الأربعاء 17 يوليو 2024

كيف يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل هويتنا الثقافية؟


علي فرجاني

مقالات13-7-2024 | 10:51

علي فرجاني

شهد العالم طفرة تكنولوجية ومعلوماتية غير مسبوقة، أحدثت تحولاً جذرياً في أنماط الحياة والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية. هذه الثورة، التي امتدت تأثيراتها من فضاء الاتصالات إلى الثقافة والتجارة والتسويق، والتي غيرت بشكل كبير طريقة تفاعل الأفراد والمؤسسات مع بعضهم البعض ومع العالم. وفي قلب هذه التحولات، لعب الذكاء الاصطناعي دوراً محورياً، مقدماً إمكانيات هائلة لتطوير المجتمعات، لكنه أيضاً أثار مخاوف جادة بشأن تأثيره على الثقافة.

كان للتكنولوجيا تأثير كبير على الثقافة، وأبرزها تحسين الوصول إلى الموسيقى والفن والأفلام والاخبار بطريقة لم يشهدها أي جيل من قبل. بمجرد تمرير الشاشة أو النقر بالماوس، توجد موسوعة شاملة من المعرفة متاحة لنا جميعًا. أصبحت الثقافة والتكنولوجيا الآن مرتبطتين بشكل كبير ويستمران في التأثير على بعضهما البعض، مما يسمح للمستهلكين بربط الناس في جميع أنحاء العالم ببعضهم البعض.

لقد تغيرت الطريقة التي نستخدم بها التكنولوجيا لاستهلاك الثقافة بشكل جذري في السنوات الأخيرة. اليوم، يختار الأشخاص تنزيل كل شيء أو بثه مباشرة من منازلهم. تتيح لنا التكنولوجيا الآن الفرصة لتقديم خدمة أفضل للعملاء، وتحسين مشاركة الجمهور، وتوليد أفكار مبتكرة.

تأثير الذكاء الاصطناعي على الثقافة

في خضم ثورة التكنولوجيا التي تُغرق عالمنا، يبرز الذكاء الاصطناعي كقوة ثورية تُعيد تشكيل مختلف جوانب حياتنا، بما فيها الثقافة. بينما تُقدم هذه التقنيات إمكانيات هائلة للتعبير والإبداع، تُثير مخاوف حول تأثيرها على الهوية والتنوع والعدالة.

وتوصل روي وستيفانون اللذان بحثا في تأثيرات الهوية الثقافية والجمهور على العرض الذاتي عبر الإنترنت، إلي أن عوالمنا على الإنترنت تعكس بيئاتنا الثقافية غير المتصلة بالإنترنت، مع إبراز بعض الاختلافات الهيكلية المثيرة للاهتمام.

إمكانيات هائلة للتعبير الثقافي

يُتيح الذكاء الاصطناعي أدوات جديدة للتعبير الثقافي، حيث تُستخدم خوارزمياته لابتكار أشكال فنية جديدة، وترجمة اللغات، وإعادة صياغة التاريخ. حيث يمكن لخوارزميات الذكاء الاصطناعي تأليف موسيقى جديدة بأسلوب فنانين محددين، أو دمج موسيقى من مختلف الثقافات، أو إنشاء مقاطع موسيقية تُلائم عواطف معينة.

كما يمكن لخوارزميات الذكاء الاصطناعي إنشاء لوحات فنية جديدة بأسلوب فنانين محددين، أو دمج عناصر من لوحات مختلفة، أو إنشاء لوحات تُعبّر عن أفكار أو مشاعر معينة.

فضلا عن الإمكانات الهائلة التي تقدمها خوارزميات الذكاء الاصطناعي في كتابة قصص وروايات جديدة بأسلوب كتاب محددين، أو دمج عناصر من روايات مختلفة، أو إنشاء قصص تُلائم موضوعات أو أفكار معينة، بالإضافة إلى ترجمة النصوص من لغة إلى أخرى بدقة عالية، مما يُسهل التواصل بين الثقافات المختلفة.

