الأربعاء 17 يوليو 2024

كاريكاتير ثورة 1952 .. القابضون على الجمر


عمرو سليم

مقالات11-7-2024 | 15:28

عمرو سليم

ربما مر على هذا اليوم ما يقارب الأربعون عاما. إلا أننى أتذكره وكأنه حدث توا بالأمس فقط.

أرانى جالسا أمام المشرف الفنى لمجلة روزاليوسف وقتها الأستاذ محمد بغدادى الذى يقدم للشاب القادم الذى يبحث عن موطئ  قدم له فى عالم الكاريكاتير أثمن هدية تقدم لمبتدئ. حتى الآن لا أعرف لماذا غامر ونصحنى تلك النصيحة. ربما صعبت عليه وأشفق على من خوض معركة غير متكافئة؟ ربما لبعض من محبة حملها لوالدى جمال سليم رحمه الله الصحفى والكاتب المعروف وقتها فى روزاليوسف .

أو ربما قدمها لى لشىء من إبراء الذمة أمام نفسه وكأنه يقول لنفسه .. «أرمى له العوامة ورزقى ورزقه على الله.»

كانت نصيحته باختصار هى ضرورة مشاهدة أعمال رسامى الكاريكاتير الذين سبقونى بأعمالهم قبل أن أباشر برسم الكاريكاتير.

وبالفعل .. فى اليوم التالى مباشرة من شهر نوفمبر عام 1987 كنت أحتل مقعدا فى أرشيف مؤسسة روزاليوسف . وكانت تلك هى البداية، وهذه كانت النصيحة الذهبية. أطال الله فى عمر أستاذ بغدادى ومتعه بالصحة والعافية.

وللكاريكاتير المصرى تاريخ عريض، ولكن عندما يتم  تصنيفه نجده ينقسم إلى قسمين : ما قبل ثورة 1952 وما بعد ثورة 1952. 

كان كاريكاتير ما بعد ثورة 1952 هو ما أبهرنى بالفعل لأنه كان يعبر بصدق عن زخم المرحلة وحالة الفوران الاجتماعى التى كانت تمر بها البلاد وقتها. بل وعن سماحة الأديان وقبول الآخر أيضا. ولك أن تتخيل أن جيل رسامى كاريكاتير ما بعد الثورة كانوا تقريبا متساوون فى العدد من حيث الديانة ما بين مسلم ومسيحي. هل حدث هذا الانتخاب الطبيعي مصادفة؟ لا أعتقد.

يرجع المؤرخون لحركة الكاريكاتير المصرى ويرصدون أن أول تحرك له كان على يد الشاب يعقوب صنوع الذى لم يكن رساما للكاريكاتير بقدر ما هو ناشرا دؤوبا للصحف الساخرة التى كانت تعتمد فى هيكلها الرئيسى على رسم الكاريكاتير المحرض ضد الخديو توفيق الذى كان يرمز له باسم "تلفيق". أصدر يعقوب صنوع مطبوعة " أبو نظارة " عام 1876 وكانت ضد النظام الحاكم فكانت تصادر وتلاحق كثيرا لدرجة أن يعقوب صنوع أعاد إصدارها 12 مرة وفى كل مرة كان لها اسم مختلف.

أعقبت مرحلة يعقوب صنوع ظهور لافت للأجانب فى الكاريكاتير المصرى الذى كان تواجدهم معبرا بصدق عن مجتمع الكوزموبوليتان وقتها وأصبحت كل جريدة تمتلك عددا من الرسامين الأجانب الذى كان دورهم فقط هو رسم أفكار مجلس التحرير دون أى تدخل منهم فى الفكرة بحكم أنهم أجانب ولا يعنيهم الأمر سياسيا في شيء .. مجرد سبوبة والسلام ..

سانتيس  الأسبانى ورفقي  وشوقي الأتراك وصاروخان الأرمنى كانوا  هم أبطال تلك المرحلة بحق قبل أن تأتى ثورة 1952 ويضطرون لتسليم الراية لجيل الثورة أصحاب البلد  أو "الجيل الذهبى للكاريكاتير المصرى" كما أحب أنا  أن أطلق عليه.

أتى هذا الجيل بتمرده وعنفوانه وحداثة سنه. كان معظمهم تقريبا فى العشرينات. فيما عدا بالطبع رخا أول رسام كاريكاتير مصرى وطوغان وعبد السميع هذا الرسام الفذ الذى أصبح مشاركا لهذا الجيل ومنتميا له لدرجة أنه قام بتغيير أسلوبه فى الرسم ليصبح أبسط بكثير مما كان عليه قبل الثورة ليجاريهم فى بساطة خطوطهم ويؤكد تضامنه معهم  واعترافه بمدرستهم الجديدة.

