الأربعاء 17 يوليو 2024

مائة عام علي رحيله كافكا.. الحياة بعد الموت


ياسر ثابت كاتب مصري

مقالات12-7-2024 | 21:27

ياسر ثابت كاتب مصري

أصبح  فرانز كافكا رمزًا ثقافيًا لدرجة أن كتاباته الأكثر خصوصية أو غموضًا بلغت آفاقًا واسعة بعد أن فارق الحياة، وذلك بفضل صديقه ماكس برود الذي نشر أعماله.

تمكن الجمهور من قراءة كل ما يتعلق بكافكا، من مذكرات أو رسائل أو ملاحظات غير منشورة أو أقوال مأثورة محيرة أو زلات محادثة أدلى بها أثناء وفاته. 

وقد ذكر ماكس أن كافكا لم يُنهِ أيًّا من رواياته، وأنه قد أحرق عددًا كبيرًا منها، وكان أكثر ما أحرقه مما كتبه خلال فترة وجوده في برلين، تلك الفترة التي صنعت شخصيته، وأبرزت ملامحه الروائية.


نظرًا لأن الكثير من أعماله متاحة للقراء (حتى أن مجموعة مختارة من المستندات من وظيفته اليومية في معهد التأمين ضد حوادث العمال تمت ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية)، فقد يكون من الصعب معرفة من أين تبدأ إذا كنت ترغب في تجربة القراءة له لأول مرة. 
نقطة الدخول
بحلول الوقت الذي توفي فيه في 3 يونيو 1924 عن عمر يناهز الأربعين، كان كافكا قد كتب ثلاث روايات -المحاكمة، والقلعة، وأمريكا- لكنه لم ينته أو ينشر أيًا منها، باستثناء مقتطفين منها. واليوم، وبعد بعض المداخلات التحريرية، أصبحت الروايات الثلاث سهلة القراءة تمامًا، كما أن استنتاجاتها المجزأة والغامضة مثيرة للاهتمام.

ابدأ برواية "المحاكمة": إنها واحدة من قصص كافكا الأكثر شهرة عن المحاكم الغامضة والأحكام المبهمة والبيروقراطية الغامضة، وهي تجذب القارئ من خلال اللعب بأعراف الخيال البوليسي. ويتلخص كلا الجانبين في الجملة الافتتاحية الشهيرة: في ترجمة مايك ميتشل، "لا بدَّ أن شخصًا ما كان يروي حكايات عن جوزيف ك، ففي صباح أحد الأيام، تم القبض عليه دون أن يرتكب أي خطأ".


كتب كافكا العشرات من المقالات القصيرة، والتي تراوحت في طولها من مجرد بضعة أسطر إلى الروايات الكبيرة. وتتراوح أعماله بين القصة القصيرة، والرواية، والرسائل، بالإضافة إلى المقالات والمقابلات الصحفية، ولم تُحصر أعماله التي كتبها حصرًا دقيقًا لأنه كان مزاجيًا، وغير مسؤول حينما يتعلق الأمر بالاحتفاظ بما كتبه، فقد كانت علاقته مع العمل تنتهي بمجرد أن يفرغ منه، ونسبة للأرق الذي أصابه طوال حياته، كان يسلي نفسه بإشعال النار في تلك الكتابات، وهذا ما ذكره هو نفسه بوضوح في مذكراته في مارس 1912، وفي 15 أكتوبر 1921، وفي يناير 1922.

ورغم شخصيته المضطربة والمزاجية، فإنه كتب أعمالًا صُنّفت على أنها مخيفة، ومرعبة، وكابوسية وأفضل ما كُتب في الأدب العبثي. ومن أهم ما كتبه رواية "المسخ"، و"القلعة"، و"المحاكمة"، و"المفقود"، و"أميركا". وكان من رسائله المشهورة "رسالة إلى الوالد" وكتب بعض الرسائل بالتشيكية، ومنها تلك الرسالة التي كتبها إلى عشيقته ميلينا. 
تعتبر أعماله من بين أفضل الأعمال القصصية في العالم، وهي تغوص في أعماق النفس البشرية، فتعرّيها، وتزيح عنها كل غطاء، وتطليها بألوان حالكة، ومن ثم تُصوّر رحلة الإنسان الوجودية على أنها رحلة إلى المجهول، والعدم، أو العبث، فالحياة كما يراها كافكا عدمية، وعبثية، وسوداوية، وكابوسية ولا فائدة منها. وهذا ما جعل أعماله تُوضع من قِبل النقاد والمختصين في خانة الأعمال الكابوسية المخيفة.
حاول كافكا أن يعكس تجربته في الحياة من خلال نصوصه، لذلك نقل علاقته السيئة مع أبيه في كتابه "رسالة إلى الوالد"، أما تجاربه العاطفية الفاشلة، والتي كان يقف مرضه "بالسل" عائقًا أمامها، عبّر عنها في رسائله إلى ميلينا، وبخصوص قلقه الدائم، وشعوره بالاغتراب عن ذاته أولًا وعن أسرته والعالم ثانيًا، عبّر كافكا عن هذه التجربة من خلال رواية "المسخ". وتقوم جُلّ أعماله على فكرة التشاؤم، والانسحاب من حياة بائسة إلى حياة أخرى أكثر بؤسًا وألمًا وتشظيًا لا حدود له.