كما يمكن لخوارزميات الذكاء الاصطناعي تحليل كميات هائلة من البيانات التاريخية، وتقديم رؤى جديدة حول الأحداث والشخصيات، وإعادة صياغة التاريخ من منظور مختلف.ً

علم النفس السيبراني والثقافة الرقمية

علم النفس السيبراني Cyber psychology هو دراسة العقل والسلوك البشري وكيف تؤثر ثقافة التكنولوجيا –على وجه التحديد- الواقع الافتراضي، ووسائل التواصل الاجتماعي عليهم. تركز الدراسات البحثية السائدة على تأثير الإنترنت والفضاء السيبراني على نفسية الأفراد والجماعات. إذ تتضمن بعض الموضوعات الساخنة: الهوية عبر الإنترنت، وأنواع الشخصية في الفضاء السيبراني، والانتقال إلى أجهزة الكمبيوتر، والإدمان على أجهزة الكمبيوتر والإنترنت، والسلوك في الفضاء السيبراني، ويعتبر علم النفس السيبراني تخصصا ناشئا وفقا لجمعية علم نفس وسائل الإعلام والتكنولوجيا الخاصة بجمعية علم النفس الأمريكية.

بينما تستند البحوث الإحصائية والنظرية في هذا المجال حول استخدام الإنترنت، فإن علم النفس السيبراني يشمل أيضاً دراسة التداعيات النفسية للروبوتات والذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي. وعلى الرغم من أن بعض هذه الموضوعات قد تبدو وكأنها من ضرب الخيال العلمي، إلا أنها سرعان ما أصبحت حقيقة علمية كما يتضح من المناهج متعددة التخصصات في مجالات علم الاحياء والهندسة والرياضيات يظل مجال علم النفس السيراني مفتوحاً للتنقيح. بما في ذلك الاستفسار عن طبيعة الاتجاهات الحالية والمستقبلية للأمراض العقلية المرتبطة بالتقدم التكنولوجي.

تتداخل الثقافة الرقمية مع علم النفس السيبراني بشكل وثيق، حيث تُؤثّر الثقافة على سلوكنا في الفضاء الرقمي، بينما يُساهم علم النفس السيبراني في فهم كيفية تشكيل التكنولوجيا الرقمية لثقافتنا.

التواصل: تختلف طريقة تواصلنا عبر الإنترنت باختلاف الثقافات، ففي بعض الثقافات يُفضّل التواصل المباشر، بينما يُفضّل في ثقافات أخرى التواصل المكتوب.

استخدام وسائل التواصل الاجتماعي : تختلف طريقة استخدامنا لوسائل التواصل الاجتماعي باختلاف الثقافات، ففي بعض الثقافات تُستخدم هذه الوسائل للتواصل مع العائلة والأصدقاء، بينما تُستخدم في ثقافات أخرى للترويج للأعمال التجارية أو التعبير عن الآراء السياسية.

الألعاب الإلكترونية: تختلف أنواع الألعاب الإلكترونية التي نُفضّلها باختلاف الثقافات، ففي بعض الثقافات تُفضّل الألعاب القتالية، بينما تُفضّل في ثقافات أخرى الألعاب الاستراتيجية أو الألعاب التعليمية.

دوافع استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وعلاقتها بالنشاط الثقافي

يشير فحص دوافع استخدام وسائل التواصل الاجتماعي إلي 4 أسباب عامة: الأول يسمى "المعلومات الترفيهية" وهو مصطلح واسع يشمل استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للبقاء على اتصال مع الأصدقاء والعائلة، من أجل الترفيه والبقاء على اطلاع عن الأحداث والأنشطة، ويمكن أيضاً أن تكون وسائل التواصل الاجتماعي أداة اجتماعية تستخدم للعثور على أشحاص لديهم اهتمامات مماثلة، ويعد مرور الوقت سبباً إضافياً لاستخدام وسائل اتواصل الاجتماعي.