كانت الشرارة الأولى لهذ الجيل يوم ظهور العدد الأول من مجلة صباح الخير فى 17 يناير 1956 بشعارها الشهير "مجلة للقلوب الشابة والعقول المتحررة" هذا الشعار الذى صاغه أحمد بهاء الدين رئيس التحرير وقتها والذى كان عمره بالمناسبة لا يبتعد كثيرا عن أعمار هذا الجيل المتمرد من رسامى الكاريكاتير.

كان ما لفت نظرى وقتها عند مطالعتي للعدد الأول من المجلة وجود  احتفاء طاغ بالرسام الشاب الجديد صلاح جاهين القادم من قسم الإخراج الفنى لمجلة روزاليوسف ليطرح نفسه فى الإصدار الجديد رساما للكاريكاتير بل وناظرا لمدرسة الكاريكاتير الجديدة "مدرسة صباح الخير" صلاح جاهين، جورج البهجورى، حجازى، رجائى ونيس، بهجت عثمان، إيهاب شاكر، صلاح الليثى، محيى اللباد، ناجى كامل، دياب.

تميزت هذه المدرسة الجديدة ببساطة الفكرة وبالسخرية اللاذعة التى تتخطى التابوهات والخطوط الحمراء الموضوعة مسبقا التى طالما ما كبلت من سبقهم وحاول التمرد على الثالوث المقدس"الدين والجنس والسياسة". جاءت هذه المدرسة لتعبر بصدق عن"أصحاب البلد الأصليين"، فشاهدنا بنت البلد بائع العرقسوس والإقطاعي وغنى الحرب وعربة البطاطا وتلميذ المدرسة الشقى وهو يقفز من فوق السور والموظفين المزوزعين من مصالحهم الحكومية فى سابع نومة على كراسى "قهوة النشاط".  شاهدنا جمال عبد الناصر بريشة صلاح جاهين وهو يجر مركبا ضخما ليعبر بها قناة السويس معبرا عن كلمات أغنيته "ريسنا ملاح ومعدينا"، وشاهدنا "ناصر" والأسى يكسو ملامحه فى خطاب التنحى بريشة "بهجورى".

كان لصلاح جاهين – مثلا – سلسلة  كاريكاتيرية بعنوان "نادى العراة"  يقدمها أسبوعيا. تدور أحداثها دائما فى نادى العراة، وبالتالى  فإن كل أبطالها عراة ولكن يستحيل أن تقرأ تعليقا مستفزا أو رسما منافيا للآداب . كيف و جميعهم عراة ؟ كان هذا هو السهل الممتنع وكانت تلك هى العبقرية.

سلسلة قيس وليلى التى تدور أحداثها دائما فى الصحراء التى لا يوجد بها إلا نخلة واحدة مؤكد سيستخدمها  قيس الغشيم ليختبئ وراءها من معشوقته ليلى التى كلما رآها "راح الكلام منه" 
هذه المدرسة  هى أول من وضع خطا فاصلا بين الرسام وبين المصطلح الجديد "رسام كاريكاتير".

خلقت هذه المدرسة لأول مرة ما يطلق عليه "ماهية  رسام الكاريكاتير" . لنكتشف أن رسام الكاريكاتير ليس رساما فقط بل رساما ومفكرا أيضا. لا أحد يفكر له أو يملى عليه فكرة ليكون دوره هو الرسم فقط مثل الرسامين الأجانب أصحاب السبوبة الذين سبقوهم.

رسام كاريكاتير مدرسة روزاليوسف وصباح الخير هو من يفكر لنفسه، معنى بقضايا وطنه وواع لها، مثقف بالضرورة  يمتلك أيديولوجيته الخاصة و زمام أموره ويجيد صياغة فكرته بنفسه ويتحمل عواقبها وتداعياتها. وبالتالى لم يكن غريبا على هؤلاء الرسامين الشباب نزقهم وتمردهم الواضح فى رسوماتهم  ثم إعلان سخريتهم من تراجع الديمقراطية فيما بعد. اكتئابهم الشديد وإحباطاتهم بعد هزيمة 1967. ثم نهوضهم مرة أخرى وعبورهم مع الجنود فى نصر أكتوبر العظيم .  ثم اختفاؤهم من عالم الكاريكاتير تباعا بعد اتفاقية كامب ديفيد واتجاههم لرسم الأطفال تحت شعار "الرهان على الطفولة من أجل غدا أفضل"

صدق هذ الجيل أحلام الثورة ورسم بقلبه واكتئب بالنكسة وعبر الهزيمة مع العابرون لقناة السويس ولم يبتلع الصلح مع العدو فى كامب ديفيد فظل حيا بيننا وظلت رسوماته تنبض بالحياة إلى الأن.

رحم الله صلاح جاهين وبهجت عثمان وحجازى ورجائى ونيس وصلاح الليثى وإيهاب شاكر ومحيى اللباد .. وأمد الله فى عمر رسامو الكاريكاتير القابضين على الجمر المصرين على الرسم بمداد القلب حتى تسقط الريشة من يدهم ليلتقطها جيل قادم  بعد غدا أفضل.