الأربعاء 17 يوليو 2024

الرقمنة.. خطوة فى طريق العدالة الثقافية


حلمي النمنم

مقالات12-7-2024 | 20:40

حلمي النمنم الكاتب الصحفي.. وزير الثقافة الأسبق

يشعر بعضنا بالانزعاج الشديد من الرقمنة وانتشار وسائل التواصل السريع، إذ يرون فى التكنولوجيا الحديثة وتطور وسائل المعلومات تهديدا حقيقيا وخطرا شديدا على الثقافة التقليدية، بما يهدد تراث وجهد أجيال من الكتاب والمفكرين.
لا يمكن الادعاء بأن تلك المخاوف بلا أساس أو أنها حالة من التوهم؛ الأمر المؤكد أننا بصدد وسائل وأدوات جديدة لتقديم المادة الثقافية، هذه الوسائل لها مفرداتها ومصطلحاتها الخاصة ، فلا نجد فيها كلمات مثل المؤلف، الكاتب، الناقد، القارئ، وهكذا، لكننا نسمع مصطلحات جديدة مثل "صناع المحتوى"، "فولوللز".. وهكذا، فيلسوف كندى أطلق على المنتج الثقافى الجديد "ثقافة التفاهة"، وهو تعبير يقترب من كلمة الناقد الراحل فاروق عبدالقادر "ثقافة المديوكر" كان الناقد الراحل يطلق ذلك التعبير على بعض الكتاب والمبدعين الذين رأى أن انتاجهم ضعيف، لكنه يستحوذ على مكانة فى وسائل النشر والإعلام الرسمية.
وسائل التواصل تفرض سرعة الإيقاع والتعليقات القصيرة، دون اشتراط التدقيق فى المعلومة أو توثيقها، ودون التوقف عند مدى مصداقيتها، لذا فإن كمية الأكاذيب والفبركة كبيرة، لكن هناك فرص وميزات عديدة أمام من يريد أن يقدم شيئا رصينا وجادا.
أهم ما تقدمه تلك الوسائل أن فكرة الرقابة التقليدية على بعض الكتب والأعمال باتت مستحيلة، لم يعد ممكنا مصادرة كتاب أو منع مقال للأسباب التقليدية، بالطبع تلك الوسائل لديها رقابتها الخاصة، ويمكن أن تحول دون نشر ما تراه يحض على العنصرية والكراهية، من وجهة نظر القائمين عليها، ولعل جرائم الحرب فى غزة مؤخرا دليلا كافياً على ذلك.
ما يعنينا نحن، أن الكثير من الكتب والأعمال الأدبية والفكرية، التى صودرت فى وقت ما، لأسباب خاصة، باتت متاحة الآن، دون مشاكل بيروقراطية، أو قانونية، مثل ديوان على الغاياتى "وطنيتى، " وكتاب د. طه حسين "فى الشعر الجاهلى"، كتاب د. لويس عوض "مقدمة فى فقه اللغة العربية"، وكذلك رواية نجيب محفوظ "أولاد حارتنا"، التى ظلت حتى سنة 2005 لا تطبع فى مصر، وكان يتم تهريبها من بيروت.
عشرات الكتب والعناوين، صودرت أو نسيت فى زحمة الأيام وصراع الأجيال، باتت متاحة، مقالات مهمة نشرت فى وقتها ونسيت مثل الكثير من مقالات عباس العقاد والشيخ مصطفى عبدالرازق، بل بعض مقالات الشيخ محمد عبده ضد الإنجليز والخديو توفيق فى الوقائع المصرية وغيرها.. هذا الفيض الثقافى الضخم، بات متاحاً الآن ويمكن للقارئ العادى والباحث أن يرجع إليها بسهولة ويسر.
وحتى بعض الكتاب الجدد، الذين لم يتقدموا بأعمالهم للنشر الورقى بعد، يمكن أن تطالع إنتاجهم الكترونيا، أو على صفحاتهم الخاصة، المنع لأسباب رقابية معروفة، أو لعدم امكانية النشر لأزمة الورق وخلافه، لم يعد حائلا دون إتاحة المواد والمنتجات الفكرية والأدبية.. والحكم فى النهاية للجمهور المتابع قراءة ونقدا.
انهيار الرقابة والسقوف التقليدية، فتح الباب على مصراعيه أمام أفكار ونزعات كانت فى حكم السرية جدا من قبل، صحيح أن بعض ما ينشر منها يمكن أن يثير احنا مذهبية وطائفية ويثير الكراهية الدينية أو العنصرية فى بعض المجتمعات لكن يجب التعامل مع ذلك لا بمنطق الحجب والمنع، بل بالنقاش والترشيد، الأمر نفسه ينطبق على الأمور السياسية والاجتماعية، مع ملاحظة أنه يمكن توجيه هذه الأدوات بالذباب الإلكترونى واللجان المتخصصة فى اتجاه معين، لاحداث ثغرات أو خلخلة ما، فى بعض المجتمعات والدول.
