الأربعاء 17 يوليو 2024

السينما الوثائقية.. على صفحات جريدة يومية


حسام حافظ

مقالات12-7-2024 | 20:08

حسام حافظ

يعتقد بعض عشاق السينما أن الأفلام الروائية أكثر جاذبية وجمالا وتشويقا من الأفلام التسجيلية، ولكن هؤلاء لا يستطيعون تفسير اتجاه العديد من محطات التليفزيون العربية والعالمية إلى تخصيص قنوات وثائقية لتقديم هذه النوعية من الأفلام، بداية من «ناشيونال جيوجرافيك» وصولا إلى «الوثائقية المصرية»، ومن المدهش أن أقبالا كبيرا على مشاهدة هذه القنوات بل إن بعضها يحقق نسبة مشاهدة مستمرة أعلى من القنوات الرياضية المتخصصة التي تحقق نسبة مشاهدة عالية وقت المباريات فقط.. لذلك عندما توليت الإشراف على صفحة السينما بجريدة الجمهورية اليومية قبل 12 عاما، قررت الاهتمام بالسينما الوثائقية إلى جانب الروائية احتراما للقراء الذين يقبلون على مشاهدة الأفلام الوثائقية طالما اعترفنا بأن لهذه السينما جمهورا يشاهدها. بدليل اهتمام الجيل الجديد من شباب السينمائيين بصناعة الفيلم الوثائقي والتنافس به في المهرجانات الكبرى مثل ما فعل فيلم «رفعت عيني للسماء» إخراج ندى رياض وأيمن الأمير الذي يتناول قصة واقعية من قلب صعيد مصر عن فريق مسرح «بانوراما برشا» وهي فرقة مسرحية متجولة من قرية البرشا بالمنيا ونتابع من خلال الفيلم الذى تستغرق مدته «100 دقيقة» رحلة تأسيس مجموعة فتيات للفرقة ومواجهتهن تحديات خلال عرضهن للمسرحية  من خلال تلك الرحلة.
أتذكر سؤالا من أحد القراء للناقد الكبير سمير فريد "1943 – 2017" عن الفرق بين السينما التسجيلية والسينما الوثائقية، وقال إنه في اللغة الإنجليزية لا فرق بينهما ويطلقون هناك مصطلح "ديكومينتاري" على النوعين، بينما في مصر نجد أن اللقطات التي يصورها المخرج بنفسه في فيلمه تجعله "تسجيليا" بينما الفيلم الذي يضطر مخرجه إلى الاستعانة بلقطات لفنان آخر تجعله "وثائقيا"، معنى ذلك أن كل الأفلام الوثائقية هي تسجيلية ولكن العكس ليس صحيحا، ورغم ذلك ذهبت الشهرة إلى تعبير "الوثائقية" والدليل على ذلك عدم وجود قناة باسم "التسجيلية" في عالمنا العربي، وأتحدث الآن عن محطات مرت بها "صفحة السينما" ونحن نتابع ما تحققه الأفلام الوثائقية من نجاح جماهيري وفني.
كانت السعادة كبيرة في مهرجان الإسماعيلية في دورته رقم "21" برئاسة الناقد عصام زكريا بعد مشاهدتنا للفيلم الوثائقي المصري "رمسيس راح فين" الذي انتزع الجائزة الكبرى في المهرجان كأفضل فيلم وثائقي طويل.. الفيلم إخراج عمرو بيومي الذي عرفناه مخرجا لفيلمين روائيين "الجسر" و"بلد البنات".
اختار بيومي أن يتخذ من سيرته الذاتية مدخلا للحديث عن موضوع فيلمه فهو يسكن حي السكاكيني بالقاهرة وهو قريب من الظاهر وميدان رمسيس، وارتبط في طفولته بتلك الأماكن الحميمة والتي تعيش في ذاكرة الإنسان مهما طالت به السنون، ويحكي المخرج بصوته عن حياته وعلاقته بوالده وأسرته وهو مولود في ستينيات القرن العشرين وعاش سنوات الصبا في تلك المرحلة الخطيرة من حياة مصر، وما زاد من شغفه بالتاريخ أن والده اعتاد على الاحتفاظ بالجرائد القديمة التي تجعل أحداث الماضي حية بالعناوين الصارخة عن وفاة جمال عبدالناصر وتولي السادات الحكم وعبور قواتنا المسلحة لقناة السويس في حرب أكتوبر العظيمة وأحداث انتفاضة يناير 1977 واغتيال السادات واستكمال انسحاب إسرائيل من سيناء وصولا إلى سنوات مبارك في الحكم وأحداث يناير 2011. 
