تعد جائزة «نوبل»، هي أشهر الجوائز العالمية في حقول الإبداع والخلق والابتكار المتنوعة، وعقب نيل الجائزة للفائزين بها يتعرف عليهم العالم أكثر ويحظون بشهرة واسعة عبر قارات العالم كله، مما يدفع بنا للبحث عن رحلتهم ومسيرتهم، وإسهاماتهم للبشرية وتنميتها وتطورها.
ومع قسم الثقافة ببوابة «دار الهلال»، نحتفي معًا بحاصدي جائزة نوبل في الآداب لنسطر بعضًا من تاريخ إبداعاتهم ورحلتهم، من عقود كثيرة منذ بداية القرن بداية القرن العشرين، منح الجائزة لأول مرة في عام 1901 في فروع الكيمياء والأدب والسلام والفيزياء وعلم وظائف الأعضاء أو الطب.
نلتقى اليوم مع الكاتب «ويليام بتلر ييتس»
نشهد اليوم ذكرى ميلاد الشاعر والكاتب المسرحي «ويليام بتلر ييتس» حيث ولد في 13 يونيو عام 1865 م في دبلن عاصمة إيرلندا، وعرف واشتهر بإيمانه بالأشباح والجنيات والسحر
الطفولة و النشأة .. عائلة مبدعة
«ويليام بتلر ييتس» هو الابن الأكبر بين ستة إخوة وكان الأب «جون بتلر ييتس» الأب شخصية قوية ويمتلك ولعا كبيرًا بأطفاله و يقرأ لهم الشعر والقصص من أعمال «جوسر وشكسبير» والسير والتر سكوت وآخرين غيرهم، وكان يعمل محاميًا، لكنه سرعان ما قرر ان يكون فنانا، فالتحق بمدرسة للفنون وأصبح واحدا من الرسامين المعروفين.
وعن الأم «سوزان بولاكسفين» فكانت هادئة ومنسحبة تنتمي إلى عائلة تعمل بالشحن البحري في مدينة سليجو، تميل دائما إلى الانطواء، وتأثرت بموت ابنها روبرت عام 1873 وكان في الثالثة من العمر، وسقطت تحت حصار اليأس الذي لم تشف منه ابدا، قبل وفاة «روبرت» بفترة ادعت أنها سمعت نداء أرواح الموت التي كانت نبؤة على فقدان شخص محبوب من أهل بيتها حسب المعتقد الأيرلندي.
وكانت الأقرب إلى «ويليام بتلر ييتس» هي شقيقته سوزان «ليلي» التي تصغره بعام واحد وأختهما الأخرى التي تصغرها بعام «اليزابيث» وكانوا ينادونها «لولي» والثلاثة كانوا يجمعهم حب كبير للفن، وكبروا وأسسوا مصنع «مشاغل دون ايمر» للمطرزات والرسم، وقامت الأختين بإصدار العديد من طبعات كتب أخيهما وكان والأخ الأصغر «جاك» مستقلا عنهم، طيب الأخلاق، وموهوب للغاية وأصبح عندما كبر واحدا من أعظم رسامي أيرلندا.
انتقل«ييتس» وهو في الثانية من عمره مع عائلته إلى لندن، وكانوا يعودون إلى سليجو في الصيف فقط، وعاش ما بين عمر السابعة والتاسعة هناك مع أمه في بيت جده لآمه وعرف بـ «قصر مارفل» وكان الجد يمتلك قافلة من السفن التجارية، كان«ييتس» يرقبها في النهر حين تبحر من وإلى انجلترا.
مشاهدة أول شبح
آمن «ييتس» بالاشباح والجنيات ادعى أنه شاهد أول شبح في حياته عندما كان في بيت جده، ففي أيرلندا خلال تلك الفترة كان العديد من الناس يؤمنون بالارواح الخارقة للطبيعة، وكان هناك حديث كثير عن هذا الموضوع بين الخدم العاملين في«قصر مارفل»، ولم يكن الحديث عن جنيات من النوع المحبب الذي نشاهده أحيانا في السينما لكنه غالبا ما يكون معذبا وخطرا.. تماما مثلما كتب «ييتس»في قصيدة قصيدة الطفل المسروق واستند فيها إلى أسطورة شعبية تقول «إن الجنيات من الممكن ان يختطفن الناس ويجبروهم على البقاء معهم».