وقد ثبت أن بعض التنظيمات الإرهابية والعصابات أجادت استخدام تلك الأدوات وتوظيفها، بخاصة تنظيم داعش الإرهابى أمكن تجنيد عدد من فتيات وشباب أوروبا عبر تلك الأدوات.
سقوط أو انتهاء الرقابة التقليدية واحدة من الايجابيات، لذا لم نعد نعايش أزمات منع بعض الكتب داخل أجنحة معرض القاهرة الدولى للكتاب، كما كان الحال من قبل، فى إحدى السنوات اقتضى الأمر تدخل رئيس الجمهورية للسماح بعرض كتاب المستشار محمد سعيد العشماوى عن الإسلام السياسى، وهكذا الحال بالنسبة لبعض الأعمال الابداعية رواية وشعراً، اختفى كل ذلك تماما، لأن الكتاب إذا منع ، فسوف نجده على المواقع الإلكترونية، ومتاح للجميع.
فى مجال الإيجابيات، بات من السهل الاطلاع على كثير من المواد الأرشيفية، بسهولة ويسر، فقط الدخول على موقع معين. ومن قبل كان لابد من الذهاب إلى دار الكتب أو أرشيف إحدى المؤسسات الصحفية الكبرى، وفقدان الكثير من الوقت وبذل مجهود ضخم، فضلا عن تكلفة مالية قد تكون عالية، صار ذلك كله ميسرا الآن، فقط ضغطة زر فى أى وقت نهاراً أو ليلاً.
لا يتعلق الأمر بالمواد الأرشيفية فقط، بل بالكتب والمراجع كذلك، آلاف الكتب محملة على بعض المواقع، يمكن الحصول على الكتاب ومراجعته فورا، وهذا يضيف إلينا ميزة أخرى، نحن فى المجتمع المصرى، لعقود كنا نشكو من سيطرة العاصمة واستحواذها على كل الأنشطة والمنتجات الثقافية، ولذا طالبنا بتحقيق "العدالة الثقافية" أو ديمقراطية الثقافة، وهناك جهود حقيقية بذلت فى هذا المجال، لكن الرقمنة الحديثة، تحل لنا الكثير من جوانب هذه المشكلة، وهكذا فقط استطاع بعضنا مشاهدة فيلم "أوبنهايمر" على بعض المواقع بمجرد نزوله قاعات العرض السينمائى فى الولايات المتحدة، ويمكن للمواطن فى أى نجع مصرى به شبكة إنترنت أن يتابع أحدث الإصدارات بالعربية وغيرها.
 بنك المعرفة الذى أسسته الدولة المصرية، بنى على هذا الأساس، إذ يتيح للقارىء فى أى مدرسة أو جامعة، فضلا عن القارئ العادى أن يراجع المصدر أو المرجع الذى يريده، بلا رقابة من أى نوع وبلا انتظار موافقة وسماح رجال الجمارك بدخول الكتاب من عدمه، تحملت الدولة تكلفة هذا البنك كاملة وتتيحه مجانا للطلاب،البنك يقدم أحدث الإصدارات العالمية وليس غريبا أن نجد فى بعض الجامعات الإقليمية، كليات وأقسام تتعلق بأحدث التطورات العلمية فى مجال مثل الذكاء الاصطناعى وغيره، وأن العمل والدراسة، بها فى مستوى الجامعات والأقسام العالمية، الاتصالات الحديثة، أتاحت لعلمائنا متابعة أحدث ما يجرى فى العالم والمشاركة فيه، وصل الأمر أن بعض العمليات الجراحية يمكن أن تتم هنا ويتابعها فى نفس اللحظة متخصص عالمى فى مكان ما، يكون مشاركا مع الفريق المصرى والعكس.
لا يعنى هذا أن كل شىء وردى، مبهج، لكل جديد جانبه الايجابى وجانبه السلبى، وأحد الجوانب السلبية هو قيام بعض المنصات بممارسة فرض اتجاه ثقافى وأخلاقى بعينه على الجميع، مثل مسألة الشذوذ الجنسى، التى تفرض تحت مسمى المثلية، وهذا يفرض علينا أن نقدم نحن أنفسنا، وتكون لدينا منصاتنا ومواقعنا الخاصة، فضلا عن أن نناقش بوضوح ما نرفض وما نتخوف منه وما لا يناسبنا.