ولكن هناك حدث وقع عام 2006 كان له تأثير واضح في حياة المخرج عمرو بيومي وهو نقل تمثال رمسيس الثاني من ميدان محطة مصر إلى الهرم، وقد استلزم نقل هذا التمثال استعدادات كبيرة استمرت لشهور ثم بدأ موكب تحرك التمثال في طريقه إلى المكان الجديد عند مدخل متحف الحضارة الكبير الذي يضم الأهرامات الثلاثة والعديد من قاعات العرض الكبيرة لآثار الحضارة الفرعونية المصرية العظيمة.
نجح المخرج في تقديم رؤيته لعلاقة عامة الشعب المصري بعملية نقل التمثال وكيف أن الناس تنظر لرمسيس على أنه الجد العظيم الذي يستحق أن ينتقل إلى مكان أفضل بكل مظاهر الاحترام والتبجيل كملك وفرعون كان منذ آلاف السنين حاكما لمصر، والمدهش أن رحلة التمثال عندما مرت من أمام مئات المنازل في القاهرة والجيزة كانت الناس تلوح له من الشرفات بالأعلام وكانت السيدات تطلق الزغاريد ابتهاجا بمروره من أمام منزلهن، وهي طريقة مصرية للتعبير عن الفرحة بالنجاح في الدراسة أو الزواج أو ولادة الأطفال.. وأمام موكب رمسيس كانت فرحة النساء بانتقال الملك الفرعون إلى مكان جديد يستحقه في "المتحف الكبير" الذي أعد خصيصا لحماية آثارنا المصرية الخالدة.
أما المخرجة الشابة هبة يسرى فهى حالة خاصة متميزة من خريجات معهد السينما، وقد أثارت ضجة كبيرة بالفيلم التسجيلي "المهنة امرأة" عن فتيات الليل وقد أنجزته فى السنة الثالثة بالمعهد وها هى تتقدم للمهرجان القومي للسينما المصرية 2007 بفيلم التخرج بعنوان "عشق آخر" وتحصل على جائزة شادى عبدالسلام، والغريب أن هبة يسرى وهي حفيدة المطربة الكبيرة شهرزاد تتحدث في فيلمها عن حياتها الشخصية والمصاعب التى واجهتها لتختار الدراسة فى معهد السينما مما يعكس رؤية المجتمع المصري لعمل الفتاة في المجال الفني، وأوضحت كيف استطاعت مواجهة الأسرة بحبها للسينما وكيف تعاملوا مع ذلك رغم أنها تنتمي لأسرة فنية. 
وفى السينما التسجيلية الطويلة والقصيرة تميزت المخرجات الشابات وحصلن على غالبية جوائز المهرجان القومي مثل شيرين غيث مخرجة فيلم "همس النخيل" الذى انتزع جائزة أحسن فيلم، ويحكى عن أم مصرية فى إحدى القرى تعمل فى صناعة الأقفاص الجريد ولديها ستة أبناء اثنان منهم معاقان.. ورغم ذلك أصرت الأم على عدم حرمانهما من التعليم مثل أشقائها رغم تساؤل الجيران عن عدم إلحاقهم بتصنيع الأقفاص لكن الأم رفضت.
وتحصل المخرجة لمياء رمضان مخرجة فيلم "محطات" على جائزة خاصة ويتناول معاناة الصحفيين والمصورين فى الأراضى الفلسطينية المحتلة أثناء نقلهم للأحداث من خلال لقاء مع ثلاثة مصورين قاموا بتغطية الأحداث الساخنة.. وحصلت المخرجة أمل فوزى على جائزة سعد نديم عن فيلم "مرازيق" الذى ينقل إلى الشاشة حياة أهالى القرية الشهيرة بجنى البلح وتصنيفه وبيعه.