وتخيل«ييتس» عددا كبيرا من الجان يمتطون ظهور الخيل ويطوفون البلاد وكتب ذلك في قصيدة « في ضيافة الجن»، وكان هناك حصان صغير «قزم» في قصر «مارفل» وعدد من الكلاب استخدمهم الأطفال لمطاردة الأرانب، وكان«ييتس» في طفولته يحرص على جمع الحشرات مثل العثة والفراشات والخنافس حيث كان يجمعها في قناني زجاجية، وكان يذهب مع خاله للإبحار على الساحل القريب، أو لصيد السمك من الأنهار القريبة.
وعندما صار «ييتس» شابا كان يمشي بعض الأحيان في أطراف سليجو ويمضي بعض الليالي في كهف بالغابة، حبه لهذه الأماكن يرد في الكثير من شعره، وغالبا ما يذكر أسماء هذه الأماكن مثل: «بن بيلبو، كونكناريا، سليث وود، غلينكار، دوناي ».
بداية الرحلة مع الشعر
عرف عن «ييتس» معاناته من بعض الصعوبات في القراءة، ولم يكن طالبا مميزا في المدرسة، ورغم ذلك بدأ كتابة الشعر في عمر الـ 15، وقصائده الأولى لم تكن جيدة تماما، كتبها عن الساحرات وفرسان العصور الوسطى، وبدأ شعره يتحسن عندما صار يكتب عن الأساطير والخرافات الأيرلندية، مثل التي كتبها عن البطل « كوجولاين» الذي رعرف له قدرات بشرية خارقة.
نشر«ييتس» قصائده الأولى في صحيفة «دبلن» وهو في عمر العشرين، وبدأ ارتياد نادي «دبلن»، ليناقش الأمور السياسية حينذاك وعلى رأسها «استقلال أيرلندا عن بريطانيا»، وأراد وتمنى ييتس ان يعمل من اجل الاستقلال السياسي لبلاده ولكن من التجاه الفني وثقافية وليس من خلال عمل اللجان والأحزاب السياسية.
جمعيات العوالم الروحانية
وبدأ«ييتس» منذ بداية إقامته في «مارفل» الاقتراب من العوالم الروحانية وما فوق الطبيعية وعوالم المستور، وفي عمر العشرين ساعد مجموعة من الطلبة رغبوا دراسة الفلسفة الهندية والروحانيات، على تأسيس «جمعية دبلن لعلوم السحر» و تحولت هذه الجمعية فيما بعد إلى اسم «جمعية دبلن لتشارك الحكمة»
حضر«ييتس» المشاهد الروحية الأولى لهذه الجمعية وفي العام التالي انضم إلى «نظام البزوغ الذهبي» وهو جمعية سرية طورت تدريس السحر وتجاربه العملية، عندما كان «ييتس» شابا حمل ولهًا بالرؤى والتخاطر وتأثير الكواكب على الطالع، وكان يمضى الكثير من وقته في محاولة تتبع رؤى عالم الخوارق، وهذه الاهتمامات كلها ظهرت في شعره في مراحل مختلفة، وكان عالم المستور مهما كثيرا في حياته، وفي إحدى المناظرات أكد على أن «عالم المستور» هو المركز لكل ما يفعله أو يعتقده الإنسان.
التقى «ييتس» في عام 1889م بممثلة جميلة«ماود جونيه»، وكانت من الثواروناشطة سياسية لعدة سنوات، وأغرم بها فبقيا صديقين، وكان أغلب شعره العاطفي مهدى لها متضمنا قصيدتين كتبتا عنها وهما «السمكة»، و«أماني بفرش من الجنة».
تأسيس المسرح الوطني الإيرلندي
وأسس «ييتس»عام 1889 مع صديقته والكاتبة المسرحية الليدي غريغوري «المسرح الأدبي الأيرلندي» وكان يهدف إلى تقديم مسرحيات تخص بلاده، فكتب «ييتس» لهذا الاتجاه المسرحية الوطنية «الكونتيسة كاثلين» التي قامت صديقته «ماود جونيه» بدور البطولة فيها، وبعد سنوات قليلة أسس «ييتس» مسرح «آبي» الشهير في «دبلن» والذي لم يزل موجودًا لحد اليوم.