وتُثير هذه التطورات مخاوف حول عدة مسائل ثقافية هامة ومنها :

التنوع والتمثيل

قد تُعزز أنظمة الذكاء الاصطناعي التحيزات الثقافية الموجودة مسبقًا، حيث تعتمد على بيانات تمّ جمعها من قبل أشخاص ينتمون لثقافات محددة.

مثال: قد تُظهر أنظمة الذكاء الاصطناعي صورًا نمطية للأشخاص من مختلف الثقافات، أو تُقدم معلومات غير دقيقة عن تاريخ وثقافات معينة.

الهوية الثقافية

قد تُهدد هيمنة تقنيات الذكاء الاصطناعي على مختلف مجالات الحياة الثقافية، من الفنون إلى التعليم، بتنوع الهويات الثقافية وتفردها.

مثال: قد تُصبح جميع أشكال الفن مُوحّدة نتيجة استخدام نفس خوارزميات الذكاء الاصطناعي، أو قد تُصبح جميع مناهج التعليم مُوحّدة نتيجة استخدام نفس أنظمة الذكاء الاصطناعي.

الوصول والتحكم

قد تُخلق الفجوة في الوصول إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي فجوة ثقافية، حيث تُحرم فئات معينة من فرصة المشاركة في إبداعها والاستفادة من إمكانياتها. 

التحديات المتعلقة بالبيانات والخصوصية

إن التعامل مع البيانات الضخمة والمعقدة المطلوبة لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي يثير قضايا هامة حول الخصوصية والتحيزات المحتملة. يمكن أن تؤثر كيفية إدارة هذه البيانات بشكل كبير على نتائج تطبيقات الذكاء الاصطناعي، مما قد يؤدي إلى زيادة التحيزات المجتمعية القائمة أو خلق أشكال جديدة من عدم المساواة.

أصبح نمط التدفق الهائل للبيانات لا يقل أهمية عن قيمة هذه البيانات، إذ ترسم طرق الحصول على هذه البيانات، ونمط تدفقها، شكل السلطة والقوة، حيث تنقسم إلى بيانات مجانية متوافرة لمن يريدها وأخرى تجارية متوافرة لمن يرغب بالدفع. وهناك المعلومات الإستراتيجية المتوافرة لمن يسمح له فقط بمعرفتها. ونظراً للطبيعة غير المادية للبيانات فإن وضعها في الفضاء الإلكتروني يجعلها متوافرة ومتاحة للجميع عالمياً من خلال شبكة من التواصل والعلاقات بين من يستخدمونه ويتفاعلون معه. وتزداد أهمية هذه الخاصية مع انتقال كافة مجالات الحياة، من إعلام وصحة وتعليم واقتصاد وسياسة، إلى هذا الفضاء الإلكتروني.

إنتاج الذكاء الاصطناعي للنصوص والصور

تتزايد قدرة نماذج الذكاء الاصطناعي على إنتاج نصوص وصور تبدو واقعية، ولكنها قد تكون مضللة. هذا يشكل خطراً كبيراً عند استخدام الذكاء الاصطناعي لتقديم النصائح الصحية أو المعلومات الهامة دون إشراف بشري. يمكن أن تزيد هذه الأنظمة من سهولة إنتاج المعلومات الزائفة بكميات كبيرة، مما يؤدي إلى تشويه الواقع نفسه وهذا يشكل خطراً خاصاً في فترات الانتخابات.

إضافةً إلى ذلك، فإن الذكاء الاصطناعي قادر على تأليف نصوص وصور تبدو صحيحة، لكنها في الواقع مليئة بالمعلومات المضللة. هذا الأمر يصبح أكثر خطورة عندما يتم استخدام هذه التقنيات في المجالات الحساسة مثل الصحة أو القرارات السياسية، حيث يمكن أن تكون للعواقب أضرار جسيمة على الأفراد والمجتمعات.