يشير رونالد غراي في كتابه "فرانز كافكا" (ترجمة: نسيم مجلي، المجلس الأعلى للثقافة، 2013) إلى أن اسم كافكا أصبح كلمة دالة على فظائع القرن العشرين، إذ يُمثل كافكا نموذجًا متطرفًا للكاتب الذي سلّم نفسه لكل القوى القادرة على تدمير الإنسان، من دون أي محاولة منه لإعاقة طريقها بالوعي، ويبدو العالم من خلال نصوصه عالمًا باليًا متكررًا على نحو ما، تكون فيه الذات محتقرة، وغير ذات معنى ولم ترتقِ لمرحلة الإنسانية بعد، ولتصل الذات لمرحلة الإنسانية عليها خوض رحلة كابوسية مخيفة، ليس من أجل استعادة وعيها، وإنما للدخول في مزيد من الكوابيس والفظائع. 


ويعترف غراي في نهاية كتابه بأن عملية المسح الشاملة التي قام بها لأعمال كافكا تفرض هذه النتيجة، وهي أن الشيء الوحيد الذي نجح كافكا في صياغته بطريقة تضمن له البقاء هو موضوع تحقيره ذاته منعكسًا في شكل روائي، فليس هناك شيء آخر مرئي في أعماله الروائية غير هذا التحقير. ولكن رحلة تحقير الذات نفسها ليست سهلة، فهي رحلة شاقة، متعبة، وتحيط بها الفجائع، والتحولات، والمآسي، وكل ما من شأنه أن يجعلها سوداوية وبائسة.
الحياة بعد الموت
مات كافكا مريضًا بالسل، ولكنه قبل أن يموت كتب لعشيقته ميلينا قائلًا: "حياة الكتاب تبدأ بعد موت مؤلفه، أو بالأغلب بعد وفاته بفترات، فأولئك الرجال التوّاقون يحاربون من أجل قصصهم، وحتى بعد موتهم، لكن حينها فقط يُترَك الكتاب لوحده، ويبدأ يستمد القوة من ضربات قلبه". وهذا ما حدث معه تمامًا، فقد اشتهرت كتبه بعد وفاته، ونُشِرت على نطاق واسع، لتدرّس في الجامعات، ولتعيش رواياته وقصصه حياتها من ضربات قلب روحه. وليصبح بذلك رائدًا للكتابة العبثية والكابوسية في العالم بلا منازع.  
في كتابها Metamorphoses: In Search of Franz Kafka  (Profile Books, 2024) تقترح الأكاديمية وخبيرة كافكا كارولينا واتروبا بعض الطرق الجيدة لقراءة كافكا. نصيحتها الأولى للقارئ هي البدء بالأعمال التي نُشِرت في حياة كافكا، والتي تم جمعها بشكل ملائم في كتاب Penguin’s Metamorphosis and Other Stories. ستجد قصصًا مشهورة مثل The Judgment وIn the Penal Colony، إلى جانب الكثير من القصص الجذابة والمضحكة التي تحتوي على صفحات واحدة. مفضلتي الشخصية، "رسالة من الإمبراطور" و"مخاوف رب الأسرة"؛ إذ تُقدِّمان موضوعين رئيسيين في روايات كافكا - افتتانه بالاختلاف الثقافي، سواء التشيكي أو الصيني، والمخلوقات المجسمة الغامضة.
من بين روايات كافكا الثلاث، تعتبر "القلعة" هي الأصعب في قراءتها، ليس فقط لأنها الأطول. محاطًا بمناظر طبيعية ثلجية قمعية، يسعى بطل الرواية - المعروف فقط باسم K. - إلى الوصول إلى القلعة الفخرية، وهي مؤسسة غامضة يلفها الضباب. الرواية دائرية ومرهقة، لكن هذا هو بيت القصيد. إذا استسلمت لهذه الكلاسيكية من رهاب الأماكن المغلقة، فسوف تواجه شتاءً لا نهاية له في قرية غير مضيافة تكيف سكانها مع الحياة في ظل آلة بيروقراطية معقدة.
لتذوق شيئا مختلفا عن عناوين كافكا "الكلاسيكية"، جرب Amerika، المعروفة أيضًا باسم الرجل الذي اختفى. في بعض الأحيان، تتبع الرواية بطلها المراهق في رحلة محفوفة بالمخاطر عبر الولايات المتحدة في أوائل القرن العشرين، حيث ترتفع ثروته وتنخفض (الأخيرة في الغالب - إنه كافكا، بعد كل شيء). الإعداد واقعي إلى حد كبير، مع بعض العناصر الخيالية التي تم طرحها، مما يسمح لكافكا بتوجيه انبهاره المخيف بالتكنولوجيا الحديثة وحياة المدينة الكبيرة.