وتقدم«ييتس» للزواج من «ماود جونيه» عدة مرات وكانت ترفضه بقسوة، عام 1903 تزوجت عسكريا أيرلنديا هو الرائد«جون برايد» الذي أعدم في وقت لاحق لمشاركته في التمرد الذي وقع بأيرلندا عام 1916م
زواج يجمعه عالم السحر
قابل «ييتس»عام 1911 لأول مرة «جورجيا هايدليس» وهي في عمرالـ 18 عاما، وكانت قارئة نهمة وتتكلم عدة لغات ولها هوايات في السحر وعالم المستور، وانضمت سريعا هي أيضا إلى نظام البزوغ الذهبي» وعقد زواجه عليها عام 1917م، وفي ذلك العام اشترى «ييتس» ورمم برج نورمان في بوليالي كونتي جالوي وعاشا هناك أثناء الصيف وقد كتب الكثير من القصائد داخل هذا المكان ومنها قصيدة« ليحفر على حجر في برج بوليالي»
حياة عائلية
آمن «ييتس» بعد الزواج بفترة قصيرة، بأنه يستطيع الاتصال بمختلف المرشدين والمدربين الروحيين للعمل من خلال زوجته كوسيط روحي، الرسائل الغريبة الواصلة عن طريق «جورجيا» بالكتابة الاوتوماتيكية شكلت القاعدة لكتابه الروحاني الغريب الذي عنوانه رؤيا.
ورزق الزوجان بطفلين، أنا بتلر ييتس ولدت عام 1919 والتي أصبحت فنانة وميشيل بتلر ييتس ولد عام 1921 الذي اختار العمل في السياسة وأصبح مثل والده عضوا في مجلس الشيوخ الأيرلندي.
تمرد أيرلندا في شعر «ييتس»
وبحدوث تمرد أيرلندا عام 1916م والذي راح ضحيتها امئات ومنهم بعض أصدقاء «ييتس»، وحين هزم التمرد قامت القوات البريطانية بإعدام قادة التمرد، لذا اندلع القتال بين المتمردين الأيرلنديين والجيش البريطاني من جديد واستمر سنتين ولم يتوقف إلا بتوقيع معاهدة، وهذه المرة اندلعت الحرب الأهلية بين المؤيدين والمعارضين للتوقيع على هذه المعاهدة، في هذه الفترة كتب ييتس«تأملات في زمان الحرب الأهلية» وهي متوالية من سبع قصائد كتبت في تلك الفترة.
قتال من أجل حرية الفنان
خدم «ييتس» كعضو مجلس شيوخ في أول حكومة أيرلندية من عام 1922-1928 م وعمل جاهدا لاإياء التراث الثقافي الأيرلندي ، وفنونه المعمارية وآثاره القديمة ومخطوطاته، وكان دائما خلاف مع الرقيب، ويقاتل من أجل حرية الفنان، و سعى إلى تحسين مستوى المدارس الأيرلندية
مناضلا من أجل هويته
وأثناء ترأس «ييتس» للجنة تصميم العملة المعدنية أصر على أن تعكس هذه العملة الوجه الزراعي للامة ولذا حملت قطع هذه العملة صور الحصان وسمكة السلمون والخنزير والثور والدجاج والكلب والأرنب، وإلى حين استعمال اليورو عام 2002 م ظلت العملة الأيرلندية المعدنية المتداولة تحمل هذه الصور.
جائزة نوبل .. وحصاد الرحلة
حاز«ييتس» على جائزة نوبل في الادب، عام 1923م ، وجاء في تقرير اللجنة «لشعره المستوحى دائما، والذي في شكل فني للغاية يعطي تعبيرا لروح أمة بأكمله»، وواصل الكتابة حتى رحيله عن عالمنا في 28 يناير 1939م عن عمر 73سنة، وكان حينذاك يعيش جنوب فرنسا حيث أمضى سنوات طويلة من عمره هناك جزئيا بسبب وضعه الصحي.
وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية نقل جثمان الشاعر المقاتل وصديق الأشباح «ويليام بتلر ييتس» إلى أيرلندا ودفن في كنيسة درومكليف قرب مدينة سليجو وتحت جبل بين بيلبو، وشاهده قبره ضمت هذه الفقرة من قصيدته.. تحت بين بيلبو:« عين باردة تحدق في الحياة وبالموت وفارس يعبر بينهما»
واصلت زوجته «جورجيا هايدليس» الحياة مع أولادهما ورحلتهاـ حتى موعد رحيلها ثم التحقت به عام 1968م.
ويليام بتلر ييتس في لوحة من رسم والده