت، داهمتني رؤى غريبة كانت أمي - فيها - تعجن وتخبز، وكانت أمي تطبخ وتغسل، وكانت أمي تضربني كلما تعديت حدودي في اللهو والمرح والعدوان على أي أحد، وكانت أمي تأمر وتنهر - حتى أبي، لماذا لم أتذكر أبي؟؟ لماذا ظل يتفادى ذاكرتي؟؟ حتى في الأحلام ظل بعيدا، لماذا لا يقوم الآن من مدفنه ويأخذ دوره في الانتقام؟ هل يمكن أن ينتقم وهو ميت؟؟ أبي لم يمت، ولو مزقوا جسده ووزعوه على أركان الأرض، فإنه يستطيع أن يتجمع وينتقم، نمت مرة أخرى حتى بدأت الكلوبات والمصابيح تلقي بأضوائها وأصواتها في كل مكان، نظفت نفسي وأشعلت سيجارة، وخرجت إلى المأتم، الظلام حل على المكان والأنوار أزاحته إلى الخلف، أود أن أسافر، أن أعود إلى عملي، كل شيء يقف ضدي مسنونا حادا يخترق لحمي، اخوتي جلسوا في مقدمة المأتم، أو وقفوا استعدادا لاستقبال المعزين، آيات القرآن الكريم تسعى بين الجماجم حاملة الصبر والرضوخ لمشيئة الله، ظللت جالسا في مؤخرة المأتم غير راغب في تقبل العزاء، هل يعرف اخوتي ما أعرف؟؟ من هو الذي أفسد حياتي كلها؟ هذا الذي - أتصوره - يسعى آخر الليل، في هدوء حتى يصل إلى باب أمي، لا إله إلا الله، كيف يتسنى لى أن أجعله موعظة أو مقطعا في موال أو جزءا من أغنية شعبية، وإذا بلغ الرضيع لنا فطاما تخر له الجبابر ساجدينا، عليك أن ترتاح فلن يبلغ الرضيع عندنا فطاما بعد اليوم، وسوف ترتاح جباه الجبابرة من السجود، كل كلاب العالم سوف تطارد أعقابنا، كنت مولعا بالشعر، أنام بين قوافيه وأمارس العشق في ظلال أعمدته، وأبرز عضلات قدراتي تحت سقف أبياته العلنية المثيرة، فمن يدلني على هذا الذي هشم القصيدة ودمر التوازن؟ لكني - حين وصلت إلى هذه النقطة - اضطربت، ثمة عيون لرجل غريب تمعن في وجهي، كان جالسًا - القرفصاء - على الدكة، وهي جلسة غير مرغوب فيها خلال المأتم، عيونه مركزة في وجهي وكأنه يخلع من عقلي آخر نقطة ارتكاز، أشرت له بالتحية شاكرا عزاءه لكنه لم يرد، ظل سادرا، واستمرت عيونه مفتوحة، قط يتنمر، أشرت إليه متسائلا، لم تطرف رموشه، أحسست بالغضب يداهمني، لكن الاندهاش حرك الغضب جانبا، نعم؟؟ رفع رأسه قليلا وقال بصوت كالفحيح: هل تريد أن تعرفه؟؟ سألته – مع بوادر الغضب: ماذا تريد؟ قال من جديد هل تريد أن تعرفه؟؟ ظل كلانا يمعن في الآخر. قال في هدوء أصفر: إن كنت تريد أن تعرف هذا الذي.. وصمت، ثم أضاف: من عادة أمثال هذا، من عادة العشاق، كرر من جديد: من عادة العشاق الذين تموت حبيباتهم،  (وهو لا يزال ممعنا دون حياء) أن يسعوا لوداعهن وداعا خاصا، سوف يذهب صاحبك (نعم قالها هكذا: صاحبك) إلى المقبرة في السحر، بعد منتصف الليل وقبل الفجر لن يستطيع أن ينام إلا إذا قرأ الفاتحة على قبرها.. تحركت لكي أكون قريبا منه لأستسفر عن التفاصيل، كان جسدي يضطرب وعقلي يضطرب وفمي يسيل منه اللعاب لكن الرجل فك جلسة القرفصاء، وقفز من فوق الدكة، ومضى..

يا أيها الحزن البدين تحية، بدين؟؟ نعم بدين في مثل حجم العار الذي يملؤك، أسوأ نهاية لقصة قصيرة في العالم، والظلام يتقافز وسط بقع الضوء، لم يكن ثمة حل سوى الانصياع والامتثال لما في القلب، ظللت أسعى حتى وصلت إلى منطقة المقابر، ها هو المكان الذي كنت تخشاه طوال عمرك، اقتحم المنطقة وتوجه مباشرة إلى قبر أمك، كانت الأضواء تتسلل خافتة حزينة من الآفاق السماوية، تلمست موقعا بين حائطين وصنعت كميني الخاص، قد كان عندي بلبل في قفص من ذهب، ومع ذلك فإنني لم أشهد بلبلاً في حياتي، وإذا البلايا تابعتك عيونها، نم فالبلايا كلهن خراب، صمت المقابر يحوي بين طبقاته العفاريت المرعبة، لكنه يظل صمتا صامتا، تحسست أصابعي كلها التي تكلل كفتي، أصابعي قوية تصلح للخنق المباغت، والوقت يمر فوق أنفاسي بأقدامه - الثقيلة، سوف أخنقة وأظل أضغط فأخنقه، ولن أتورع أن أبقر فوهة القبر وأدفنه معها، أو أخرجها لكي يتنسم جسدها العفن جسده العفن، حتى نباح الكلاب غاص في الافق البعيد، حينذاك صدقت الرؤيا، كان ثمة شبح قادم من بعيد، الأضواء الكليلة للسماء القادمة من خلفه أظهرته واضحا، الملعون، يقترب، وبالفعل ما كاد يصل إلى المقبرة حتى اتكأ على شاهدها البارز، ووقف، كان يتلو الأدعيات، حاولت أن أتبين ملامحه انحنى على فتحة القبر وتناول بقايا التراب المبتل، قرأ الفاتحة في هدوء فظللت منتظرا أن يتحرك بيني وبينه أمتار قليلة، خشيت أن يرتفع تنفسي فيكتشفني ويهرب، ضغطت على أنفاسي ظل يتمتم وهو يتلمس بكفيه - الاثنتين - شاهد القبر، ثم بدأ في التحرك، كان واضحا أنه يكافح البكاء، وبكى فعلا.. تجمدت قليلا، وما كدت أهم بالهجوم الفاتك عليه، حتى توقفت من جديد، فقد كان ثمة واحد آخر جاء وحل محله، ثم الثالث، فالرابع، فالعاشر..