قدم فيلم "الممرضة الطيبة" حقيقة مذهلة ومرعبة، وهي أن بعض المهن تجعلنا تحت رحمة ضمير أصحابها، ليس لدينا خيار أخر سوى تسليمهم ثقتنا وآمالنا معا سواء بالرضا أو الجبران ، ومن تلك المهن "التمريض" تلك المهنة الشاقة التي لم تأخذ حقها، بالرغم من كونها الجليس الأهم لوحده وخوف المريض، تقع عليها مسؤلية رعايته وملاحظته اليومية وإعطائه جرعات العلاج في مواعيدها، قد تكون أهم من الطبيب نفسه فهي المرافق الدائم للمريض، بالطبع الأعمار بيد الله ولكن دعونا نتصور للحظة إذا كان الممرض غير أمين أومنزوع الضمير هنا ستقع الكارثة الكبري.
ولعل فيلم "الممرضة الطيبة" The good Nurse للدانماركي توبياس ليندهولم، وهو عن قصة حقيقة وكانت بمثابة صر خة في مواجهة نظام صحي خطير في أكثر من دولة، حيث أنه نظام يجعل المستشفيات مؤسسات تجارية فقط هدفها الحفاظ على سمعتها ولا عزاء للمريض، لذلك فإن المستشفيات التسع التي عمل فيها "السفاح الممرض" أو بطل العمل لم تتهمه بشيء عندما قتل ومع سبق الإصرار والترصد أكثر من نفس لإنتقامات نفسية بداخله ، وأكتفت المستشفيات التسع بصرفه من العمل فقط ، وسُجلت الوفيات قضاء وقدر، حتى لا تقع إدارات تلك المستشفيات للبلبة و لأحكام التعويض وسوء السمعة والإهمال، لم أجد افتتاحية تليق بدور ملائكة الرحمة أهم من هذا العمل العالمي الذي قدم نموذجا حقيقا لدور الممرضة الشريفة التي أنقذت وطنا من سفاح متسلسل وتصدت له وقدمته للعدالة.
ومن هوليود إلى مصر لم يقل إجلال دور التمريض فكان أعظم أدوار كوكب الشرق أم كلثوم وأكثر أفلامها نجاحا عندما قدمت فيلم " فاطمة" تلك الممرضة البسيطة التي تقطن بحي شعبي وتتمتع بصوت ملائكي تعالج الجميع من المرض وحتى طلق الولادة، فنحن المصريين أطلقنا عليهم ملائكة الرحمة وحقا يستحقون، فوظيفتهم ملائكية كوصف تعبيري، مهمتهم شفافة تعطيك الصبر والأمل والثقه معا، لم يتوقفا عن العطاء المستمر رغم المقابل الزهيد، فلا تجد منهم من يكشر أنيابه في وجهك مهما بلغت همومه.
أتذكرعندما كنت في قسم الرعاية قابلت العديد من تلك النماذج ذو الطاقات الإيجابية المبهجة، كنت أقيم في الرعاية لمدة تزيد عن عشر أيام ولكنني لم أشعر بالوقت، ففي تلك الحجرة الضيقة الجميع يقدم الخدمات والعون، يسعي لراحتك ولمحو التوتر والقلق الذي يراودك.
تذكرت ، وقتها أن الأعمال الفنية تثبت نجاحها عندما يظل المشاهد متذكر لأسماء أصحاب الأدوار المميزة، وتأكدت أنها قاعدة حقيقة حتى في حياتنا الدنيا فلا يمكنك نسيان اسم فلان الذي كان سببا في راحتك واطمئنان قلبك، فرغم مرور أكثر من ثلاثة أشهر علي مغادرتي قسم الرعاية إلا إنني مازالت أتذكر أسماء فتايات بل بطلات التمريض، يستحقون وسام المهنية ومنهم داليا وأميرة صلاح وأخريات أقول لهم من قلبي "شكرا" .
ففي قسم الرعاية تحديدا "وربنا يبعدكم عن بابها" لن تجد ساعة ولا تاريخ، أنت فاقد للوقت وخارج حلقة الزمن، تحاوطك دقات ورنات الأجهزة التي أشبه بالإنذار والتحذير، وونيسك الوحيد الممرض "ويسعدك لو كان بشوش وابن حلال"، وجدت في تلك الحجرة المخيفة للنفس نماذج كثيرة منها الممرضة المتفائلة التي دوما تزد من طاقتك الإيجابية حتى وإن بدت ملامحها في قمة إكتئابها، فالكثير منهم مغترب بعيدا عن أهله لمدة تزد عن ١٥ يوم من أجل العيش، وعندما يتمكنا من الحصول على عطلة رسمية يجدون أنفسهم إما مرضى من العمل الشاق، أو متأثرين بإحدى الحالات الحرجة يتحدثون عنها مع الرفاق.