وحصلت داليا الرشيدى على جائزة عن فيلم "يوم جديد" الذى يستعرض حياة خادمة والمعاناة التى تواجهها فى يوم واحد.. وهكذا حصلت المخرجات على أهم جوائز السينما وبقى مخرج وحيد حصل على جائزة أفضل فيلم تسجيلى قصير وهو يوسف هشام عن فيلم "حلم اسطبل عنتر" يتحدث عن حياة الفقراء فى منطقة اسطبل عنتر بمصر القديمة وفرص التعليم التى يمكن ان يحصل عليها أبناء تلك المنطقة.
أما المخرج الراحل الكبير محمد كامل القليوبي "1943 – 2017" فهو الأستاذ بمعهد السينما والمؤرخ السينمائي الذي اكتشف البداية الحقيقية للسينما الروائية في مصر بفيلم "برسوم يبحث عن وظيفة" عام 1923 للمخرج الرائد الراحل محمد بيومي، واعتبره القليوبي في فيلمه الوثائقي الأب الحقيقي للسينما المصرية.
ورحلة القليوبي مع السينما بدأت مبكرة جداً عندما التحق طالباً بكلية الهندسة عام 1960. وظل في مرحلة الهواية حتى أنهى دراسته الجامعية وأدى الخدمة العسكرية، ثم التحق بمعهد السينما عام 1972 وظل هاوياً أيضا حتى سافر في بعثة لدراسة الإخراج بمعهد "الفيجيك" بموسكو منذ عام 1979 وحتى 1986 وحصل على الدكتوراه وكان موضوعها الثقافة القومية وسؤال الهوية في السينما المصرية. 
وعلى مستوى السينما الوثائقية لا يكتفي القليوبي بفيلم "محمد بيومي" وله أيضا فيلم "أسطورة روز اليوسف" 2002، ثم الفيلم الذي أثار ضجة كبرى حتى الآن وهو فيلم "نجيب الريحاني في ستين ألف سلامة" وأثناء تصوير الفيلم أقنع القليوبي السيدة جينا الريحاني بإعلان أنها الابنة الوحيدة والمجهولة لنجيب الريحاني من سيدة ألمانية، و"جينا" مولودة عام 1937 وعندما مات الريحاني عام 1949 كان عندها 12 عاماً وتعيش مع والدتها في سويسرا بعد هزيمة هتلر عام 1945، وسبب الضجة المستمرة أن في مصر من أنكروا أن جينا ابنة الريحاني وعلى رأسهم الدكتور أحمد سخسوخ المؤلف المسرحي وأستاذ الدراما بأكاديمية الفنون وهي حكاية طويلة تسبب فيها فيلم القليوبي الوثائقي. 
استضافت جمعية نقاد السينما المصريين المخرج الكبير د. محمد كامل القليوبى عام 2013 وعرضت أحدث أفلامه الوثائقية وعنوانه: "اسمى مصطفى خميس" والذى كان عرضه العالمى الأول فى مهرجان دبى السينمائى، الفيلم مدته 110 دقائق ويتناول بالتفصيل وقائع اتهام ومحاكمة وإعدام اثنين من عمال النسيج بكفر الدوار هما: مصطفى خميس ومحمد حسن البقرى بعد شهر ونصف من قيام ثورة يوليو 1952.
وتحدث فى الفيلم مجموعة من المؤرخين الذين تابعوا الحدث الكبير مثل د. رفعت السعيد والكاتب الصحفى صلاح عيسى إلى جانب شهادات محمد خميس شقيق مصطفى والعديد من قيادات الحركة العمالية الذين عاصروا تلك الفترة مثل عبدالحليم وفتح الله محروس.. وبعض السينمائيين مثل المونتير أحمد متولى والفنان التشكيلى عادل السيوى، ثم أقيمت ندوة بعد عرض الفيلم أدارها الناقد محسن ويفى رئيس الجمعية في ذلك الوقت وحضرها المخرج د.محمد كامل القليوبى وتحدث فيها العديد من السينمائيين.
أشار الفيلم بوضوح إلى دور الإخوان في تشجيع إعدام "خميس" لتخويف اليسار المصرى النشيط فى تلك الفترة، خاصة أن مصطفى خميس كان عضوا فى تنظيم "النجمة الحمراء" وكتب سيد قطب فى الصحافة مؤيدا للإعدام، وقد حدث معه بعد 14 سنة نفس الموقف وتم إعدامه عام 1966.