نماذج ماهرة وأدوات كشف عاجزة

لقد تم تدريب النماذج اللغوية الكبيرة على مجموعة بيانات تم الحصول عليها من الإنترنت، بما في ذلك جميع الأشياء المسيئة والمزيفة والخبيثة التي كتبها البشر على الإنترنت. وبالتالي، فإن النماذج النهائية تعيد إطلاق هذه المعلومات المزيفة كحقائق، وينتشر إنتاجها في كل مكان على الإنترنت. وعندما تقوم شركات التكنولوجيا بمسح الإنترنت للحصول على النصوص التي كتبها الذكاء الاصطناعي لاستخدامها في تدريب نماذج لغوية أكثر ضخامة وأعلى قدرة على الإقناع، والتي سيستخدمها البشر لتوليد المزيد من الهراء قبل جمعها واستخدامها لتدريب نماذج أخرى، وهكذا. وتمتد هذه المشكلة، أي تلقيم الذكاء الاصطناعي بمخرجات من إنتاجه في حلقة مفرغة لإنتاج مخرجات أسوأ، إلى نطاق الصور أيضاً.

وختامًا يجب على الحكومات والمؤسسات العلمية تطوير أطر تنظيمية وأخلاقية شاملة تحكم استخدام الذكاء الاصطناعي. يمكن أن تشمل هذه الأطر قواعد صارمة حول جمع البيانات واستخدامها، وحماية خصوصية الأفراد، ومكافحة التحيزات في النماذج الخوارزمية.

ومن الضروري توعية المجتمع بأهمية الاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي. يمكن تحقيق ذلك من خلال حملات إعلامية وبرامج تعليمية تهدف إلى رفع مستوى الوعي بالتهديدات المحتملة وتعزيز المعرفة بالطرق الفعالة لحماية الخصوصية.

تطوير أدوات كشف فعالة

يجب الاستثمار في تطوير أدوات وتقنيات قادرة على كشف النصوص والصور المزيفة التي ينتجها الذكاء الاصطناعي. يمكن لهذه الأدوات أن تعتمد على تقنيات التعلم الآلي المتقدمة لتحليل وتقييم المحتوى الرقمي بشكل دقيق وسريع.

البحث والتطوير في الذكاء الاصطناعي المسؤول

يجب دعم البحث والتطوير في مجال الذكاء الاصطناعي المسؤول، الذي يركز على تطوير نماذج خوارزمية شفافة وعادلة وقادرة على التفاعل بشكل آمن مع المستخدمين. يمكن تحقيق ذلك من خلال تمويل الأبحاث وتقديم الحوافز للشركات التي تلتزم بممارسات الذكاء الاصطناعي الأخلاقية.

يجب العمل على بناء القدرات البشرية في مجال الذكاء الاصطناعي من خلال برامج التعليم والتدريب المتقدمة. يمكن أن يسهم ذلك في توفير قاعدة قوية من الخبراء القادرين على تطوير وإدارة تقنيات الذكاء الاصطناعي بطرق مسئولة.

تعد الثورة التكنولوجية والمعلوماتية التي شهدناها في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين بداية لعصر جديد من التحديات والفرص. وفي ظل التقدم المستمر في تقنيات الذكاء الاصطناعي، يبقى التحدي الأكبر هو كيفية استخدام هذه الأدوات بشكل يعزز من تطور البشرية ويحافظ على القيم الإنسانية الأساسية. من خلال التعاون بين المجتمعات العلمية والحكومات والأفراد، يمكننا بناء مستقبل تكنولوجي أكثر أماناً وتوازناً يلبي احتياجات الجميع ويحترم التنوع الثقافي والإنساني.

ومما سبق يتضح لنا أن الإنترنت بما تضمه من تقنيات تعتبر أداة إنسانية تعمل على تآكل الاختلافات الثقافية، وخلق وعي عالمي جديد قد يؤدي إلى محو الاختلاف الثقافي.