مهنة منهكة وإن صدق الوصف ولكنها عظيمة تستحق التحليل والدراسة، قد يعترض بعضكم لأنه ربما لسوء حظه قابل بعض النماذج السيئة "هليبة " بمعنى الكلمة كل خطوة بقرش، ولكنني كانت أكثر حظا، أحمد الله أنني لم التقي هؤلاء قط، ربما لأن رحمة الله تحاوطني فأنا مريض بمرض فتاك، وكل من يتعامل معي يراعي تلك النقطة، فعلى مدار سبعة أشهر تعاملت مع نماذج مختلفة لم يصادفني إلا أصحاب الضمير والإبتسامة مهما تلقوا من توبيخ لم يقصر ذلك علي عملهم أو طاقتهم التي لا تفني .
يستحقون وأن يكون 12 مايو من كل عام يومهم للإحتفال بهم، وهو بالفعل "اليوم العالمي للتمريض" لنقول لهم شكرا، ذلك التاريخ الذي يوافق ذكرى ميلاد الممرضة الأشهر في التاريخ "فلورنس نايتينجيل" والتي يشار إليها بأنها مؤسسة التمريض الحديث، وهي ممرضة بريطانية.
وكذلك التمريض في مصر جاء بتاريخ مشرف ويحظي بإحترام كبير، لاسيما وأن تلك المهنة كانت تنتمي للأسرة الملكية ومن أشهرهن الشقيقة الكبرى للملك توت عنخ آمون و تدعى "مايا".
وقتها تم تصنيف الممرضات لنوعان "الممرضة الرطبة" وهي التي ترضع طفلا ليس طفلها وتتولى رعايته بعد الولادة، والثانية "الممرضة الجافة" التي تتولى مساعدة الطبيب في تجهيز المرضى والعناية بهم.
إلا أن ظهرت وفي عمر ال 19 عاما "سيدة الكمشوشي" بنت محافظة المنوفية، واحدة من بطلات حرب الاستنزاف، تخرجت في معهد التمريض وتم تكليفها بالعمل في محافظة السويس لتكون ممرضة بمستشفى السويس العام، لم تتخل عن واجبها الوطني وكانت واحدة من بطلات التمريض في حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر.
وجاءت "الحكيمة فايقة" التي تمتعت بشهرة كبيرة بين جرحى حرب أكتوبر، وهي ابنة الشهيد حنيدق الذي استشهد في سيناء عام 1960، والتي تم تكريمها من الرئيس السادات ومن مسؤولين عدة فيما بعد، عن فترة عملها بالتمريض كحكيمة عمليات في المستشفى الميداني.
نماذج عدة في مجال التمريض وإحقاقا للحق جميعهم أبطال من خلف الستار، وربما يكون دورهم أدق وأصعب من الطبيب ،لايقل أهمية عنهم فهم وجهان لعملة واحدة، وحقيقة قابلت في محنتي أطباء تمنيت من الله وقتها وأن يعفوعن جسدي المرض، لأكتب عنهم دواوين من الشعر فهم أهل للتفاني الممزوج بالتفاؤل بسمتهم لم تفارق شفاهم ، كلامهم الطيب يحاوطني أخشى حسدهم، ومنهم الطبيب زياد الأمين وحقا هو أمين، وفادي و محمد ووحيد، وجدتهم يتركون همومهم وطموحهم وحتى أحلامهم على باب العمل قبل اللقاء بالمريض، كنت محظوظ بهم.
فأنا مؤمن بأن في المحنة منحة، التقيت أبطال طواريء لم أتوقع مهنيتهم وحرصهم، بسمتهم لا تفارق ملامحهم لتعطيك الأمل، أتذكر دوما وجه زياد حسين الذي كنت أدعوه دكتور زياد الأسيوطي، التقيت معه في قسم الرعاية وكان لا يعرفني
ولكنه فجأة أصبح صديق في خلال ساعات، يتابع حالتي أجده في كل قسم علاجي أذهب إليه، متفائل بشفائي يبعث في قلبي الطمأنينه، كلما التقينا يدعوني بالقريب " إزيك يا قريبي" ، نموذج لطبيب يحفظ عن ظهر غيب أخلاقيات المهنة، يرعى ألالام المريض يضعه في المرتبة الأولي ، لم يعاملني أنا فقط بهذا الشكل فوجدته يتعامل مع الجميع بنفس الوجه المحب.
كل هؤلاء أحببت من خلالهم تلك المهنة التي كنت أخشى رجفة من مجرد الإقتراب منها، فأنا أخاف المرض، ولكنهم كانوا السند النفسي الأول لتجاوز حالة الإكتئاب التي كادت لتفتك بحياتي، ربما هؤلاء دعوة أم وربما صديق أو غريب وربما الأكيد وهذا حدسي هو عوض الله عن كل ما عنيت مع طبيب تسبب في هلاكي الجسدي والنفسي.