والأفلام الوثائقية الأجنبية لها نصيب من الحديث في الصحافة المصرية مثل فيلم "البحث عن شوجرمان" للمخرج السويدي من أصل جزائري مالك بن جلول.. هذا الفيلم يستحق جائزة أكبر من جائزة أوسكار أحسن فيلم وثائقي التى حصل عليها عام 2013.. وقد حصل أيضا على جائزة «البافتا» البريطانية وجائزة لجنة تحكيم مهرجان «صاندانس» وجائزة الجمهور، وهو أفضل فيلم فى مهرجان الدوحة ترايبيكا السينمائي. 
الطريف أن هذا الفيلم التقط قصة مغنى بوب أمريكى يدعى "رودريجرز" لم يحقق أى شهرة فى بلده وقام بسرد قصته على لسان معاصريه وجيرانه وكأنه مات، ولكن المخرج كان يخفى الحقيقة المبهرة فى الثلث الأخير من الفيلم، عندما نعلم أن هذا المطرب ما زال على قيد الحياة واستمر الفيلم يكمل الوقائع العجيبة فى حياة رودريجرز والتى تستحق النشر فى باب "صدق أو لا تصدق".
ولد رود ريجرز ذو الأصول المكسيكية فى مدينة ديترويت فى ولاية ميتشجان الباردة، وفى الفترة بين عامى 1969- 1973 قدم ألبومين غنائيين وبعض الحفلات الفاشلة ولم يعجب الجمهور بأغانيه، فتوقف عن الغناء وعمل فى مجال المقاولات يرمم البيوت القديمة ويبيعها وتزوج وأنجب ثلاث بنات وانعزل عن العالم، لكن شائعة لا أحد يعرف مصدرها انتشرت بأن هذا المطرب أطلق على نفسه الرصاص بسبب فشله.. وذلك ما زاد من نسيان الجمهور له لأنه ببساطة مات.
لكن فتاة أمريكية كانت تدرس فى جنوب إفريقيا أيام حكم التفرقة العنصرية، عادت من إحدى إجازاتها بالولايات المتحدة ومعها أسطوانة له وإذا بطلاب الجامعة هناك ينبهرون بصوت وكلمات وموسيقى رود ريجرز وبحثوا عن باقى أغنياته وأصبح المطرب المفضل لهم، خاصة أن معانى كلماته إنسانية وأصبحت أيقونة لثورة الشباب هناك ضد التفرقة العنصرية.. وتعرضت أسطواناته لاضطهاد السلطات العنصرية، حتى إن إذاعة كيب تاون كانت تتعمد إتلاف أسطواناته حتى لا يعاد بثها مرة أخرى وهى ممنوعة رقابيا، لكن بعد أكثر من عشرين عاما سمع صحفى أمريكى شاب كان يقضى فترة خدمته العسكرية بهذا المطرب الذى انتحر لفشله الجماهيرى، ولكن لا أحد يؤكد هذه الرواية خاصة من سكان ديترويت لأن لو مطربا انتحر حتى لو كان مجهولا كانوا سيعرفون بالطبع، لذلك بدأ الصحفى البحث وراء "رود ريجرز" حتى عثر على ابنته والتى اتصلت به وتحدث إلى والدها على التليفون!!
الغريب أن الصحفى لم يكتف بهذا القدر من الإثارة لموضوعه الصحفى، وإذا به يسافر إلى جنوب إفريقيا عام 1997 وينشر هناك خبر العثور على المطرب المنتحر "رود ريجرز" أيقونة الثورة هناك، وكان نظام الفصل العنصرى قد سقط وأصبح نيلسون مانديلا رئيسا للبلاد، أرسلوا لرود ريجرز لعمل حفلات فى جنوب إفريقيا، واستقبلوه فى المطار كما لو كان مادونا أو على حد تعبير الصحفى "ما يشبه عودة الفيس بريسلى للحياة" وهكذا عاش البطل حياتان، حياة المقاول شوجرمان وحياة النجم رود ريجرز.. مقاول فى وطنه أمريكا ونجم فى جنوب إفريقيا.. ورغم ذلك وبعد النجاح الأسطورى يعود مرة أخرى لمدينة ديترويت ويعيش فى نفس المدينة الذى عاش فيها طوال 40 عاما. إنه فنان عظيم ومتواضع جاءته الشهرة فى الخارج "على كبر" ولكنه فضل العودة مرة أخرى للحياة كشخص مجهول فى وطنه.