القصة من الداخل
كان والد كافكا رجلًا فظًا من الطراز القديم، وكان عليه أن يكافح من أجل الخروج من الفقر. لقد وجد الطبيعة الحساسة والطموحات الأدبية لابنه الوحيد محيرة ومزعجة. في سن السادسة والثلاثين، كتب له فرانز رسالة طويلة، وصف فيها تفاصيل أحداث الطفولة والسلوكيات المؤذية. لم يقرأ والده أبدًا دراسة الحالة المثيرة هذه في علم النفس الفردي وديناميكيات الأسرة - ولكن يمكنك ذلك!
للحصول على جانب آخر من جوانب كافكا، اتبع خطى Gen Z BookTokkers الذين يضعونه في مرتبة عليا باعتباره ... العاشق المثالي. رسائل كافكا إلى ميلينا دفعت الفتيات المراهقات إلى وصفه بأنه "الحد الأدنى": الرومانسي اليقظ الذي سيرسل لك رسائل مدروسة. كانت هذه في الواقع عامل الجذب الرئيسي إذا كنت متورطًا في علاقة عاطفية مع كافكا - فقد كان خائفًا جدًا من القيود الصارمة للزواج البرجوازي لدرجة أنه ألغى ثلاثة ارتباطات (مرتين مع نفس المرأة). تستحق ميلينا جيسنسكا الاهتمام ليس فقط باعتبارها عشيقة لكافكا، ولكن أيضًا كصحفية ومترجمة وناشطة سياسية في حد ذاتها.
"عندما استيقظ غريغور سامسا ذات صباح من أحلام مزعجة، وجد نفسه قد تحول هناك في سريره إلى حشرة هائلة الحجم". هكذا تبدأ ترجمة سوزان بيرنوفسكي لكتاب The Metamorphosis (واحدة من بين الكثير من النصوص التي يمكنك الاختيار من بينها). أصبحت هذه القصة، ذات التنظيم المحكم والعميق، عدسة لدراسة جميع أنواع الأزمات الشخصية والاجتماعية والسياسية. الإرهاق، الأمومة، العرق، الحرب، الوباء، الدكتاتورية، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي - تمت إعادة كتابة كتاب "المسخ" (أو "التحول") وتكييفه بطرق لا حصر لها من قبل ليمن سيساي، وراشيل يودر، وإيغوني باريت، وهاروكي موراكامي، وبرونو لاتور، وإيان ماك إيوان، وهان كانغ، ويوكو تاوادا، من بين عدة آخرين.
"غريغور"، هذا العامل البسيط، البائس بوظيفته التي تجبره علي الاستيقاظ باكرًا ليلحق بقطاراته كي يجوب المدن بائعًا جائلًا في شقاء يومي متكرر، بالكاد يحقق له دخلًا يستطيع به أن يعول أسرته. ويجري كافكا هذا الحدث غير الواقعي، وغير محتمل الوقوع، في مسارات واقعية تمامًا، موهمًا القارئ بصدق هذا الكابوس، والذي تمنَّى "غريغور/ المتحول" أن يكون هذا مجرد حلمًا مزعجًا سرعان ما يستيقظ منه، لكنه أيقن بتوالي الأحداث استحالة أمنياته. عندما ترتعش أطرافه المفصلية الحشرية في محاولاته اليائسة للنهوض من فراشه حيث تسبب له الألم، وعندما يضطر للرد علي أسرته القلقة بسبب تأخره في النوم علي حالته الجديدة، ويصافح مسمعيه هذا الصوت الرفيع الغريب الذي هو بالتأكيد صوته غير البشري.
ولا تقتصر مأساة هذا البائس فيما بعد في عجزه عن المواءمة مع هذا التحول القدري، بل تتعداه إلى موقف الأسرة السلبي منه ـ فيما عدا أخته التي كانت تؤثره في محنته ـ حين تبتعد عنه مع مرور الوقت وتفاقم أزمته الوجودية، ثم هي تدفعه للاختفاء بعيدًا عن الأعين، ثم وهي تبلور مشاعرها لمشاعر باردة وغير إنسانية بالمرَّة، برغبة جماعية في التخلص منه، حتى ولو كان الثمن هو الموت، فالارتباط المادي الذي يربطهم به قد انقطع صبيحة التحول الحشري مع توقفه عن العمل. بالفعل يموت "غريغور"، ماذا يمكنه أن يفعل غير الموت؟، بعد أن أرهق كافكا القارئ بالتفصيلات الحياتية اليومية الكابوسية، التي تؤكد أن مجرد البقاء علي هذه الصورة أمرًا مرعبًا وغير محتمل، وأن الانتحار هو الحل الوحيد الممكن.