يبقى التخوف التقليدى.. هل ستزول الثقافة التقليدية، الكتاب الورقى مثلا، هل الوسائل الحديثة سوف تؤثر على بعض الجوانب الأدبية والفنية ؟!

حتى الآن يمكننا القول أن الرقمنة أدت إلى ازدهار الكتاب المطبوع، عدد الناشرين فى ازدياد عاما بعد عام، وعدد العناوين التى تصدر فى ازدياد كذلك، وعدد معارض الكتب تتضاعف، وطبقا للإحصائيات المتاحة فإن معدلات القراءة فى ازدياد، سواء على المستوى الوقتى، أي ساعات القراءة يوميا أو فيما يخص العناوين والكتب الجديدة.

وربما يكون سرعة الإيقاع، منعكسا فى بعض الكتابات، لم يعد هناك مجال للروايات الطويلة، مثل ثلاثية نجيب محفوظ أو أعمال ديستوفيسكى، وتولستوى، ونحن أمام الروايات القصيرة، لنقل القصص الطويلة نوعا ما، ما يطلق عليه "النوفيلا" ولم نعد نجد المقالات الطويلة، التى كان لبعضها عدة صفحات من مجلة أو جريدة يومية.

فى القرن التاسع عشر، زمن محمد على باشا، حين دخلت المطبعة مصر، وظهرت الصحف والكتب المطبوعة، شعر ناسخو الكتب بالقلق، وكان رأى البعض أن تلك من علامات الساعة، وأن الكتابة والأدب سوف يتلاشا وينهارا، لكن الذى حدث العكس، ازدهرت الثقافة وصارت الصحف والمطبوعات مصدرا مهما للمثقفين وللأدب الرفيع،و أكثر من ذلك أتاحت لنا المطبعة، قراءة الكثير من الأعمال التراثية، وانتشر منه التحقيق، تحقيق المخطوطات العربية، نشأت مدارس فى هذا المجال، ولم يكن ذلك متوفرا من قبل.

الوسائل الجديدة يمكن أن تكون مفيدة لنا، المهم أن نعمل على تعظيم الفوائد ونحد من مخاوفنا.

الثقافة أقوى وأقدر على مواجهة التحديات والاستفادة بكل ما هو جديد بل هضمه والإضافة إليه.